المسيح قام … من حلب

حلب

عندما كنت صغيراً لم أفهم الفصح إلا هدايا وبيض ملوّن وصيصان، ويوم الجمعة الحزينة، كانت أن أذهب مع الكبار إلى الكنائس، وأصلّي وأخفض رأسي أمام المسيح المسجّى، وأطلب منه أن يسامحني على أشياء لم أفهم معناها، ولا أعرف لمَ عليّ أن أطلب المغفرة لها (ولكن الكبار قالوا لي أن أطلبها من يسوع الذي لم أعرف أن أسمه أيضاً المسيح إلا عندما كبرت قليلاً)، وكان كل إهتمامي عندما كنت أقف محني الرأس – لأن الكبار هكذا علّموني – هو أن نخرج من الكنيسة إلى ساحة فرحات ليشتري الكبار لي كعكاً وبوشاراً (لأنني فعلتُ كما يريدون ولم أعذّبهم في التجوال).
كما كان عيد الفصح مناسبة لممارسة دوري كربّ أسرة صغير، فكنتُ أطعم الصوص الصغير المسكين ثلاثة وجبات، وعند المساء أقوم بغسلهِ بالماء والصابون (كما تفعل خالتي إيفيت التي ربتني وأمي)، ومن ثم أفرش له لينام، بعد أن أقوم بتجفيفه وعصره وتعطيره … وفي اليوم التالي أستيقظ فلا أجده، ويخبروني بأنه مات.
وانا بطفولتي لم أعِ الموت، وكل ما فهمته أنه مرحلة يغيب فيها الشخص لفترة من الزمن لن تتجاوز الا أياماً قليلة، يعود بعدها بشكل عادي.
اليوم أسترجع الذكريات الجميلة
دورة الكنائس في يوم الجمعة الحزينة
صوت فيروز الذي يشدني “اليوم عُلّق على خشبة”
الكبار أعضاء الجمعيات الخيرية الذين يجلسون عند باب الكنيسة ويسجلون الحسنات المالية التي يقوم بدفعها المؤمنون لمساعدة الكنيسة على القيام بواجباتها الاجتماعية.
أتذكر بعض الأساقفة والكهنة والأشخاص الذين غادرونا الى عالم الروح.
أتذكر الحجارة في الكنائس والأرصفة في الشوارع، كم لعبتُ عليها وأنا أمسك بيد خالتي، وأنا العب بوضع قدمٍ على الرصيف وقدمٍ في الشارع، وأسير معها وهي تشدني.
كم أتذكر الكبار الذين نقف معهم، فأرفع رأسي حتى أراهم وأنا أنتظر أن نذهب لنشتري الكعكة المدورة المعلقة على قضيب خشبي، يرفعه البائع من طرف ويُخرج الكعكة منه.
ثم يأتي دور الغزلة الملونة (وانا أصر أن يكون لونها أحمر)، فلا أعتبر بأنه يوم الجمعة الحزينة، إذا لم أمارس فيها التقاليد الكنسية التي أفهمها، وهي الدخول الى الكنيسة وإحناء الرأس مع أن عيوني كانت تدور في كل الإتجاهات، وبعدها شراء القطن المقدس، ثم الإلتقاء بالناس، وأخيراً، وهو ما يعجبني أكثر شيء، شراء الكعكة والغزلة (غزل البنات).
أما في العيد، فأهم شيء بالنسبة لي هي الثياب الجديدة، وكنت ألبس كالكبار … طقماً لكي أبدوا كرجلٍ صغيرٍ جداً، وأهم شيء أن تكون ياقة القميص قاسية، لكي أبدو تماما كالكبار.
هذه الذكريات التي تمرّ بيَ الآن، أراجعها فيغصّ حلقي.
أين الكنائس، وأين الساحات، وباعة الكعك، والغزل الملون، والطفل “باسل” الذي تغريه بطنه الصغيرة.
أين الأطفال والكبار …
أين الساحات …
أين دورة الكنائس والحجارة والأرصفة …
هاجرت الحجارة، وهاجرت الأرصفة، كما هاجر الكثير …
صوت فيروز أحسه أكثر حزناً، وهذا المُعَلَّق على خشبة .. ألن ينزل؟ … ألن يُهاجر هو أيضاً؟
نستيقظ يوم الأحد ونقول لبعضنا البعض … المسيح قام … حقأ قام
وأنا أكتشف بعقل ذلك الطفل الصغير “باسل” الذي لم يتجاوز الأربعة سنوات، أن المسيح قام ولكن من حلب.
وسورية التي اعتقدوها ماتت … ستقوم أيضا من حلب.
اللهم اشهد أني بلغت

السابق
محمد بن سلمان: الاسد باق في السلطة!
التالي
تحرير عدد من المحتجزين في الغوطة الشرقية