استسلام

سناء الجاك

“علينا ان ننسى المواقف الاستراتيجية لأنها لا تفيدنا، ونركز على الأمور الحياتية”، قالها وزير لبناني رداً على محاوِرته التي سألته عن احتمال سيطرة “حزب الله” على البرلمان اللبناني في الانتخابات النيابية المرتقبة، مضيفةً ان القانون الجديد وُضع على القياس لتحقيق هذا الهدف.

معه حقّ معالي الوزير. لِمَ وجع الرأس بأمور تفوق حجم الطبقة السياسية الحاكمة، او التي تحسب انها حاكمة؟! ولِمَ المواجهة التي لم تؤدِّ الا الى اغتيالات واختلالات في الامن وتفجيرات هنا وهناك وأزمات تشل البلد وتهدد الاستقرار؟!

اقرأ أيضاً: معنى أن تكون معارضاً في لبنان

كله الا الاستقرار. فهو الشعار الماسي لتبرير ما نحن فيه ولتجنب الملفات الخلافية التي تتعلق بالمواقف الاستراتيجية التي يريد معاليه ان نتجاهلها، لتنحصر المشاكسات في خلاف على مرسوم أقدمية وترقية ضباط وتعيين موظف فئة أولى وتناتش حصص وتراشق باتهامات عن صفقات تنهش ما تبقى من مال عام. في قمة الشيزوفرانيا، تتوج هذه الصورة بتكليف شركة اجنبية وضع خطط لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، وتتجاهل عبثية أي خطة، ما دام السلاح الممانع اقوى من الدولة، وما دامت مداخل لبنان من حدودها الى مطارها الى موانئها خارج المراقبة، والفلتان فيها على عينك يا لبناني، وما دام القضاء مشلولاً او استنسابياً، وكأن العلة في الخطط وليس في مصادرة المواقف الاستراتيجية.

بعد ذلك، يصنف أي كلام يمس هذا الاستقرار بأنه شعبوية ملعونة تقوض الوحدة الوطنية.

ربما معالي الوزير على حق. فلنضع الثوابت في الدرج. يكفي اننا نعرفها جيداً. لكن المرحلة تتطلب ان لا تقاوم عين هذه الثوابت مخرز فائض القوة الإقليمي وحتى الدولي الذي لا يملك الوقت الا لمعالجة القضايا الجسام.

فلنضع الثوابت في الدرج ولنكتف بالهموم الصغيرة المفترض ان يتولاها من فضّل الاستقرار، الذي يسمح لنا بالحصول على خبزنا كفاف يومنا وعلى ما يكفي لدفع فواتير كهرباء الدولة وكهرباء المولدات، وبعدها تكاليف شراء مياه الاستعمال ومياه الشفة، وبعدها الأقساط المدرسية العالقة بين إدارات المدارس الخاصة الرافضة الكشف عن حساباتها ومساعي الدولة لدعم هذه المدارس على حساب المدرسة الرسمية الفاقدة جاذبيتها وأهليتها.

ويكفي ان نشكر ربنا صبحاً ومساءً، عندما يعود أولادنا الى بيوتهم من دون ان يصيبهم مكروه، إن خلال قيادتهم على طرق الموت اللبنانية او على يد من لا يعرف أصلاً ان في لبنان قوانين تمنع القتل ومن يتصرف وكأن قانونه أقوى من قوانين العقوبات والنظام القضائي اللبناني المهترئ والمحتاج الى إعادة بناء، من كعبه حتى قمة رأسه على أسس سليمة.

يكفي الاستقرار المهزوز والامن بالمصادفة والاسترزاق بما تيسر، مقابل التنازل عن الاستراتيجيات التي تبني الدول وأمنها وقضاءها ونظم دفاعها وتنسج علاقاتها الخارجية. ولا سيما بعدما اكتشفت الطبقة السياسية ان البقاء في سلطة ممسوخة أفضل من النضال خارجها.

في المقابل، القابض الفعلي عى مفاصل البلاد يتعالى ويأنف من هذه النزاعات الصبيانية لأن اهتماماته تتجاوز الدكّان المحلي الى السوبرماركت العالمية. فهو يخطط لتوحيد القيادات الفلسطينية ودعمها بالسلاح وإدارة الانتفاضة التي ستؤدي الى تحرير القدس، ويعمل ساعات إضافية لتغيير الكون وفرض هيمنته على طرق الحرير. كله بـ 1300 دولار لا غير. يا بلاش.

فالفرق ساشع بين من يواجه أزمة مرسوم ومن يواجه الاستكبار العالمي وشياطينه، وتحديدا الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتصدي لإعلانه نقل سفارة بلاده الى القدس، وفتح التحقيقات لملاحقة مبيّضي الأموال من “حزب الله” ودعوة مجلس الامن ليناقش احتجاجات الايرانيين، ما اعطى نظام الولي الفقيه ذريعة سريعة وفعالة لقمع المحتجين الجائعين ومنحه الحجة للزج بهم في السجون واخراس اصواتهم، ناهيك بنبش بنود الاتفاق النووي المقرون بفترة سماح، وفرض عقوبات لم تؤد حتى تاريخه الا الى مزيد من توسع المشروع الإيراني في المنطقة عبر الحروب. وكأن المخطط الأميركي الذي يتواصل منذ فترة، يقضي بزيادة شعبية من يتحدى قائد الدولة التي تدير العالم. وكأن تقاطع المصالح بين الولايات المتحدة وإيران وأذرعها، قائم مهما كانت السيناريوات او الاشخاص الذين يتولون تنفيذها.

لذا علينا ان ننسى المواقف الاستراتيجية، ونغرق في الازمات المعيشية التي يشكو منها المسؤولون ويشرحون معاناتهم جراء استفحالها. كأنهم هم الضحية وليس الشعب اللبناني. يسلبون المواطن العادي حتى حق الشكوى، وتحديدا في مواسم الانتخابات حيث وتيرة المزايدات على أشدها.

لذا لا يريد قادة القوى الرئيسية التي تدير البلاد ان يسائلهم أحد عن سبب استسلامهم وتخليهم عن أي استراتيجيات مقابل البقاء في مناصبهم، حتى انهم لا يرون حرجاً في تقلص احجامهم النيابية بموجب القراءات الاستباقية لنتائج قانون الانتخاب الحالي. همّهم البقاء في مواقعهم.

لا يريدون من يلفت نظرهم الى ان التصريحات والخطابات الساذجة التي يتحفوننا بها، تروّج لتكريس “حزب الله” قوة دولية وإقليمية، من الأفضل الاستسلام لها تجنباً للبقاء على الهامش.

ونحن علينا ان نقتنع بأن المفهوم الحديث للوحدة الوطنية في هذا الزمن يتطلب ان نخرس وننطوي ونستسلم رسمياً ونغض الطرف عن شرعنة السيطرة على مفاصل الدولة عبر انتخابات تسلم مجلس النواب الى “حزب الله”. وحينها “يا عين صُبِّي دمع”!

السابق
النيابة العامة السعودية أفرجت عن موقوفين سعوديين بفندق الريتز كارلتون
التالي
سلاح غير شرعي… وسياسة واقتصاد