«عين ورده»..الحكاية اللبنانية في طبعتها الثانية

كتاب
رواية الكاتب والرّوائي اللبناني جبور الدويهي، الموسومة بـ "عين ورده"، هي "رواية الحياة اللبنانية"، كما وصفها الكاتب والصّحافي الشهيد سمير قصير، في مقال خصَّها به، بعد صدور طبعتها الأولى في الـ2002، نُشر في جريدة النّهار. كما وُصِف نصّ هذه الرواية، وفي جريدة النهار أيضاً بأنه "نَصُّ روائي مدهش".

وقد صدرت “عين ورده”، حديثاً وفي طبعة ثانية، (عن “دار الساقي” في بيروت في مطلع الـ2018).

وتتألف هذه الرواية من 25 فصلاً. وتدور وقائعها حول الأجواء الآتية: نهاية غير متوقعة كانت بانتظار رضا، لاعب الشطرنج الأنطوائي، الذي ما إن فتح عليه حبّ ناديا أبواب الدنيا، حتى أُغلقت في وجهه. لعنة الوقف الذرّي التي تلاحق بيت الباز في عين ورده لم تكن الوحيدة. ثمة “مصائب” أخرى!

كانوا يحبون أن يكون بيتهم عامراً بالضيوف، لكنهم في ما بينهم يسعون وراء الخلاف سعياً. وإذا التقوا، يشتكون، ويتفرقون بسرعة تحاشياً للخلاف الذي لم يكن ليتأخّر إذا طال الكلام.

اقرأ أيضاً: بطل حسن داوود يتوه «في أثر غيمة»

وتُستهلُّ “عين ورده” على الشكل التالي: يمكن سالك طريق “جبال بيروت” في اتجاه بلدات الاصطياف، إذا خطف نظرة من شباك سيارته إلى يمين السائق قبل الوصول إلى قرية عين ورده المشهورة بقديسها مار نهرا، شفيع البصر والقادر على شفاء المي الزرقاء والرمد الربيعي، يمكنه أن يلمح بيتاً قديماً بطابقين عاليين يدير كتفه مواربة إلى الطريق العام. وفي مقدور الناظر، لو ثبت عينه خلال الثواني القليلة التي يظهر فيها عليه البيت، أن يلاحظ واجهة من القناطر الشويرية وشجرة سنديان وارفة ومجموعة من الانتينات من مختلف الأحجام إضافة إلى هوائي من القضبان الحديدية والأسلاك الرفيعة على شكل صليب شاهق يبقى وحده ظاهراً بعد الاختفاء السريع للبيت وراء هضبة صغيرة من الحور الخشخاش. ولولا هذا الدليل على وجود سكان في هذا المنزل من أبناء زمانهم، أي مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، لسهل الاعتقاد أن هذا البناء من الحجر السماقي الأحمر هو من بقايا البيوت التي زرعها مغتربو الجيل الثاني إلى الأميركيتين على منحدرات جبل لبنان الغربية في العشرينيات والثلاثينيات. وكان أولاد باعة الكشة الميامين هؤلاء، بعد أن يفتحوا لهم مخزناً في إحدى المدن الصغرى من ولاية ألاباما ويلتقطون لأنفسهم صوراً فوتوغرافية أمام واجهاته الزاخرة بالبضائع وهم يرتدون مراويل العمل البيضاء النظيفة وعلامات الاجتهاد بادية على وجوههم، يستنخبون قريباً لهم من أهل الثقة لم يبارح القرية، فيرسلون إليه الأموال والتعليمات المفصلة كي يشيد لهم بيتاً مطلاً على البحر يضاهي بيوت المشايخ الذين أشبعوا آباءهم بؤساً وعجرفة. وبقوا حتى الأربعينيات، إذا رجع أحدهم من هناك والتقى أحد هؤلاء المشايخ الذي لم يحافظ من منزلته إلا على الطربوش وبعض الجلول الصخرية التي تكون عادة مرتعاً للأفاعي والتوت العلّيق، وعرّف العائد بنفسه أنه ابن فلان، صاح الشيخ فرحاً بذاكرته التي لم تخنه يوماً، وأمانة منه لتراث عريق من الاحتقار للمهن اليدوية:

آه… عرفتك، أنت ابن الصريماتي!
لكنهم عموماً لا يرجعون. فإن ظروف العمل وزواج أبنائهم ببنات تلك البلاد وساتقرارهم هناك كانت تحول دون تقاعد المغتربين المرتجى في مسقط رأسهم، فيبقى منزل أحلامهم في عهدة ابن عم ضعيف الموارد إذا تساقطت بقع من سقف الجفصين الملوّن، كنسها متأسفاً، ولو انخلع شباك الخشب القطراني، سدّه بصفيحة من الحديد الصدئ. مع ذلك يبقى حنينهم مرفرفاً، كما يحلو القول، في الغرف الباردة فيكسبها دفئاً وألفة.

كتاب عين ورده

ولو أكمل السائق صعوداً، وترجّل على يمين الطريق أمام أقرب دكّان يتباهى ببراد الكوكا كولا الأحمر اللون، وسأل العانس القائمة عليه وهو يدفع لها ثمن قنينة مياه معدنية مثلجة عن بيت القرميد هناك، لأدرك من تشويرتها بيدها التعبة وعلامات التبرّم التي ارتسمت على وجهها الأسمر الحادق أن المرأة صاحبة الشعر الأشعث الذي ضربه المشيب بقعاً متفرقة لم تشتم فيه “رائحة أنس”. ربما بسبب لهجته البعيدة عن لهجة هذه الأنحاء حيث تختم جميع أفعال النفي بحرف الشين، وحيث ينظر إلى خلق الله أنهم صنفان لا ثالث لهما: القريب والغريب، بتسكين حرفي القاف والغين على التوالي. فالمرأة تفضل لفت انتباهه إلى باقات الفجل الحمراء الضاحكة وعمارة التين الساحلاني الأبيض التي تعرضها أمام قاصدي بلدات الاصطياف العالية. وإذ كرّر السؤال نفسه على صاحب محطة الوقود البدين الذي يحشر بين رقبته السميكة وطوق قميصه منديلاً أبيض يمتص به عرقه، في الجهة المقابلة من الطريق على بعد أمتار من الدكان، ولم يحصل منه سوى على سؤال مقتضب: “هل تريد منهم شيئاً”؟

اقرأ أيضاً: العلاقات الأميركية – الإيرانية في كتاب «بين الشّاه والفقيه» لوسام ياسين

كأنه وكيل أعمالهم، فهم أنه لن يفوز بالمزيد. وأدرك أن أهل عين ورده الذين فتحوا لأنفسهم أبواب رزق على جانبي الطريق العام التي تحاشت عند شقها في الأربعينيات قريتهم لأسباب يقولون إنها سياسية، قد حافظوا على طبعهم القروي الحرون رغم تعاطيهم اليومي مع العابرين. وخلافاً لم يشيّع أدباء القرية اللبنانية حول جهوزية أبناء الجبل شبه الدائمة لسرد الأخبار، فإن أهل هذه المزرعة الصغيرة لا يبدون ميلاً يذكر إلى إطلاع الغريب على أحوالهم، بل يحاولون إذا صدف وتوسعوا في الحديث اصطياد أخباره والتذاكي عليه بالتعرف إلى مهنته ومقصده مفضلين السكوت في ما يعنيهم عن “ذهبهم وذهابهم ومذهبهم”، كما يروّجون احتيالاً.

السابق
سيارة من نوع «فولكس فاجن» تتحول الى أصغر فندق في العالم
التالي
الاعلام الاسرائيلي: الايرانيون ثاروا لأن النظام ينفق أموالهم في الخارج