من دمشق.. من قلب نابض

هذه مقاطع من رسالة وصلت إلي من صديقة دمشقية، اسمها نجوى. كتبَتها في عزّ معركة الغوطة الشرقية:

(…) لا جديد تحت سماء دمشق، سوى الأخبار التي تتابعينها لا شك… الأوضاع تزداد سوءاً. (…) إن أكبر كذبة هي الهدنة، المعركة محتدمة لا تهدأ ليل نهار. أخبرتني السيدة التي تأتي إلينا أسبوعياً لتنظيف المنزل أن زوجها، وهو موظف بسيط طلبوه على قائمة الإحتياط في الخدمة العسكرية، إذ إن الدولة طلبت من عمر 30 – 40 للالتحاق، وشمل هذا حتى من كان قد أدى الخدمة العسكرية.. قالت لنا السيدة إن زوجها كان يدفع للضابط المسؤول عنه 160 ألف ليرة شهرياً كي يدعه مع عائلته بدمشق، على أن يلتحق في أوقات التفتيش التي سيخبره بها! ولما سألتَها من أين تأتون بهذا المبلغ الكبير، قالت إن راتب زوجها من الدولة هو 45 ألف ليرة، والدولة أضافت 15 ألفا على الراتب لمن يلتحق بالخدمة العسكرية، وأنها كانت تكدح، هي وزوجها، طوال الشهر لتأمين 100 ألف، بحيث يأخذ الضابط 160 ألفا! وتتابع السيدة، ما حصل أنه ومنذ بداية عام 2018 أخبر هذا الضابط زوجها بأنه لم يعُد بإمكانه التستّر عليه، وذلك إثر إقالة وزير الدفاع بعد فضيحة تقاضيه رشاوى هو وكبار ضباطه من أجل إعفاء أشخاص أو التغاضي عن آخرين في موضوع الخدمة العسكرية.. هكذا التحق زوجها بقطعة عسكرية على طريق دمشق – درعا، وتقول إنها شعرت بالسعادة لأن المنطقة شبه آمنة.. ولكن فرحتها لم تكتمل، إذ تمّ أمر التحاق الفرقة التابعة لزوجها بالكتائب التي تقاتل في الغوطة، إلى جانب الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، وكتائب حزب الله والروس الذين يقودون المعركة..

إقرأ ايضا: علاء الأسواني و«جمهورية كأنّ»

قبل أسبوعين، وبعد توسّلات كثيرة، سمح الضابط لزوجها بإجازة 24 ساعة، بعد أن رجاه أن يرى زوجته وأولاده، لأنه يخشى أن يموت في معركة الغوطة.. وهكذا قضى معهم يوماً كاملاً وعاد للالتحاق، وأخبرها أن أكثر ما يعذّبه هو إطلاق النار على الناس الأبرياء.. كما قال إن  “مقاطع من رسالة من صديقة دمشقية كتبَتها في عزّ معركة الغوطة الشرقية”
كل ما يقوله الإعلام عن المعابر الآمنة كذب، وإن النظام يقتل الشبان ويرسل كبار السن والأطفال إلى إدلب، وهناك أعداد قليلة جداً عبرت فعلاً إلى أماكن إيواء في العاصمة.. وإنه تجري مفاوضات من أجل أن يخرج المسلحون بأموالهم، التي تفوق الآن 80 مليون دولار.. ثروة كبيرة كانت المعارضة المسلحة تدفع منها الرواتب للناس الذين يعيشون تحت سيطرتها في الحصار، مقابل أن يعملوا معها في حمل السلاح أو حفر الأنفاق وغير ذلك، وإن الجنود والضباط على حواجز النظام كانوا يتقاضون أموالاً طائلة للسماح للأغذية والأموال والسلاح بالدخول إلى الغوطة! إضافة إلى ما يتم تسريبه عبر الأنفاق.
البارحة توالت القذائف في مختلف المناطق في العاصمة، محيط دار الأوبرا كان مستهدفاً بشكل كبير، منذ العاشرة والنصف بدأت القذائف بالتساقط، مكتبي القريب من النافذة تصل إليه الأصوات مروّعة. ابتعدت عن مكان جلوسي قرب النافذة، ثم لم ألبث أن هربت من المكتب إلى البهو. موظفة في دار الأوبرا سارعت إلى الخروج، خوفاً من ازدياد التصعيد. ولكن للأسف ما إن خطت نحو الباب الرئيسي، وقبل الوصول إلى سيارتها، سقطت قذيفة إلى جانبها وأدت إلى مقتلها، ولم يتمكّن الأطباء من إسعافها. وصل إلينا الخبر، ونحن محبوسون داخل مبنى مؤسستنا، المجاور لدار الأوبرا. حينها لم يعُد أحد يجرؤ على الخروج، خصوصاً أن القذائف كانت تزداد، كل ربع أو نصف ساعة قذيفة.. اتصلتُ بحرس الدار فنصحوني بعدم المغادرة، إلا عندما يحلّ الظلام، إذ قد تتوقف القذائف حينها.
مررتُ بمكتب رئيس دائرتنا فوجدتُ الباب مفتوحاً، وقد خرج الرئيس إلى حرم المؤسسة ليهدىء من روع الموظفين الصغار الذين تركوا القاعات المكشوفة، وتجمعوا في النقطة التي اعتقدوا أنها الأكثر أمناً، وهي “الكوريدور” الرئيسي.. عند عودته، دخلتُ معه المكتب، كانت الشاشة الضخمة في مكتبه مفتوحةً على برامج الفضائية السورية، ويا للمفارقة، في خضم الكارثة، وبينما كانت القذائف تنهمر من كل حدبٍ وصوب، كان مراسل الفضائية يقف كل مرة في أحد شوارع العاصمة، يستوقف الناس عنوة، بينما هم يسرعون الخطى، أو يلوذون بالفرار بسياراتهم، يستوقفهم ليسألهم رأيهم بما يجري! والمساكين، يقولون والرعب بادٍ على وجوههم، إنهم صامدون، ويناشدون الدولة بالقضاء على الإرهابيين في الغوطة بأسرع وقت ممكن. رجل تبدو سيماء الغباء على وجهه، قال للمذيع إنه يريد أن يأخذ صورة “سيلفي” مع القذائف، فأجابه المذيع الذي كان ينافسه بالغباء: “والله فكرة لم تخطر في بالي، خليني أنا كمان آخد سيلفي”!.

ماذا أقول لك.. القصف لا يهدأ، وتحليق الطيران لا يهدأ.. والمدفعية لا تهدأ.. حتى عندما أعلنوا عن وقف إطلاق النار، التزموا بذلك ثلاثة أيام من التاسعة صباحاً حتى الثانية.. قبل التاسعة نستيقظ فجراً على هدير الطيران والقصف، يتصرفون كالحريص على وقته، فالوقت من ذهب! كمن يريد أن يستغل كل دقيقة، أن لا يوفّر لحظة قتل واحدة، كمن يريد أن يلحق إنجاز ما يريد، وقد تداركه الوقت. بعد هذه الأيام الثلاثة، عادت المعارك كما كانت، لا زمن لها. النظام هو من يرمينا بالقذائف، وليس “كتيبة نساء الغوطة” كما تم الترويج من أجهزة إعلامه، النظام هو الذي يقتلنا ليبرّر دخوله إلى الغوطة، وهناك من صدّق الكذبة. والكل يسارع بالقول، نرجو من الدولة أن تسارع للحسم في الغوطة والقضاء على الإرهابيين! يا لهول المنظر، القذائف قتلت مدنيين على الرصيف، ومنها ما وقع فوق تاكسي.. كنت أفكّر لماذا لم تقع القذيفة ولا مرة على حرس دار الأوبرا، بينما سقطت وقتلت أكثر من مرة الموظفين المارّين بالقرب من هؤلاء الحرس. لماذا لم تقع القذائف على حرس مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي يبعد عنا بضعة أمتار، أو على استوديوهات المبنى؟ أو على “مكتبة الأسد” أو فندق الشيراتون وهذه الأبنية لا يفصلها عنا سوى أمتار قليلة.. القذائف تقتلنا وكأن من يطلقها يرانا…

يومياً أمرّ من المكان نفسه الذي شهد سقوط القذائف من دار الأوبرا إلى عملي. هل أنا شجاعة، (…)، أم متهوّرة، أم أن الحياة و الموت أصبحا سيان عندي؟ أم أنني بحاجة إلى فترةٍ أتمكّن من خلالها من تقييم ما أفعل؟ لا أدري.. أواصل البقاء والعمل لأنني أؤمن بأن لا دور لي خارج المكان، ما زلتُ أؤمن أننا نبتدع حياتنا، نخترعها، كي لا نموت بسبب الواقع. لم أغيّر من برنامجي اليومي، لأنني أكره أن أشارك في تعليق نعوتي. إنه نداء الهاوية، إذ يحدث أن نقوم بعمل أو نخوض تجربة عيش ونحن متيقّنون بأنها سوف تقودنا إلى الهلاك، نسير وأعيننا مفتوحة، بكامل وعينا ويقظتنا نحوها، هو نداء الهاوية، فيه سرّ الوجود والعدم.. أعيش في قلب دمشق، ليس بعيداً عن المكان الأكثر دموية، عن جبل قاسيون، حيث ترتكز المدفعيات التي تطلق صواريخها باتجاه الغوطة الشرقية.. نشعر بارتجاج المنزل والأرض تحتنا فور خروج الصاروخ من فوهة المدفعية، نرى تصاعد الدخان، وتغزونا رائحة الشظايا، وربما رائحة الدماء، دماء جثث لا نراها، في الوقت الذي تتساقط فيه قذائف عشوائية تائهة، هجوم الهاون العشوائي والقذائف الصاروخية، يرعبنا من موت بمحض الصدفة. ماذا أنتظر سوى الموت.. وذاك اليوم الذي يتراجع في ذاكرتي المضرّجة بالدم (…).

المعركة تحرمنا من النوم. أريد أن أنام فقط، أكاد أنهار من قلة النوم، أعود طفلة صغيرة،”لماذا لم تقع القذائف على حرس مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي يبعد عنا بضعة أمتار؟”

أتذكّر عندما كنتُ أستنجد صائحة من كوابيسي الرهيبة، كيف كانت أمي تهرع لإيقاظي وهي تقول: لا تخافي أنا هنا.. اليوم أفكّر كم نحن بحاجة كلنا إلى من يهرع لإيقاظنا من هذا الكابوس الجاثم، ويهدْهِدنا قائلاً: لا تخافوا، أنا هنا.. نجلس ونترقب صوت المدفعية أو الانفجار أو القذيفة الصاروخية التالية، أربعة، خمسة.. عشرة حتى الآن.. لا يهم الرقم. لم يعد للأرقام أهمية.. فقدتْ قيمتها، وصوت المدفعية والهاون يضرب في الروح، وراء جدار الصدر تماماً. أكتب لك على إيقاع ثلاثي القتل المتناغم: الطيران- المدفعية – الصواريخ.. أفضل حلّ لمعادلة الموت اليومي المحتمل هو أن نعتبر أنفسنا ضيوفاً على هذه الحياة. هل الموت مباشرة إثر قذيفة أو غيرها هو الأفضل والأريح من الموت الذي نعيشه مئات المرات…؟ ولدنا مرة واحدة، ونألف أن نموت أكثر من مرة في ثنائية البيت والطريق.

مع حلول الذكرى السابعة للثورة، ورغم كل ما حصل، لن أفقد إيماني بها، لن أقرّ بالهزيمة، لا.. لم ينتصر النظام ولم ننهزم.. إن أفضل طريقة نحيي فيها ذكرى الثورة هي أن لا ننكأ الجراح.. أن نفهم موقعنا الجديد من الصراع، وقدرتنا على التأثير فيه، المكاشفات والمراجعات الحقيقية، والتفكير بأدوات عمل جديدة، وإنتاج معرفة وخطاب جديد.. أقول هذا ليس بسبب الحال التي وصلنا إليها، بل لأن الأمل هو قوة الضعيف المستعصية على المقايضة! (…)

إقرأ ايضا: دويلة عميقة أقوى من دولة سطحية

العصافير التي أصحو على زقزقتها يومياً، والتي لا يمكن أن تخطئ في التوقيت، هذه العصافير تمدّني بالقوة والأمل، نعم هي وحدها تنْتشلني من يأسي وإحباطي ربما. لكنها تلوذ بالصمت، تصمت فجأة عن الكلام والتحليق في هواء الصباح، ما إن تبدأ عاصفة الحديد الطائر وهديرها الفولاذي.. تشابه غير متعادل في الاسم والشكل.. جناحان من حديد، مقابل جناحين من ريش، رأس من حديد وكهرباء، مقابل رأس ومنقار من نشيد، حمولة من صواريخ وبراميل متفجرة، مقابل حبة قمح أو كسرة خبز وقشة! أنظر إلى هذه العصافير.. أتأملها من نافذة غرفتي، وأنا على يقين أنها تكلمني.. تفكّر معي في الحرب، لأن سماءها لم تعُد آمنة! (…)

السابق
وصول رئيس الحكومة سعد الحريري إلى مقر مؤتمر «سيدر1»
التالي
أهالي الموقوفين الإسلاميين لأحمد الحريري: ما تحملوا تاخدوا صوت واحد إذا ما صدر العفو العام