علاء الأسواني و«جمهورية كأنّ»

أشرف ويصا أرستقراطي قبطي، يعيش من ريع أملاكٍ ورثها من أهله. متزوج، ولا يطيق زوجته "الناجحة. ولا يستطيع الانفصال عنها، بسبب قوانين الكنيسة التي تحرِّم الطلاق.

هو “فاشل” بالمعايير المتدَاولة؛ بعد هذا العمر، لم يحقّق أي نجاح في عالم السينما الذي اختاره: هو ثابتٌ في دور الكومبارس الهامشي، يقتصر ظهوره في الأفلام على بضع لحظات، على الرغم من وسامته ورفعة هندامه ولياقته. يمضي أوقاته بتدخين سيجارة الحشيش، والتحسّر على عالم السينما الفاسد الذي لا يصعد إلى قمته إلا من اندمج في شبكة العلاقات والمصالح.

تجذبه خادمته إكرام، ويقيم معها علاقة سرية شهوانية، تتطوّر إلى حب، يزيل بعض الغمّ عنه. ثم فجأة كل شيء ينقلب في حياته: من شرفته المطلّة على ميدان التحرير، يفاجأ بحشود الشباب المتظاهرين، المطالبين بالحرية والكرامة والخبز. لا تمضي أيام حتى تتغير ألوان دنياه، غير تلك العبثية المُحلّقة في الغيوم. يقرّر الالتحاق بالمتظاهرين، ومشاركتهم أنشطتهم وتلبية حاجاتهم؛ بالمداومة في ميدان التحرير، بالسندويشات والمياه والعبارات الثورية التي يطلقها أمام المراسلين الأجانب.. يواجه كل من يعترض تلك الحياة الجديدة، من أبنائه، إلى زوجته وأهلها.

فتَحَت الثورة آفاقا جديدة لحياته. إكرام، عشيقته، تسير على دربه الجديد، فيزيد حبهما عمقاً. تنقشع الدنيا أمام أشرف، وتتحوّل إلى فورة حياة، يكتشف في أثنائها مصر، بشبابها وفقرائها وجمالها. وبعد سقوط حسني مبارك، يستمر مع هؤلاء الشباب، ومزيد من المواجهات: أجهزة المخابرات والجيش، تواطؤها مع “الإخوان  المسلمين” والإعلام المموّه، قدرة الثلاثة على إحباط الوعي القادم، قدرتهم على تحويل هذا الوعي إلى عداء للثورة، إلى خوفٍ على الرزق، إلى الغوغائية.

هذه واحدة من أهم الشخصيات التي شغلت رواية علاء الأسواني الجديدة، “جمهورية كأنّ”. لا تقل الشخصيات الأخرى زخماً: نورهان، المرأة القوية الجميلة الذكية، المحجّبة، الآتية من مدينة ريفية، العارفة من أين تؤكل أكتاف الرجال، عبر التحايل عليهم بعبارات الغواية “عنوان الكتاب، وما فيه من حرف “كأنّ”، يحمل دلالات كثيفة، متناقضة، هي تلخيص لمحتوى الرواية، وربما لرسالتها أيضاً” المتنكّرة بالدين؛ فتحصل على ثلاثة منهم، أزواجاً شرعيين، الواحد تلو الآخر، يرفعونها، كلٌّ بطريقته، إلى أعلى مراتب الإعلام المموّه. وكل هذا الصعود تسانده أيام الثورة التي حفّزت القوى المعادية لها، والدينية منها خصوصاً، إلى إنشاء قناة جديدة تقدم فيها نورهان أشد التقارير تلفيقاً عن الثورة، تعاضد العسكر والأمن بعبارات الدين وخطبائه ورموزه، وتكون هي في مقدمتها: المرأة المناسبة في المكان المناسب.

قدرٌ جديد أيضاً، تصنعه الثورة بالشخصيات الأخرى، من اليساري في شبابه، عصام شعلان، الذي تحول، مع الوقت، إلى رجل سلطةٍ سكير، مكلّف بقمع عمال مصنع الحديد والصلب، ثم أتت الثورة، فلا يصدّقها، لا ينفع معه أن يصدّقها؛ لكنها تطيح موقعه وامتيازاته، وتقلب قدره رأساً على عقب. إلى اللواء أحمد علواني، صاحب القرار في الشاردة والواردة، رجل المخابرات الفاسد، المتلطّي خلف عبارات القانون والإيمان؛ ثم ديما، ابنته، حبه الوحيد، الطالبة في كلية الطب التي تتعرّف على خالد، ابن السائق المتواضع الذي عمل ليل نهار ليؤمن لابنه تكاليف دراسته. كيف يغتال أحد الضباط خالدا، بدم بارد، في أثناء أولى التظاهرات في الميدان، أمام ناظري ديما، وقد التحقت بهذه التظاهرات بعد تردّد. وانهيار كل ما فهمته ديما من تربيتها، وتحول علاقتها بأبيها، رجل المخابرات، إلى صمت سلبي.. أو عم مدني، والد خالد، الذي يرفض رشاوى السلطة ليسقط دعواه على الضابط المجرم، كيف يمعن به الحزن، كيف يجرّه نحو الجنون.. وغيرها من الشخصيات الأقل أهمية، ولكن ليست أقل دراماتيكية في التصاقها بالثورة، وبانكفاء حياتها السابقة نحو ماض سحيق.

فالثورة فجّرت الركود الروحي والذهني التي كانت هذه الشخصيات مسْرفة به. هي فتحت لهم طريقاً جديدة من بين شقوق حيواتهم الضيقة، وقالت لمن تبنّاها، ولمن عاداها على حدّ سواء: ها أنتم أمام فراغاتٍ جديدة عليكم ملؤها بالمعاني، سواء ذهبتم إلى الجنة أو النار. وهذه الفراغات مهداة إلى “الأشرار” كما “الأخيار”.

عنوان الكتاب، هو الآخر، وما فيه من حرف “كأنّ”، يحمل دلالات كثيفة، متناقضة، هي تلخيص لمحتوى الرواية، وربما لرسالتها أيضاً: فالـ”كأنّ” يمكن أن تحمل دلالة الفوز القريب “كأنَك ستنجح…”، أو الانطباع “يبدو لي كأنك حزين”، أو التشبيه “كأنها غزالة..”، أو التبشيع والتقبيح كما ورد في القرآن الكريم “طَلْعُها كأنَّه رؤوس الشًيَاطِين”، أو النسيان “كأن شيئاً لم يكن”، أو الكذب البواح، مثل أن تكون الصور والأقوال، وحتى المعاني الخفية للتوريات، كلها غير ما هي عليه في الواقع “افعلوا وكأنها انتخابات”.. جمهورية “كأن” تحمل كل هذه المعاني: فيها التبشيع والانطباع والتكذيب ومحاولات النسيان: “كأن ثورة لم تحصل”.. ولكنها تنطوي أيضا على أمل، “كأن الثورة ماضية..”، بمجرد بقاء فكرتها على قيد الحياة.

ولهذه الأسباب، ربما مُنعت رواية الأسواني من النشر في القاهرة، فانتقلت إلى بيروت، لحسن حظنا. وصدرت عن دار الآداب اللبنانية. ليس هذا فقط. الأسواني احتُجِز في مطار “احتجز الأسواني في مطار القاهرة لدى عودته من إحدى الرحلات الخارجية، ساعتين فقط؛ للتحقيق، أو الإذلال، أو توصيل الرسائل” القاهرة لدى عودته من إحدى الرحلات الخارجية، ساعتين فقط؛ للتحقيق، أو الإذلال، أو توصيل الرسائل. ومن بين أغراضه المصادَرة، رواية “الغريب” لألبير كامو؛ ربما قرأها أحد محتجِزيه، وهي سهلة قصيرة، فوجد فيها ما يضرب سكينته. أو أنه لم يقرأها، فقط يخاف من الكتب، فيصادرها.

ثم، لماذا لم يُعتقل الأسواني؟ ربما لأن هذا الاعتقال سوف يعطي دفعة قوية لرواج روايته، فتحدث في العقول خراباً، يقضي على ما استعاده “المنتصرون” من غَلَبة بعد الثورة. ولكن أيضاً، هذا الاحتجاز، وحصانة الأسواني بروايته، هما مناسبة للتذكير بأن هناك الآلاف من المعتقلين، سراً أو صراحة، بلا محاكمات، وفي ظروف من الاكتظاظ والبشاعة، لا تعترف أجهزة الأمن الحاكمة بشيءٍ منها. حتى هذه اللحظة، ترفض هذه الأجهزة إعطاء الأسماء والأرقام الدقيقة للسجناء والمخْتفين قسراً. وهذا لم يمنع المجلس القومي من الإعلان عن خطط لوزارة الداخلية لبناء أربعة سجون جديدة (السلام، النهضة، الصالحية، 15 مايو)، ذلك أن السجون القائمة تختنق بنزلائها..

فتحية لعلاء الأسواني على طموحه الأدبي، حيث العوالم المخفية وشخصياتها الدراماتيكية، وتحرّك مصائرها الضاربة في الركود المزْمن. بحيث إنك تبقى عائشاً معها، بعد ختام الرواية، تتخيّل ما لحقها، ماذا حلّ بها؟ أين هي الآن؟ والأرجح أن بين السجناء المجهولين الذين لا نعرف عددهم بعض من هذه الشخصيات.. ربما عصام شعلان، بعدما شكّل خطراً على سمعة نورهان النقية. ربما مازن، بعدما ثبتتْ علاقته بالثورة وبما بعدها. أو أشرف ويصا نفسه، بعدما تواطأت زوجته مع الأمن والكنيسة، لتلصق به تهمة الزنا، مشفوعة بتهمة التآمر مع الخارج ضد أمن البلاد. وآخرون.. بلا هوية، بلا أسماء، بلا أرقام حتى.

السابق
أبي خليل عن حمادة: لا يزال يتصرّف وكأنه في زمن الوصاية السورية
التالي
وزير الخارجية الفرنسي: ايران تزود الحوثيين في اليمن «أسلحة»