ندرك معنى الأمومة ونجهل تنوّع عيشها

لعلّ الكلام العام عن الأمومة عندنا هو الأسهل تناولاً، والأكثر افتقاراً إلى التنوّع. وهو كذلك لأن لأن مفرداته معروفة وصوره جاهزة.

وتُسبغ على الأمومة سمات وأحكام “لا يختلف اثنان” في إدراكها. ويتولّى الاحتفال بـ”عيد الأم” تكرارها. المتكلّمون هم غالباً أبناء وبنات، وكلامهم يشي بحاجات طفولية من أمّ أثرية ثابتة الملامح؛ فهي عظيمة لأنها مضحّية بالذات ولاغية لوجودها. متفانية في خدمة أولادها، ساهرة العين ومنشغلة الفكر برفاههم. ومخزون مفردات وصفها يُهال على الأمهات، ويغرقهن تحت وابِلِه، فتتشكّل التصوّرات حولها تكراراً لنموذج وحيد من السمات والاتجاهات والسلوك. وينقسم الأولاد بين مسبّحين بحمد أمهاتهم المتماهيات مع النموذج المتكرر إياه، وبين متذمّرين من نقض أمهاتهم له، فيما الأمهات صامتات متواطئات معهم؛ فإذا تكلّمن، جاء كلامُهن استعادة قانعة بقول أولادهن، إما رضى أو تعبيراً عن مشاعر الذنب، تبعاً لرضى هؤلاء أو تذمرهم، على التوالي. السطوة الذي يُحدثها ترداد سمات الأمومة، والقيم الملحقة بها، على مساحة الكلام عن الأمومة… هذا الترداد يمنع عن الأمومة تشكّل معانيها المتعددة. وتتوارى خلف حاجات الأبناء، واتجاهاتهم حيالها، التعبيرات المتنوّعة للأمهات أنفسهن عن “عيشهن” لها.

إقرا ايضا: «العنف الأسري/ رجال يتكلّمون» لـ عزّة بيضون…

… ونجهل تنوّع عيشها
في السنوات الأخيرة، ولدى توافر فسحة مرحّبة للقول على مواقع التواصل الاجتماعية عندنا، بدأت الأمهات، أسوة بسائرالناس، الكلام عن تفاصيل عيشهن. وبدا أن الكلام العام عن “عيش الأمومة” واختباراتها من “أهلها”- من الأمهات أنفسهن- يتلمّس أبجديته. صرنا نقرأ كلاماً، ونسمع بوحاً ونرى مشاهد، نشرتها نساء وأمهات على هذه المواقع، لا تشبه المألوف ومغايرة للمتوقع. بقيت صورة الأمومة المثالية والزاهية هي الطاغية، لكن قولاً مغايراً يسائل ويحتج بدأ يظهر ناقضاً رتابة هذا المألوف وذلك المتوقّع. أشير، مثلاً، إلى نصوص كتبتها أمهات على صفحات المواقع رأيْن إلى عيشهن الأمومة قهراً لذواتهن، وتجرّأن على إطلاق نعوت على اختباراتهن كـأمهات تشي بوطأتها عليهن، وبآثارها المتجاذبة على تشكل شخصياتهن، وعلى ممارسة حرياتهن. وسمعنا تبرّماً من التوقعات المنمّطة لما ينبغي عليهن أن يكنّ عليه، وافتقادهن الدعم لتحقيق المرتجى منهن. كما شهدنا على اتجاهات تتكلّم عن الرغبة بتأجيل الأمومة، بل ورفض إلزاميتها عليهن. وعبّرت العازبات منهن عن ضيقهن ذرعاً من إلحاح آخرين عليهن للإسراع في اختبارها “قبل فوات الأوان”، مستنكرين تأثيمهن لعدم إنجابهن حفداء لأمهاتهن وآبائهن.

وبرز في مواقع التواصل، أيضاً، أنماط جديدة من عيش الأمومة. منها، مثلاً، استعراض بعض الأمهات متعة التبادل المتكافئ بينهن وبين الأولاد م والكلام عن تناقضات في المصالح بين الطرفَين. وبيّنت تفاصيل النقاشات بينهما ومضامين التفاوض اضطراباً في مواقع القوى بديلاً لاستجابات معروفة. وكلها تشير إلى دعوة هؤلاء الأمهات للنظر إلى واقع عيشهن كأمهات، ولنزع صفة “المثالية” عنه. كما بيّنت هذه المواقع عيشاً لأمومة لم تعد حكراً على النساء: الرجال – الآباء والجدود – عبّروا عن احتفالهم بـ”أمومتهم” واستعرضوا سلوكات تنسب، في العادة، إلى النساء / الأمهات.

ليست مواقع التواصل الاجتماعية كل الحكاية، بالطبع. هناك إحصائيات تحيل إلى أمومة مؤجّلة ومضبوطة، وهناك وضعيات في عالمنا تفترض حالات لا تحتمل أكثر من أمومة مختصرة، وهناك مظاهر تشي بأمومة مضادّة للتصورات حولها، هناك روايات وشهادات كتبها نساء ورجال تقول إن الكلام الشائع حول الأمومة، وحول عيشها، لا يكفي لفهم أيّ منهما. هناك، أخيراً، حراك نسوي راهن باشر بتفكيك كلّ المركّبات والثوابت الثقافية – الاجتماعية. وقياساً على ما جرى في مجتمعات أخرى، لا يبدو أن “الأمومة” ( وهي، وفق ما يرون، تكوين ثقافي- اجتماعي) أنها ستنجو من ذلك التفكيك.

إقرأ أيضا: ما بعد الانتفاضات العربية: ماذا فعلت النساء؟

…. لم يعد كافياً الركون إلى الشائع لإدراك معاني الأمومة. هناك حاجة لدراسة الأنماط الجديدة والأشكال المتنوّعة لـ”الأمومة” عبر استقصاء متعدد الأوجه لـ”عيشها” لدى الأمهات راهنا، وعبر رصد تصوّرات ذلك العيش لدى النساء والرجال، سواء لدى الراغبات والراغبين فيها، أو لدى رافضيها.

السابق
الضمير أم الدِّين؟
التالي
وئام وهاب يعايد الأم بعيدها