في بيتنا كرسي متحرك!

لم أؤمن يوماً بمفهوم “الإعاقة”، بل كثيراً ما أنفر من كلمة “معاق”، ما من إنسان ناقص، كل منّا لديه امتيازات لا يزيد منها عضواً ولا ينقص منها عضو آخر.

هناك العديد من المواهب، ومن الأدمغة، فرضت ما لديها، دون الحاجة إلى عينين، أو قدمين، أو يدين، بقوة الإرادة.. إلا أنّ أغلب هؤلاء لم يولدوا في مجتمعنا الشرقي ولا في بيئاتنا التي لا تنّمي بل تحطم، والتي لا تمد اليد بل تقيد.

ربما أثرثر، وربما ما أقوله هو مجرد شعارات، ولكن حينما تستيقظ يوماً وتجد نفسك في هذا الواقع، عليك أن تستذكر كل هذه العبارات أن تحفظها جيداً، أن تدونها على قصاصات ورقية وتعلقها في غرفتك لا لتفهمها أنتَ المؤمن فيها بالفطرة بل لتقولها لمجتمع يعاني بأغلبه من عقدة نقص، فلا يرى الكمال إلا بمفهوم جامد “مثالي” على حسب ادعاءاتهم.

منذ عدّة شهور، أصبح في بيتنا كرسي متحرك، أذكر جيداً حينما كنت في الخامسة من عمري حينما كنا نزور قريبنا المقعد لم يكن الكرسي يخيفني بل كنت أحسد من يجلس عليه “مرتاح”، بعقلية ساذجة، بريئة، لا غبار عليها.

اليوم، هذا الكرسي جزء من حياتنا، هو لوالدي الذي لا علم لنا إن كان سيمشي مجدداً أم لا، وإن كانت عمليات البتر ستتوقف وسيتم مكافحة الالتهابات أم أننا سنواجه قطع أطراف جديدة، ببساطة لم يعد جالس هذا الكرسي هو “المرتاح” الذي كنت أحسبه.

مما لا شك أننا نعايش مرحلة دقيقة، وعصيبة، ولكن “بتر” الأطراف، هو لدواعي طيبة، وأن يتعامل المرء مع كرسي متحرك هو واقع لا مفر منه، قد يتغلب عليه وقد يفرض عليه التعايش معه. بينما الإشكالية حقاً هي في المجتمع، في النظرة السخيفة الحمقاء، التفكير المحدود، الاستعلاء نوعاً ما، الخجل.

والدي حينما لا يكون في المستشفى يظلّ في غرفته، هو لا يعيش حالة نكران وإنّما تصالح، ولكن الآخرين هم الآفة حقاً، أسلوبهم في قتل المريض، في إطلاق الرصاصة الرحيمة، في القول له “أنت لا تستحق الحياة”.. أنت لست مثلنا!
يرغب والدي أحياناً التنزه، الخروج من سجنه البارد، غير أنّه كان يواجه تعليقات سطحية ومؤلمة، أحياناً يتحداها، وفي أحيان أخرى كان يمتثل لها لألمٍ يحل به لا جسديا وإنّما نفسياً.

أذكر جيداً، في إحدى المناسبات العائلية الفرحة، كان وضع والدي الصحي جيداً وأراد الذهاب وحضورها، قال له أحد المقربين جداً، “لا ضرورة لذهابك بالكرسي”، والدي هنا شعر بضيق لم يره أحد وكان بصدد الامتناع عن الذهاب لولا أني في حينها ربطت حضوري بحضوره “ما بتروح مني رايحة ومنضل بالبيت”، لم يشأ أن يحرمني من الذهاب ولنقل لم يشأ أن يحرم نفسه قبلي، فذهبنا، وكانت سهرة ممتعة كان فرحاً طبيعياً، وأولئك من حاولوا إحباطه هم الناقصون.

هذه الإشكالية، تحوّلت إلى سجال يومي، بين أصوات توصف المرض بالإعاقة، توصف من خسر أطرافه بالـ”معاق”، أصوات هي أخطر على المريض من المرض نفسه وأكثر ألماً من كل الصرخات الموجعة التي تصيبه.

إقرأ أيضاً: ما بين ذاكرتين: والدي والتبغ

السابق
نحن شعب الله المختار؟
التالي
تفاصيل الجريمة التي أردت ابن دير انطار حسين حجيج قتيلاً: القاتلة ابنته!