الحكم باسم الله وجذور العنف الديني لدى جماعات الإسلام السياسي

علي الأمين

أوهام “النطق باسم الله على الأرض”، هي السبب الرئيسي في إنتاج هذا الكم الهائل من العنف والدموية لدى الجماعات الإسلامية، ذلك أن الخلل يتعلق بحالة تشريعية مدلسة، تمثلت في تقديس قراءة الأولين للنص المقدس دون النظر في الأطر والمعطيات والملابسات الزمنية والاجتماعية، هذا بالإضافة طبعا إلى عوامل سياسية واقتصادية راهنة، صبت الزيت على النار في ظاهرة تفاقم آفة التطرف والإرهاب التي يعيشها عالم اليوم.

تفكيك منظومة الاستبداد والعنف صلب في منظومة الإسلام السياسي في عالمنا العربي اليوم، يجب أن يتركز على البحث والتفكيك لجوهر الثقافة الإسلامية، ولا نقول الدين، ذلك أن المسلمين عموما ولا سيما في المرتكزات المعرفية والأسس الثقافية للخطاب الديني العنفي لدى جماعات الإسلام السياسي الأصولية والسلفية والجهادية، هم أسيروا النص الثاني، أي يقدسون التفسيرات التي نتجت عن اجتهاد العلماء الكبار في قراءة النص الأول المقدس أي القرآن والسنة النبوية، وأنتجوا فهمهم ورؤيتهم للإسلام في القرون الأولى بعد الهجرة النبوية، ولكن ما حصل بعد ذلك أن المسلمين عموما تحولوا إلى حراس لهذا الاجتهاد والفهم اللذين هما نتاج اجتهاد علماء كبار، بما توفر لديهم من أدوات معرفية في مرحلة زمنية معينة وفي ظروف سياسية واجتماعية محددة.

تقديس النص الثاني أي التفسير والاجتهاد اللذين تم إنتاجهما قبل أكثر من ألف عام، واللذين تحولا في وعي المسلمين إلى معبر إلزامي نحو النص المقدس، هو ما يتعارض مع فكرة أن القرآن كتاب هداية لكل زمان ومكان، إذ أن مقتضى الإعجاز القرآني أن يكون نصّا قادرا على مخاطبة الإنسان في كل الأزمنة وبالتالي خاضعا لعملية تفسير واجتهاد دائمة لا تتوقف مادامت الحياة تتغير ويكتشف الإنسان وسائل معرفة جديدة.

اقرأ أيضاً: إيران والحاجة إلى حرب…

ما دام المسلمون لا يطرحون الأسئلة الصعبة في كيفية تطهير ثقافتهم من عناصر العنف، فلا يجب أن يستنكروا ظهور داعش
وهنا يحضرني ما قاله الشاعر الكبير محمد إقبال، إنه دخل عليه والده حين كان طفلا يتلو آيات من القرآن الكريم، فقال له يا بني اقرأ كتاب الله وكأن آياته تتنزل للتو. في هذا القول دعوة عميقة إلى إعادة الاعتبار للنص القرآني ككتاب هداية من دون وسائط ملزمة بين الخالق والمخلوق.

من وجهة نظر سوسيولوجية وإنتروبولوجية وتاريخية كما يرى العديد من الباحثين المجددين أن “الدين الإسلامي هو دين تاريخي تكون في سياق سياسي واجتماعي معين، وأنتج منظومة من التشريعات والتكليفات أفرزها الاجتماع وأنساق التغيير التي كانت سائدة في ذلك الزمن”، لذا لا يمكن أن تتحول الدعوة إلى القتل والقتال إلى مبدأ كلّي، لأنه لا يمكن للدين بما هو دين، وبما له من مرجعية أخلاقية مطلقة (الخير والسلام والمحبة والصفح والعفو والعدل والمساواة…) أن يقر القتل باعتباره مبدأ مطلقا، أو مرجعية للأخلاق الصالحة لكل زمان ومكان.

لذا ما دام المسلمون لا يجرؤون على إجراء مراجعة نقدية لتاريخهم ولا يطرحون الأسئلة الصعبة في كيفية تطهير هويتهم وثقافتهم من عناصر العنف، فلا يجب أن يستنكروا ظهور تنظيم داعش طالما أن أفراده يدعون أنهم يستلهمون صورة رسولهم في أفعالهم ويحيون سنة الشريعة.

العنف الديني في العصر الحديث هو رؤية خاصة للدين ودور الدين في المجتمع الإنساني، لذا فإن التطرف ينبثق عن رؤية تتضمن أن تغييب الإسلام عن شؤون الحياة هو نوع من الكفر بالإسلام، وأنه يشكل رغم تقدم العلم صورا من صور العودة إلى الجاهلية، وليس لديهم، أي المتطرفين، القدرة، أو لفكرهم الديني القدرة على استيعاب الكثير من المتغيرات مما يدفعهم إلى الاعتقاد بأن الاجتماع الإسلامي إما أن يكون اجتماعا على الصورة المثالية التراثية التي يؤمنون بها، وإلا فهو يكون اجتماعا كافرا، هذه رؤية لا يقرها العقل ولا يقرّها الدين، وهي ادعاء باطل وتطرّف في فهم الدين الإسلامي وتدخل فيه عناصر بعيدة عن الدين، منها عنصر الرغبة في السيطرة والهيمنة وامتلاك السلطة باسم إعلان تقديس الدين واستغلال شعور المؤمنين البسطاء.

وهذه النظرة تشكل عنصرا حيويا في خطاب معظم جماعات الإسلام السياسي، انطلاقا من مقولة خادعة وهي أن الإسلام دين ودولة، وأن القرآن دستور المسلمين، وفيه كل الحلول الجاهزة لأزمات الدول والمجتمعات والعلاقات بين الدول، ويختصر كل ذلك الشعار الخادع أن “الإسلام هو الحل”، “فالقرآن ليست فيه أي إشارة إلى معنى الدستور وإلى تنظيم مؤسسات الدولة، ولا إلى مفهوم السيادة وحقوق المواطن، بل هناك مبادئ سلوكية وأخلاقية وبعض أنواع الحدود والعقوبات”.

لذا فإن القول بأن الإسلام “دين ودولة” كما تردد معظم منظمات الإسلام السياسي على تنوعها هو افتئات على الحقيقة أي على الدين نفسه، الذي لا يمكن أن يُحمل ما لا يحتمله، فحتى الخلافة كنظام اعتمده الخلفاء الراشدون للحكم، لم يرد ذكرها في الكتاب ولا في السنة، بل هي صيغة ابتدعها المسلمون آنذاك وكانت في زمانها الصيغة التي رأوا فيها المصلحة والمنفعة في حسن إدارة شؤون الناس وتدبير أمور الاجتماع في ذلك الزمان.

هذا فهمهم لحاجات اجتماعهم قبل 14 قرنا، وأن يحقق هذا النموذج في زمانه إنجازات فليس لأنه منزل في كتاب الله، بل لأنه كان الصيغة التي اجتهد المسلمون بما يملكون من معطيات في بيئة لها ظروفها الخاصة، وخلصوا إلى نموذج الخلافة.

ما نريد قوله إنها كانت صيغا للحكم قابلة للتقييم، لكنها هي نموذج عاجز عن الإجابة على تحديات عصرنا، لا سيما أن التاريخ الإسلامي وبعد مرحلة الخلفاء الأربعة، لم تكن الخلافة فيه هي العنصر المضيء في الحضارة الإسلامية، خصوصا أنها قامت ومنذ العهد الأموي إلى نهاية السلطنة العثمانية في العموم على قوة القهر والغلبة.

ولمن يتعصب للدولة الدينية نذكره بأن تاريخ المسلمين السياسي في أغلب حقبه، كان المسلمون فيه يخضعون للدولة الدينية، وإذا ما عدنا إلى هذا التاريخ، لوجدنا أن السلطة باسم الدين كانت وبالا على الدين وعلى السياسة معا، ولذا يجوز القول إن الصدمة التي أحدثها انهيار السلطنة العثمانية ودخول العرب والمسلمين في المرحلة الاستعمارية مطلع القرن العشرين، أسست لنشوء تيار الإحياء الإسلامي الذي كان أسير الصدمة الحضارية التي سببها تفوق الغرب وتخلف المسلمين، فكانت الدعوات إلى إحياء الكيان الإسلامي الجامع أشبه بالدعوة الرومانسية المسكونة بسؤال الهوية وبحلم استعادة الدولة الدينية علما أن تاريخ المسلمين السياسي في أغلب مراحله لم تكن فيه “الخلافة لتعصم من التخلف والاستبداد وصولا إلى الانهيار الذي كان انهيارا من داخل الكيان الإسلامي قبل أن يكون بسبب فعل خارجي”.

مسألة تسييس الدين وتديين السياسة هي المعضلة التي تواجه الاجتماع السياسي الإسلامي اليوم، وتجد جذورها على امتداد التاريخ الإسلامي وتستقي من التراث أو النص الثاني مصادر بقائها مشتعلة في دولنا العربية والإسلامية، وفي هذا السياق تقول الباحثة اللبنانية د. هلا أمون “إن أبرز ما يميز العقل الديني الذي يقحم العصمة والقداسة في ممارسة السياسة، هو رفضه لتنوع وتعدد المشروعيات وادعاؤه بأنه الوحيد الذي يملك الحقيقة التي لا يأتيها الباطل، وأن من يرفض حقيقته فهو يرفض الدين نفسه، ومن هذا الادعاء تختم الباحثة هلا “تنبع كل مظاهر الغلو والتطرف والاستبداد واستخدام العنف المقدس مع المخالفين والخصوم”.

وفي سياق شرعية السلطة التي تقوم في البنيان الثقافي لمعظم الحركات الإسلامية على الحق الإلهي، يقول العلماء إن الدولة بالضرورة، هي دولة مدنية ولا علاقة لها بالدين، فإذا كانت الدولة الدينية تعني السلطة باسم الدين وهي فعلا كذلك، فإن هذه السلطة لا شرعية لها على الإطلاق، إذ لا يجوز أن يكون الدين غطاء لأي سياسة بما يعني أن مصدر الشرعية للدولة هو الدين، الذي يقضي بالضرورة أن يكون ممثلوه هم رجال الدين، فقد أصبح من الضروري أن يحسم هذا الجدل لصالح أن الدولة لا تكتسب شرعيتها، إلا بالعقد الذي يقوم بين السلطة وشعبها.

السابق
راشد صبري حمادة: ثوابت في انتخابات بعلبك – الهرمل
التالي
هذه ليست «F16» إنّها «الله»