عبدالناصر استلهم مسيرة الرسول العربـي في وحدة العرب

إنها ذكرى ولادة جمال عبدالناصر، اشهر وأقوى حاكم في المنطقة العربية خلال القرن العشرين، واذا أردنا استرجاع هذه الذكرى، فلا بد لنا من ان نتناول فترة حكمه ومرحلة قيادته لمصر، وأن نجيب على السؤال عن كيف كان عبدالناصر غير مسبوق بهذا النفوذ وهذه الشهرة كحاكم عربـي.

ان الظروف التاريخية التي قامت أثناءها الثورة المصرية على الملكية كانت تتطلب رؤية جديدة ليس في مصر فحسب، ولكن للمسألة القومية بصورة شاملة، خاصة وأن الثورة المصرية قامت بعد اغتصاب فلسطين بسنوات قليلة، بما طرح السؤال حول المستقبل العربـي في ظل هذا الاستعمار الاستيطاني، وكانت الأنظمة العربية كلها مهزومة وأصبح كل فرد من هذه الأمة يراهن على ظهور بطل يكون من شأنه ان يقود العالم العربـي نحو يقظة جديدة، وكان جمال عبدالناصر، والحق يقال، مدركاً لهذه الحاجة، مالكاً الكفاءات والصفات القيادية، متفهماً لإرادة الأمة، باتجاه نهضة قومية تكون قضية فلسطين محوراً لها.

وهكذا نجد ان عبدالناصر حاز على ولاء الجماهير في المنطقة العربية كلها، وقد حقق عبدالناصر في مصر إنجازات سياسية واقتصادية، واتجه بداية الى تعزيز الاقتصاد، فقام بثورة صناعية وأمر ببناء المصانع والمعامل، كما قام بدعم الزراعة بعد تأميم أراضي الباشوات والاقطاعيين ليعيدها من مستغليها إلى من يعتبرهم مالكيها، وكان موفقاً الى حد كبير وليس الى الكمال في إصلاحاته الداخلية، غير ان الهم الذي كان يسيطر عليه أكثر من سواه هو هم الوحدة العربية، مدركاً ان الشتات العربـي لا يمكن ان يكون له حضوره الفاعل من دون الوحدة، والحق يقال، انه كان يستلهم ذلك من مسيرة الرسول الأعظم التي اتسمت قبل إنجازاتها الكبرى في الفتوحات وفي خضوع جزء كبير من العالم الى المسلمين، وذلك بسبب نجاح الرسول الأعظم في توحيد الجزيرة العربية.

إقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الامين في ذكرى الثورة في ايران (1): يتذكّر الامام الخميني

من هنا كان لا بد لعبدالناصر ان يركز على وحدة العالم العربـي، ولهذا السبب أصبح هدفاً للدول الاستعمارية التي كانت تحتل البلاد العربية، وقد كافح وناضل ضد هذا الاستعمار لدرجة اتهم فيها جهلاً وتجهيلاً بأنه أهمل مصر ومتطلباتها، والحق انه كان يعتبر ان مصر لا يمكن ان تأخذ دورها إلا عندما تكون طليعة لهذه النهضة العربية المنشودة.

اليوم وبعد مرور 100 عام على ولادة عبدالناصر يتأمل العربـي بأسف شديد ضياع الجهود القومية، وينظر الى الإنجازات التي تحققت على أنها لا تساوي الثمن الغالي الذي دفعه العرب وما زالوا يدفعونه، خصوصاً ان القضية الفلسطينية التي كانت هدف التحرير الاساسي، تراجعت على الرغم من ثورة الشعب الفلسطيني التي لا بد ان نعترف بأن عبدالناصر كان عاملاً حاسماً او اساسياً في إطلاق هذه الثورة ودعمها عام 1969، وتبني نهج الكفاح المسلح ضد اسرائيل.

ونحن إذ نقيم هذه الشخصية تقييماً عالياً، ونثمن نواياها القومية والنهضوية، فإننا ندرك ما تمتعت به هذه الشخصية من كاريزما كان من شأنها لولا أخطاء كثيرة لأنجزت الجزء الأكبر من مهمات النهضة العربية.

لكن عبدالناصر مع الأسف جاء من زمن آخر غير زماننا هذا، وكان رغم إخلاصه الشديد، قد تحول الى نموذج الحاكم الفرد، وربما آنذاك وضمن الظروف العربية والعالمية، يبدو ان الأمر كان يحتاج الى بطل فرد، إلا ان الحقيقة هي ان تجربة الحكم الفردي كانت دائماً وما زالت مشكلة في تحقيق النهضة، لذلك نعتبر ان الدول والحكومات العربية التي ما زال الحكم فيها ديكتاتورياً من الطبيعي ان تكون دولاً فاشلة، وعلى الأخص في زمننا هذا، وما نشهده اليوم من نزاعات بينها، ونحن نشعر ان الأدوار التي أداها عبدالناصر في العالم قد ضمرت ولم تعد هدفاً للعرب، بل أصبحت المسألة القُطرية مهددة بالإنقسام بدلاً من التئام الدولة مع الدول العربية الاخرى.

العلامة السيد محمد حسن الامين، مفكر اسلامي
والسؤال يبقى: هل ان مشروع جمال عبدالناصر ما زال قابلاً للحياة والانبعاث من جديد؟ والجواب ان ماهية مشروع عبدالناصر ومضمونه ما زال قائماً وملحاً، فالدول العربية هي اليوم اكثر حاجة الى الوحدة والتكامل، أما من ناحية الاسلوب الذي اتبعه عبدالناصر فالأمر اليوم مختلف من حيث الشكل ومن حيث تحديد الأولويات التي تأتي في مقدمتها أولوية الإصلاح الديموقراطي لأنه ثبت عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن خصوصاً، أنه لا نهضة ولا قوة ولا تفوق لمجتمع من المجتمعات الانسانية دون استيعاب الديموقراطية والحرص عليها، وهذه الروح، أعني الديموقراطية في عالمنا المرئي ما تزال محاصرة بالنزعات الديكتاتورية وانشداد الحكام نحو السلطة الفردية.

إقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الامين: فتاوى حسن الترابي للتجديد وتجاوز السائد‏

اما عن إشكال الوحدة اليوم وهل ان المطلوب هو قيام وحدة عبدالناصر بحذافيرها، اي الوحدة الاندماجية، فنقول ان ((الزمن لا يعيد نفسه، ونحن في عالم متغير تتبدل فيه حاجات الشعوب وطموحاتها، فشكل ((الوحدة الاندماجية)) غير مطلوب حالياً، وثمة أشكال من الوحدة الاقتصادية السياسية الحديثة البديلة ظهرت في عالمنا اكثر واقعية، كمثل وحدة ((الاتحاد الاوروبـي)) التي تشكلت نهاية القرن الماضي مع قيام ((الاتحاد الاوروبي))، وهي توخت الوحدة الاقتصادية بداية، وتتطور ببطء ورؤية مستندة في مسيرتها الى دراسات وأبحاث علمية واستراتيجية لتحقيق ما فيه فائدة ورخاء لشعوبها، فهذه الأشكال من الوحدة لا تعارض الاحتفاظ بخصوصيات الشعوب المتعددة، وهذه هي الأقرب للتحقق اليوم من الوحدات الاندماجية، اذ انها تحافظ على الهوية الوطنية، واستقلال هذه الهوية. وهذا درس تعلمناه من خلال مسيرة عبدالناصر، التي وإن استندت الى العاطفة القومية الجياشة والصادقة في ذلك الزمن، ولكنها حاولت تجاوز تلك الخصوصيات واتجهت نحو مشروع الوحدة الكاملة الاندماجية، ففشل نموذجها المعروف بالوحدة بين مصر وسورية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الفائت.

وفي كل حال فنحن العرب اليوم لسنا أمام تحديات الوحدة الشاملة ولا نطمح اليها ان كانت قومية او اسلامية، خصوصاً مع غياب القائد الرمز الذي مثلته شخصية عبدالناصر الاستثنائية، لا لأننا لا نريد الوحدة، ولكن لأن الخطر الداهم الذي يجب ان نواجهه اليوم هو مشاريع التجزئة داخل دولنا الوطنية، وهي مخاطر حقيقية جلية نشهدها تحديداً في الحروب الطاحنة الدائرة داخل عدد من الدول العربية، فهذا هو التحدي المباشر الذي يجب ان نواجهه، والذي يدفعنا لإعادة النظر في أدبياتنا تجاه احترام استقلال دولنا ووحدتها، حتى لا تقع فريسة المزيد من التجزئة في داخل كل وطن)).
اننا وفي ذكرى ولادة القائد الملهم جمال عبدالناصر ندعو الى استلهام الايجابيات التي تميزت بها مسيرته، ويبقى ان ما تبقّى من هذه المسيرة قابل للنقد ولا يمكن نقد عبدالناصر إلا في جو ديموقراطي او بالأحرى كما نعبر نحن المسلمين، في جو من الشورى بين الحاكم والمحكوم، بل بين جميع الاتجاهات والأفكار المختلفة في مجتمعنا العربـي والاسلامي.

السابق
في النبطية: إمرأة ورضيعها مقتولان ومرميان إلى جانب الطريق
التالي
عين الحلوة في عيون شبابه: «غيتو» والجميع صامت