«الغزو الثقافي» أخطر من الصواريخ البالستية

سناء الجاك

الإبداع الأحدث للاستبداد في إيران، يعكسه إعلان منع تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس الابتدائية، بعدما حذّر الزعيم الأعلى للبلاد من أن تعليمها في سن مبكرة يفسح الطريق أمام “الغزو الثقافي” الغربي.

هدف الزعيم الأكبر نبيلٌ، حتى لو تجاهل ان نبي المسلمين دعاهم الى “طلب العلم ولو الصين”. السبب خوفه من مفاعيل هذا العلم المستحيل شلّ قدرته على نسف الأفكار الشمولية والإيديولوجية. لا تظلموه، فهو يشتري الجنة لشعبه ويحميه من الكفر والزندقة وكل المفاهيم الغربية التي تلوث عقولاً يجب ان تبقى مغلقة حتى يسهل التحكم بها.

ولا عجب إن سيق الى السجن او حتى حُكم بالإعدام، من تثبت عليه تهمة اجادة اللغة الإنكليزية فصُنِّف خائناً ومن عبدة الشياطين، فالثقافة التي تطلع من الانفتاح على لغات أجنبية في مفهوم الأنظمة الاستبدادية هي الشيطان الأكبر والأخطر من إبليس الذي رفض الركوع لآدم وعصى ربه. وهي “تغزو” العقول التي يفترض تحجيبها وتسطيحها وتنميطها، وهي تساهم في محاربة الديكتاتور وقتاله في عقر داره من دون أسلحة.

اقرأ أيضاً: حكاية تسجيلات ضابط مخابرات

الأنظمة الاستبدادية جبانة لا تمنحها الصواريخ البالستية قوة مواجهة “الغزو الثقافي”، فهي ترتعد من مظاهرة جياع وتخاف أصوات المحتجين وتسارع بالحديد والنار الى إبعاد صورهم عن الاعلام بغية وأد “الفتنة” والقضاء على من يثيرها.

الاستبداد يخاف مفعول الثقافة على العامة، ويقرنها بالمؤامرة. ويعتبرها خيانة عظمى ليس أقل.

في الأساس، كل من يقول “لا” هو خائن متآمر وناكر للجميل، سواء أجاد الإنكليزية او تحدث بلغة الإشارة عن جوعه وافتقاره الى الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم.

فعلاً قد تتصرف الشعوب أحياناً بنكران جميل لا يُحتمَل، ما يفرض اعادتها الى رشدها بكل الوسائل القمعية الجذرية، حفاظاً على مصلحتها قبل أي معطيات أخرى. حقاً هم ناكرون للجميل! ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ لا يقدّرون تضحيات نظامهم في سبيل إعادة أمجاد الأمبراطورية الفارسية. صبرهم قليل وحقير مثلهم. لا يعرفون ان حصاد المجد بات قاب قوسين او أدنى من طموح وليّهم الفقيه وحاشيته وأذرعه.

خسئ المشككون الذين يهتفون بالموت للمرشد، فقد علت أصواتهم في توقيت مثير للجدل. الانكى ان هذه الاحتجاجات ترجمت الى الإنكليزية وغيرها من لغات العالم الخارجي. من هنا كان لا بد من قطع دابر الفتنة التي تسعى الى تقويض لحظة وصول اللقمة الى الفم، مع احتمال تتويج الانتصارات الإقليمية بحصص وازنة في البازار الدولي الحامي الوطيس.

لذا لا يهم ان 35 % ممّن كتبت عليهم التضحية ليشهدوا هذا التتويج هم تحت خط الفقر، بالتالي هم ربما لا يجيدون القراءة والكتابة بلغتهم الأم. ولن يفسدهم “الغزو الثقافي”. لكن الاحتياط واجب. وربما. ربما طلع منهم شيطان غير أخرس موهوب وقادر على كسر القوقعة ليستفيد من حضارات تنير دربه الى المطالبة بحقوقه وحقوق اخوانه. حينذاك، من يلجم الاحتجاجات المدعومة بأفكار تطور أساليب المطالبة بأكثر من الخبز والبيض، وصولاً الى الحرية وحقوق الانسان.

ليس ذنب النظام القائم على الحكم الإلهي إن كانت البطالة تعمّ المجتمع، او إن نهبت أموال العباد في مصارف أفلست ولم تعوضهم، او مشاريع عمرانية استولى أصحابها على أموالهم وباعوهم الأوهام.

وعليه، ممنوع ان تتغير الصورة في إيران التي لا تختلف عن مثيلاتها في الدول القمعية. وطبيعي اللجوء الى عدة الشغل التي تفضح مدى الخوف من أي تحرك عفوي مهما كان محدوداً.

ولا هَمّ إن انكشف النظام ما دام قادراً على المنازلة في بازار الدم مع أطراف يماثلونه او يفوقونه اجراماً واستنسابية في ضبط إيقاع لعبة الحروب وقتل الشعوب. المستعضفون والمحرومون يجب ان يبقوا مستضعفين ومحرومين في الداخل والخارج كي تبقى الثورة وكي تبرر تصديرها الى حيث يشاء المستثمرون فيها.

الامر متوقع لمن يتابع سيرة النظام القائم على الحكم الإلهي ومسيرته الناجحة لتطويع المنطقة، بحيث لا يتلوث المشهد الممانع والمنيع بطفيليات من داخله او خارجه.

لمن لا يعجبه العجب، “عدة شغل” كاملة ومتكاملة قادرة على قتل جمهور جائع يريد ان يقتل الفقر تطبيقاً لقول الامام علي بن ابي طالب.

لكن العجب في العقل المقفل لديكتاتور يحسب ان في الجعبة ما يضمن انهاء الاحتجاجات من معالجة أسبابها. فلا تحويل بلد بأكمله الى معتقل مغلق ومحجوب عنه تطور الحياة خارجه، يمكنه لجم شعب جائع، حتى لو اعتبر من وأد الثورة في سوريا، ان القضية عنده لا تستوجب الا الحد الأدنى من الجهاد القمعي وقرار منع تعليم الإنكليزية منذ المراحل الابتدائية كي يضمن أجيالاً تتحرك كالرجال الاليين من دون ان تتمتع بذكائهم الاصطناعي، وذلك اسباقاً لأيّ احتمال يهدد التحكم برقاب العباد عبر تجهيلهم، إضافة الى تجويعهم.

إن لم يكن اليوم فغداً، ذلك ان لا شيء يمكنه منع البيض المستعصي على جيوب الإيرانيين من أن يفقس مزيداً من الثورات والاحتجاجات في مواجهة المزيد من القمع. فحركة الشعوب غالباً ما تفاجئ الاستبداد. ومن يسعى الى التجهيل ليحفظ رأسه يكون هو الجاهل الأول والأكبر.

السابق
بعد جرائم الدولة البيئية: محامون لبنانيون يتقدّمون بشكوى لدى الجنائيّة الدوليّة
التالي
بعد اضطهاد العائلة .. الإعلام اللبناني يتاجر بـ «عطور»!