الطائفية اللبنانية حين تعجز عن ضمان الحريات

الحرية في لبنان ليست هِبَة القانون، إنما هِبَةُ النظام الطائفي والعلاقات الطائفية. ثمة حرية من دون شك، لكنها محفوفة بالحسابات الطائفية. الإعلام مثلاً تمكن من الاستثمار في الحساسيات الطائفية وأنشأ هامشه الذي شكّل مساحة من الحرية أوسع من المساحات التي يتمتع بها الإعلام في معظم دول الجوار، باستثناء إسرائيل.

للطوائف اللبنانية وسائل إعلامها، ونحن في لبنان، إذ كنا ننشد قدراً من حقيقة أو من خبرٍ، كنا نلجأ إلى وسيلة الإعلام التي لا يضير الطائفة التي تقف خلفها بث هذا الخبر، فيما نستبعد أخريات كنا نعرف أن «ظرفها الموضوعي» لا يتيح لها بث الخبر أو نشره. وبقدر قليل من المبالغة والكاريكاتورية، يمكننا أن نقول إن تفجيراً في العراق استهدف مسجداً شيعياً من المستحسن أن نقرأ عنه في جريدة «الأخبار» أو «السفير» (قبل أن تقفل)، وأن غارة كيماوية للنظام السوري على الغوطة سنجد تفاصيلها في جريدة «المستقبل». وتابعنا أخبار الراهبات السوريات اللواتي اختطفن في القلمون عبر محطتي «أل بي سي» و «أم تي في».

اقرأ أيضاً: حماة 1982… وسوريا الجديدة

والحال أن الطوائف اللبنانية وأحزابها احترمت مساحات الطوائف الأخرى، واعترفت لها بحقوقها في بث الأخبار التي تناسبها، وكان ذلك جزءاً من توازن اعتقد الجميع أنه ضروري تفادياً لانهيار النظام الطائفي الهش. محطة «المستقبل» كانت في إحدى المراحل ناطقة باسم المعارضة السورية، في وقت كان «حزب الله» يقاتل إلى جانب النظام السوري، وبقي الاحتقان في حدود ما قبل الانفجار. القانون لم يكن يوماً فاصلاً في المنازعات الإعلامية، إنما العلاقات الطائفية وتوازناتها. وإذا كان «حزب الله» القوة العسكرية والأمنية المهيمنة على الحياة العامة في لبنان في السنوات العشر الأخيرة، فإن نفوذه لم يشمل ضبط الخطاب الإعلامي بما ينسجم مع نفوذه الأمني والسياسي.

هذه المعادلة اختلت منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وليس انتخابه ما تسبب في اختلالها، إنما ما مثله هذا الانتخاب من تتويج لطرف منتصرٍ وطامح إلى إحداث تغيير بنيوي في العلاقات الطائفية. وإذا كانت مؤسسة «آمنستي انترناشيونال» أشارت إلى «غيمة في سماء الحريات في لبنان»، فإن مؤشرات الاختلال تفوق ما رصدته المؤسسة الدولية، فبدءاً من قضية الصحافية حنين غدار التي حُكم عليها بالسجن 6 أشهر لأنها قالت أن الجيش اللبناني يميز بين إرهاب شيعي وإرهاب سني، ومروراً بالادعاء على الإعلامي مارسيل غانم، ووصولاً إلى الدعاوى التي وزعها أخيراً اللواء جميل السيد على عددٍ من الصحافيين، كل ذلك يوحي بأن شعوراً لدى السياسيين اللبنانيين بأن التوازن الذي كان يحمي الإعلام لم يعد قائماً، وأن الوقت قد حان لتضييق مساحة الإعلام تسهيلاً لمهمة الابتلاع الكبرى التي يتهيأ لها المنتصرون.

ووسط موجة الابتلاع هذه، ثمة من انسحب من المعادلة التي كانت ضابطاً للعلاقات بين الإعلام وبين الجماعة المنتصرة، وهذا المنسحب لا يتصرف بصفته مهزوماً، إنما بصفته شريكاً جديداً للمنتصر وساعياً إلى تقاسم المغانم معه. فرئيس الحكومة سعد الحريري لم يعد معنياً بحماية إعلامٍ كان إلى الأمس القريب لاعباً أساسياً في مواجهة كان الرئيس في صلبها، ووزراؤه يقفلون هواتفهم تفادياً لإحراجهم بموقف إلى جانب صحافي مستهدف. وروائح الصفقات في الشراكات السياسية الجديدة تُزكم أنوف الحلفاء السابقين وتطيح أي «نخوة» تستدرجها صداقة صارت من الماضي.

أما الموضوع الأبرز في هذا الاختناق، فهو ما بدأ يتكشف من قضية الفنان البيروتي زياد عيتاني الذي أوقف قبل أشهر قليلة بتهمة التعامل مع إسرائيل، وإلى اليوم لم تكشف الجهات الأمنية تفاصيل ما نُسب إليه، لا سيما أن ما تم تسريبه لحظة توقيفه هو حكايات خيالية، فهو بحسب ما سُرب «جُند بهدف التطبيع مع إسرائيل»!

لبنان على أبواب انتخابات نيابية، والمرشحون الشرهون يملأون اللوائح. ويبدو أن الإعلام عائق يجب ترويضه طالما أن الصفقات الانتخابية ستكون موازية تماماً لصفقات المال والأعمال. أما «شد العصب المذهبي»، وهو شرط للصوت التفضيلي في قاموس القانون الجديد، فهو التقنية التي قد تدفع القضاء اللبناني للتحوُّل إلى معصرة للحريات.

السابق
جميل السيد يدعو إلى مؤتمر صحفي لإعلان ترشحه كمرشح مستقل!
التالي
اليمن من منظور أمني استراتيجي