الثورة السورية فكرة بلا ميعاد

منذ العام الثاني للثورة السورية، واليأس ينتاب ناشطيها وكتابها، أولئك الذين أتيحت لهم فرص التعبير عن رأيهم. منذ العام الثاني، والأوصاف السلبية تنهال عليها. مع كل محطة خاسرة، مع كل انتكاسة، وما أكثرها.. وها هي اليوم تُستعاد هذه الأوصاف مع الفظائع التي يرتكبها الأسد، وحلفاؤه من روس وإيرانيين، ضد أهالي الغوطة الشرقية: إنها ثورة "مستحيلة"، أو "مغدورة"، أو "مهزومة"، أو "محتضرة".. و"الطريق مسدود دائماً بوجهها. وإنه حان أوان لمْلمة خسائرها الفادحة، على الأقل من منطلق إنقاذ من تبقى من مدنيين.

وإذا ما تفاءل صاحب الرأي مرة، يقول إن لا الثورة، ولا نظام الأسد، قد “ربحا”؛ فيروح ويعدّد خسارة النظام دوره الإقليمي، وخسارته قراره، وديونه على حُماته من إيرانيين وروس.. إلخ. فيما خسر السوريون حيواتهم ومستقرّهم وعمرانهم، ومزيداً من حرياتهم، القليلة أصلاً. بعض الصادقين من الداعمين للثورة منذ بدايتها يجتهدون في تفسير هذا الإخفاق، فيحصون عيوب المعارضة، بمجالسها وائتلافها وجبهاتها: لم يكونوا بمستوى رجال دولة، لم يتحّدوا، لم يتفاهموا، لم يصيغوا رؤية، لم يأخذوا القرارات الصحيحة، لم يبنوا تنسيقاً، أو علاقةً، مع المجموعات المسلحة على الأرض، ولا مع المدنيين القاطنين عليها، أو على الأراضي الواقعة تحت سيطرة الأسد وداعميه.. ولكثرة تكرارهم هذا النقد، كاد بعض منهم أن يتفوَّق على الذين تخصصوا منذ بداية الثورة بتصيّد عيوب المعارضة، من دون غيرها من الأطراف صاحبة الأدوار على الأرض السورية.

إقرأ ايضا: سورية.. جيش الاحتلال يحارب أحد جيوش الاحتلال

قلّة منهم حاولت أن ترسم ملامح المجموعات المسلحة العاملة على الأرض، على الفرز بين”الثورة السورية لم تدخل التاريخ فحسب، إنما دخلت الأسطورة، وباتت بلا ميعاد” “اتجاهاتها”، ومنْبتها وممارساتها. علماً أن هذه المجموعات، بقتالها ضد الأسد وحلفائه، هي التي أفشلت حتى الآن محاولات استعادة سورية بكاملها تحت عرشه. أبقت الثورة حية، ولو بملامحها الضبابية.
يصعب تجنّب إغراء التكرار في الحالة السورية، فالوقائع تتشابه. لكن المشكلة أن هذا التكرار لا ينتج فهماً إضافياً للعمق السوري المعقّد. من بعيد، يبدو الوعي التكراري ضئيلاً أمام الحجم اللامتناهي من وقائع الميدان، الغامضة، الملتبسة، ذات السيولة العالية. لا يصمد أمام تعقّد الحرب في سورية. يبدو مفارقاً، غير منطقي. فيما هي، أي الوقائع، تستحق أن تكون موضع نظر، موضع إصرار على النظر. فمثلاً: بعد المواقف المتباينة عن جبهة النصرة، هل استقرت فكرة سديدة عنها، تصلح أن تفسر دورها في الثورة، أو على الأقل في استمرارها مقاتلةً نظام الأسد؟ ما هي فكرة المواطنين القاطنين تحت سيطرتها؟ هل هم متشبّثون بنصرها؟ أم موزّعون؟ أم غاضبون منها؟ بصفتهم “دروعاً بشرية”، ليس إلا؟ وينطبق السؤال نفسه على المجموعات المسلحة الأخرى المقاتلة للأسد، أو العاملة تحت القيادة التركية، أو الأميركية. أو المجموعات الأخرى الداعمة للأسد بقيادات سورية، إيرانية، روسية.. بمعنى آخر، ثمّة ميوعة معرفية تكمن في موقفٍ يصعب استيعابه: من جهة، تأييد للثورة، وحماسة للمجموعات المسلحة التي تتصدّى لقوات الأسد وأسياده. ومن جهة أخرى، غمْغمة، حول طبيعة الفصائل الخائضة غمارها على الأرض، حول أيديولوجيتها التي تتناقض تماماً مع أيديولوجية صاحب الموقف، غير الإسلامي. كأنه يتأرجح بين وضوح أهداف الثورة وألغاز مسارها، أو أدواتها، أو مادتها البشرية.

أمر آخر تصرّ عليه أدبياتٌ كثيرة للثوار السوريين: إن الثورة السورية ما كان عليها أن تندلع. يشهدون على أهوالها، يسردون فجائعها، يشتاقون إلى ما قبلها. ويندمون. يتوقفون هنا، لا  “الثورة ليست كائناً مادياً. إنها فكرة. والأفكار لا تقتلها قنابل أو براميل”
يتابعون. ماذا يعني أن “ليْتها لم تنْدلع”؟ كيف كان يمكن تجنّبها؟ بأية طريقة؟ ألم يحاول بشار الجبار منعها، وبأساليب غير متخيّلة؟ وماذا كانت النتيجة؟ هل منعها؟ هل استطاع أن يمنعها؟ يحاول بعض “الإيجابيين” أن يقدموا حلولاً بمفعول رجعي: “كان علينا أن نعدّ أنفسنا أكثر من ذلك”، يقولون. كيف “الإعداد” يعني؟ حزب قائد وقيادة كاريزماتية وجماهير؟ أو واحد منهم؟ كل هذه الأحزاب التي لا تحصى، كل هذه الشخصيات الكاريزماتية، كل هذه الجماهير.. كما يصدح الشيوعيون الحزبيون من منابرهم المرتاحة. حسناً، ماذا لو كانت تلك الأحزاب التي تلبي الشروط الثلاثة، كما تتصوّر، ماذا لو كانت عازفةً عن الثورة، بل واقفة ضدها؟ هل المشكلة في الإعداد أم في شيء آخر؟ أين علّة الإعداد حقاً؟ في الفكرة الواقفة خلفه؟ أم في القانون الحاكم لتنظيمها؟ وهل يمكن أن تنتج الفكرة الثورية مواقف غير ثورية؟ أو، كيف تكون، أصلاً، الثورة على الثورة؟

العاطفيون يتشبثون بلحظات الحرية التي مسّتهم، حين أطلقت حناجرهم في الهواء الطلق، بدافعهم الشخصي، بعفويةٍ كانت خلاقة، فجّرت الطاقات والإبداع والشجاعة. يتخيّلون أن الإلحاح على استحضار هذه اللحظة ربما يأتيهم بما يماثلها. كلا أيها السادة. هذه القشْعريرة التي وضعتها الحرية، تلك الغبطة التي التمعت بها عيون أصحابها، هي مثل ومْضة تجلٍّ: تختزن الطاقة، لكنها لا تحدّد وجهتها. عليك أنتَ توليد ذخيرتها الحيّة.

إقرأ ايضا: دلال البزري تكشف عن تجربتها الحزبية في «سنوات السعادة الثورية»

إذا كانت كل هذه التعبيرات حيّةً في ضمائر السوريين من أصحاب الرأي، فهذا يعني أن الثورة ما زالت قائمة. ونقصانها لا يلغي روحها. فالثورة ليست كائناً مادياً. إنها فكرة. والأفكار لا تقتلها قنابل أو براميل. يمكن أن تخشى التعبير عنها، يمكن أن تندم أنكَ عبّرتَ عنها. لكنها موجودة، بُثّت في الهواء الطلق، ولن تعود إلى قمْقمها السابق، محبوسة مع العفاريت والشياطين. ما يضاعف زخمها أن خسائرها أسطورية، وملاحمها وافرة، زائدة ربما عن حدّها. الثورة السورية لم تدخل التاريخ فحسب، إنما دخلت الأسطورة، وباتت بلا ميعادٍ. آجالها بعيدة ربما، أو متوسطة. وألوانها هي ربما من النوع الذي لم نألفه بعد، لم نتعلم لغته، لم نجد له التسميات بعد.

السابق
إحالة فيفي عبده الى النيابة…وهذه تهمتها
التالي
رئيسة الـ CIA الجديدة متهمة بتعذيب مسجونين عراقيين