جواد صيداوي يعود إلى النبطية «على متن الرحيل»… خسارة لا تعوّض

أن تنحني قامة أدبية وثقافية، فالخسارة لا تعوّض، إنها حالنا برحيل الأديب والروائي والشاعر والمربي جواد صيداوي، ابن لبنان، وابن مدينة النبطية، الذي رحل صباح اليوم بعد معاناة طويلة مع المرض.

أحد أعمدة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وزميل وصديق أمينه العام حبيب صادق الذي نعاه صباح اليوم وقال عنه: “جواد صيداوي الصديق والرفيق والأديب الكبير خسارة لا تعوض، وقد أثرى مكتبتنا العربية بروايات غنية بالسيرة والوصف والإبداع”.

إقرأ ايضا: رئيس الجمهورية يكرّم الأديبة إميلي نصرالله

ولد جواد صيداوي في مدينة النبطية سنة 1932 وترعرع في أجواء أسرة ميسورة. خرج بلونه اليساري الأحمر الذي بدأ يتغلغل إلى فكره قبل الشهادة المتوسطة، ومن دار معلمين ابتدائي إلى آخر “عليا”؛ ثم معلماً ابتدائياً فتكميلي فثانوي؛ كان أول مجاز في الأدب العربي، في مسقطه (1955)؛ وكان أن التقى في بيروت بعدد من تلامذته الذين يبحثون عن ملاذ تعليمي ثانوي وقادهم نحو الوزير كمال جنبلاط الذي وعدهم بقرار في إنشاء الثانوية الأولى في جبل عامل خلال أسبوع، بعد ثانوية صيدا الرسمية الوحيدة في الجنوب ككل التي عمل بها مدرساً للأدب العربي؛ وصدق في موازاة تمنّع الوزارة، “لكن بالإصرار والإعارة قامت الثانوية، حقاً قامت؛ وتلامذتها من مختلف أصقاع الجنوب؛ لكن لما نويت العودة إلى بيروت جاءت نصيحة الراحل حسين مروة بأن أبقى في إدارة الثانوية التي أنشأتها بجهدي الخاص، لأن باب النضال هنا أجدى، إنما في مقابل التضحية بجزء مهم جداً من حياتي”. ومع ذلك بدأ مديراً لنحو أربعين تلميذاً “وسلمتها بما يزيد على ألف تلميذ يحصدون ما نسبته 90 بالمئة من النجاح في الامتحانات الرسمية”.

كانت بداياته عامرة بالشعر حتى الثمالة، بيد أنه لم يصدر أي ديوان، قبل أن ينحو باتجاه القصص وأدب السيرة، وكانت باكورته “البحث عن بداية” (1984)، ثم “سقف المدينة”. وكذلك “الطغاة في التاريخ” وهي دراسات تاريخية (1988). وبعدها بعام راح يقدم برنامج “لغة الحياة” على صوت الشعب لأكثر من عشر سنوات. صدرت له (1992) الرواية الأولى “العودة على متن الرحيل”. ونشر بعدها سيرته الذاتية والروائية “أجنحة التيه” بثلاث روايات تعاقبت خلال عامين: “الوكر” و”الإقلاع” و”تونس”. بين 1995 و2002 تصدر له روايات: “جمانة” و”مطاردة” و”أسنان المشط” و”صرنا على الليسته”. في سنة 2008 ترجمت رواياته أجنحة التيه إلى الفرنسية والإنكليزية مع 9 روايات لبنانية. وكانت “ثمالة حب” سنة 2006.

أعيد نشر مقابلة معه في العام 2008 تغوص في ذاكرته وبداياته وأدبه وأعماله الصحفية…

جواد صيداوي: روائي السيرة الذاتية شاعر بلا ديوان

كامل جابر

اهتدى الأديب جواد صيداوي صاحب السمحة اليسارية، إلى الشعر وذاب في تفعيلاته، قبل احترافه الكتابة الروائية التي تجلت غزيرة في أكثر من 12 رواية، بيد أنه لم ينشر ديواناً واحداً. وتميزت مجمل رواياته بتمثله شخصية رئيسة من أبطالها. راح وجاء ونهل من دور المعلمين والجامعات وتجارب الاغتراب، حتى وصفه صديقه حبيب جابر بأنه “رحالة لا يستقر”. غير أنه عاد ليعيش بعيداً عن أسرته متفرغاً للكتابة والتأليف.

لا ضير من اتصال تخييري بالأستاذ جواد صيداوي قبل تحديد رغبته في مكان اللقاء، فإما في مسقط رأسه النبطية المواضب على زيارته الأسبوعية لها؛ أو في شقته، “صومعته” في مار الياس، حيث يعيش اليوم وحيداً بين كتبه ومراجعه، بعيداً عن أسرته “المؤثرة للاغتراب الدائم”؛ وسط أصراره على نفور بينه وبين الوحدة، “فأنا محاط بثلة رائعة من صحب وأصدقاء مذ عدت نهائياً من باريس عام 1989”.

وإذ يختار الأستاذ جواد بيروت للقاء، فذلك بسبب البرد الشتوي في النبطية الذي يخاف أذيته. وليكن، ففي شقة بيروت يعيش بين الكتب والروايات حيث يتماهى وصحبه مع أبي النواس ويحب مع نزار قباني ويناضل مع المناضلين، فهو مرتاح إلى وضعه بعدما ارتاح إلى مستقبل ابنه الوحيد وبناته الثلاث، لذلك هجر الغربة إياباً نحو الوطن لأن “الحضارة الغربية حضارة مفترسة، ومن لا رصيد ثقافياً وفكرياً يعصمه من الانزلاق، يقع، مثلما وقع العديد من الأدباء والشعراء العرب”.

من تجربته في النبطية حيث ولد عام 1932 وترعرع في أجواء أسرة شبه برجوازية، خرج بلونه اليساري الأحمر الذي بدأ يتغلغل إلى فكره قبل الشهادة المتوسطة، ومن دار معلمين ابتدائي إلى آخر “عليا”؛ ثم معلماً ابتدائياً فتكميلي فثانوي؛ وكان أن التقى في بيروت بعدد من تلامذته الذين يبحثون عن ملاذ تعليمي ثانوي وقادهم نحو الوزير كمال جنبلاط الذي وعدهم بقرار في إنشاء الثانوية الأولى في جبل عامل خلال أسبوع، بعد ثانوية صيدا الرسمية الوحيدة في الجنوب ككل التي عمل بها مدرساً للأدب العربي؛ وصدق في موازاة تمنع الوزارة، “لكن بالإصرار والإعارة قامت الثانوية، حقاً قامت؛ وتلامذتها من مختلف أصقاع الجنوب؛ لكن لما نويت العودة إلى بيروت جاءت نصيحة الراحل حسين مروة بأن أبقى في إدارة الثانوية التي أنشأتها بجهدي الخاص، لأن باب النضال هنا أجدى، إنما في مقابل التضحية بجزء مهم جداً من حياتي”. ومع ذلك بدأ مديراً لنحو أربعين تلميذاً “وسلمتها بما يزيد على ألف تلميذ يحصدون ما نسبته 90 بالمئة من النجاح في الامتحانات الرسمية”.”

في الثالثة والعشرين من عمره كان الأستاذ جواد أول مجاز في الأدب العربي، في مسقطه. وهو في زهوة نشوته بالنجاح والاستعداد لأن يكون بعد سنة أستاذاً جامعياً، راح يلتهم الروايات العربية والفرنسية بشغف “وأهيم بأشعار آرثور رامبو وفيرلين وبودلير، حتى حفظت العديد من قصائدهم غيباً”. يقول في “أجنحة التيه، الإقلاع”: “لقصيدة بودلير الدعوة إلى السفر، فعل السحر في نفسي. كلما عدت إليها حملتني إلى عالم مفعم بالسعادة، إلى عالم طالما حلمت بمثله في جفاف أيامي. إن هذه الهنيهات من المتعة الروحية التي يتيحها الشعر لي، تنسيني، إلى حين، ما في الواقع من رتابة وتفاهة، وتجعلني أتساءل، بيني وبين نفسي، عن القيمة الحقيقية لما أنظم من قصائد؟”. ويقر بأنه لم يتثقف على الكتب الحزبية “بل على قراءتي المبكرة للقصص الفرنسية و”الآداب الفرنسية” للشاعر لويس آراغون التي كان لها دور كبير بتوجيهي الفكري السليم الهادئ؛ بعيداً عن الانفعال وحماسة الشباب”. ولم يكن سهلاً عليه قراءة “الرأسمال” لماركس، مع شغفه الخاص بالأدب الروسي قبل النظام الشيوعي،  (فيودور) دوستويفسكي، شيكوف، تولستوي،  (إيفان) تورغينيف، والبؤساء لفيكتور هيغو على ضوء المصباح وبالفرنسية، فضلاً عن عدد من أساتذة اللغة والأدب في مصر.

بين 1955 و1958 بعد إجازة اللغة العربية حصل صيداوي على دبلوم في التربية وآخر في التخطيط التربوي ثم دراسات عليا من السوربون وكان على حافة مناقشة الدكتوراه هناك عن “العقلانية في النصف الأول من القرن العشرين، في العالم العربي” ولم يتسن له ذلك بسبب خلال مع الأستاذ المشرف؛ الذي رفض مرجعاً روسياً في الدراسة يتحدث عن القضاء على الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي “فعدلت عن الرسالة”.

بالرغم من عدم سعيه لمراكز قيادية أو مسؤولية في الحزب الشيوعي في مقابل نشاطه الملحوظ أيام دار المعلمين؛ لم يزل صديقنا صيداوي “مصبوغاً” بهذا اللون الأحمر؛ كان شيوعياً أشد تأثراً بأستاذه رئيف خوري، وبسببه تلقى الصدمة الأولى بطرد أستاذه ورفاقه من الحزب “إن لرئيف خوري في نفسي وعقلي جميعاً، مكانة رفيعة تنامت منذ الفترة التي بدأت أقرأ له، فيها، على صفحات مجلة الطريق، ولم تنل الهجمات الظالمة التي تعرض لها رئيف خوري، من رفاق الأمس، من هذه المكانة؛ لذلك أجدني مغتبطاً بلقائه والتعرف عليه شخصياً. إنه طود شامخ بهيكله كما هو طود شامخ بأدبه وفكره” (أجنحة التيه).

عام 1970 ينتقل الأستاذ “أبو حيان” إلى إدارة ثانوية برج البراجنة، وتحت سطوة التهديد بعد سيادة الحرب الأهلية كانت باريس قبلة السفر. وبعد فترة وجيزة يلتحق بالسفارة السعودية هناك مسؤولاً لقسم الصحافة والإعلام وجاءت ذلك في أعتاب زيارة جسكار ديستان بيروت على هامش الحرب “إذ ترجمتُ 4 مقالات وأرسلتها للسفارة السعودية هناك، على أثرها هاتفني القائم بأعمال السفارة من أجل العمل بالسفارة، ومن حسن حظي أن السفير الذي التحق بها كان أستاذاً للغة العربية، فبقيت في منصبي تسع سنوات”.

في العام 1988 يلتقي جواد صيداوي بالكاتب الياس خوري، وعلى أثر حديث يخبره خوري أنه عائد إلى البيت، فيسأله صيداوي: وهل لك بيت هنا في باريس؟ فيرد: لا أنا عائد إلى البيت في بيروت؛ “فما كان مني إلا أن حزمت أمتعتي وعدت إلى بيروت لأتقاعد وأتفرغ للكتابة والثقافة والبرامج الإذاعية”.

ففي دار المعلمين الابتدائية، كانت بدايات جواد صيداوي الشعرية “بدايات متواضعة، ثم نشرت في عدد من الصحف حتى دار المعلمين العليا؛ وهنا بدأت كتابة القصص القصيرة، ثلاث مجموعات منها، من دون أن أتوقف عن نظم الشعر الحر مع احتفاظي بالتفعيلة؛ لكن ومع كل أسف لم أجمع قصائدي بديوان، ربما بسبب بعدي في الستينيات عن بيروت وانشغالي بالتربية”. وفي العام 1984 ينشر مجموعته القصصية الأولى “البحث عن بداية”. وبعد عودته من باريس عام 1988 يعيد طباعة هذه المجموعة؛ ويطبع مثيلتها “سقف المدينة”. وكذلك “الطغاة في التاريخ” وهي دراسات تاريخية، يطبعها ثانية بعد عامين ومعها “ليل المعنى” وهي حوار مع الشاعر صلاح ستيتية.

أما الرواية الأولى فكانت “العودة على متن الرحيل” عام 1992 وينشر بعدها سيرته الذاتية والروائية “أجنحة التيه” بثلاث روايات تعاقبت خلال عامين: “الوكر” و”الإقلاع” و”تونس”.

وبين 1989 و2003 كان يسر مستمعو “صوت الشعب” ببرامج جواد صيداوي اللغوية والأدبية والثقافية؛ منها برنامج “لغة الحياة” الذي استمر “بضع عشرة سنة”؛ وخرج منها وفي نفسه الكثير من العتب و”ضياع الأتعاب”. أما حكايته مع البرامج الإذاعية فقد بدأت عام 1949 عندما اختاره معمله فؤاد أفرام البستاني مع زميل له لمحاورته في إذاعة “الشرق الأدنى”. ثم كانت له برامج أواخر الخمسينيات في إذاعة تونس يوم كان ضمن البعثة لتعريب التعليم في تونس، وكان الشاذلي القليبي مدير الاذاعة، وتنوعت بين دراسات عن كتب ثقافية ومناقشات أدبية وحلقات عن معالم تونس الحضارية. وبعد عودته عام 1960 قدم برنامجاً أسبوعياً في إذاعة لبنان عنوانه “ذكريات مدرسية”.

لا ينفي صيداوي أبداً، أن البيئة الجنوبية التي ترعرع فيها حتى السابعة عشر من عمره “كان لها تأثير كبير جداً على الميل الأدبي عندي، خصوصاً رجال الدين؛ أضف إلى أن عدداً منهم كان من أصحاب مكتبات غنية جداً كنا نتردد عليهم أمثال الشيخ أحمد رضا صاحب “متن اللغة” والشيخ علي الزين وغيرهما”.

ويترحم على الحركة الثقافية “في أيامنا، اللافت فيها أن هامش الحرية كان كبيراً؛ لكن الحرب وما تلاها، كانت نتائجها أشد خطراً من وقائع الحرب عينها؛ حرية التعبير لم يعد المتاح منها يسمح بما عهدناه وكان؛ للأسف، قوى الأمر الواقع فرضت أجواء ثقافية ملتزمة باتجاهات معينة، يوم كنت شيوعياً ملتزماً كنت أرفض الألتزام الأعمى، كان ممنوعاً نزار قباني، لكننا قرأناه، وقصائدنا الغزلية نشرناها ولو بأسماء مستعارة”.

أما النمط السياسي القومي “فقد بدأ يتبلور مع قضية فلسطين، لأسباب عديدة، ليست العروبة فقط، إنما الجنوب اللبناني كان على علاقة متينة جداً مع الأرض الفلسطينية؛ تجارياً، عمالنا وأولادنا يعملون هناك؛ والمنتوجات الفلسطينية خصوصاً البرتقال، كانت تتدفق على أسواق الجنوب والنبطية. عندما بدأت الصهيونية تكشف عن نواياها وأنيابها، بدأنا نستعشر الخطر باكراً، لكن على قاعدة رومانسية وعاطفية إنما ليس على اسس علمية. لذلك الجرح اتسع وتعمق بعد قيام دولة إسرائيل وتابعنا مراحل هذا الخطر بكثير من المرارة، لكن أبشع أنواع المرارة التي ذقناها هي تلك الهزائم التي جاءت بعدما شحن الإعلام العربي نفوسنا بالأمل”.

إقرأ ايضا: اليوبيل الذهبي للثقافة الوطنية لـ’الثقافي الجنوبي’

تواريخ

1932 ولادته في مدينة النبطية بجنوب لبنان.

1955: كان أول مجاز في الأدب العربي، في مسقطه.

1984: ينشر مجموعته القصصية الأولى “البحث عن بداية”.

1988 يعيد طباعة هذه المجموعة؛ ويطبع مثيلتها “سقف المدينة”. وكذلك “الطغاة في التاريخ” وهي دراسات تاريخية.

1989: يقدم برنامج “لغة الحياة” على صوت الشعب أكثر من عشر سنوات.

1992: صدرت له الرواية الأولى فكانت “العودة على متن الرحيل”. وينشر بعدها سيرته الذاتية والروائية “أجنحة التيه” بثلاث روايات تعاقبت خلال عامين: “الوكر” و”الإقلاع” و”تونس”.

بين 1995 و2002 تصدر له روايات: “جمانة” و”مطاردة” و”أسنان المشط” و”صرنا على الليسته”.

2008: ترجمت رواياته أجنحة التيه إلى الفرنسية والإنكليزية مع 9 روايات لبنانية.

2009: ينكب على كتابة رواية “أروقة الذاكرة بعد آخر رواية “ثمالة حب” الصادرة 2006.

 

السابق
الاستقالة والحبس لا يكفيان: إهانة الكرامة لا ثمن لها
التالي
معركة شرسة في بعلبك الهرمل ضدّ الثنائية الشيعية رغم شرذمة المعارضة