الرسّام المتخفّي في بدلة رجل أمن: دانيال أبي اللمع

ينهي ساعة عمله الأخيرة، في مكتب تفوح منه رائحة الأمن والقوانين والانضباط، لتخالطها رائحة السجائر والبيروقراطية. لاشيء في هذا المكتب يستدعي الانتباه... سوى الرسمات التي تلوح في خيال الضابط الرفيع.

ما إن يقفل هذا الباب الخشبي مساءً ليستقل سيارته، حتى ينتقل من حالة إلى حالة، تنبعث فيه تلك المشاعر فجأة، تعود إلى الواجهة الأحلام فتطارده ويطاردها. هذا المشهد “الميلادي” الذي يواعده كل مساء يستحوذ عليه يتملكه، فينعم بهذه اللذة ويتمتع بأدق تفاصيلها.

تتضخم فيه هذه الحالة وهو يقود سيارته، فتتقد غريزته الفنية وهو الشغوف بالرسم منذ صغره.. لا يقاوم، يستسلم لها حتى تبدأ معالم اللوحة تتكون أمام عينيه، من طفولته، من محطات ارتسمت في تكوينه فيترجمها بريشته.. هو الآن يرى لوحته كاملة بخطوطها وألوانها وزواياها.

يدخل منزله ليلا، ينسلّ بحياء الرغبة وخجلها إلى الغرفة التي خصصها لعشيقته الفنية، لتلك الهواية التي منحها نصفه علنية، وكُلَّه باتفاق وَلَهٍ عقده بينه وبينها. يغلق الباب عليهما كأي جلسة حميمية، ليطفئ نار “وادي الجنّ” بالألوان، بالنحت على الورق.

هي لحظة ينفصل خلاها عن ذاته الأولى، لحظة لا تشبه ذاك الجالس في المكتب الذي يمارس وظيفته بمهنية وأمانة ودقة، وإنّما تشبهه هو “الفنان وليس “رجل الأمن”.

لوحة رسمها دانيال أبي اللمع وتحمل اسم “Horse pride”

هو الرائد في قوى الأمن الداخلي “دانيال أبي اللمع”، الكومندون، الذي يمارسه مهامه يومياً في مكتبه في وزارة الداخلية، زائره في دوام العمل، لا يراه إلا صلباً، و محادثه بعد العمل عن الفن، يرى فيه الرسام المبدع بريشته والمثقف بهوايته.

أبي اللمع الذي ولد في “برمانا”، في العام 1978، نضج على عشق الطبيعة اللبنانية بتفاصيلها، في طفولته لم يكن يلعب مع رفاقه وجيرانه بل كان يتفرغ للرسم ببدائية الطفولة، بقلم الرصاص والممحاة.

منذ عامه التاسع وبدأ الرسم يتملكه، وهو الذي له في معاشرة الألوان 30 عاماً، 15 عام منها مارس حياته بين المهنة الأمنية صباحاً، وهوايته الأم بعد الدوام.

من الهندسة الداخلية والرسم إلى الحقوق،  انتقل أبي اللمع في دراسته، التي رجحت فيها كفّة القوانين، ليلتحق بالسلك الأمني في العام 2005.

لوحة مشوار لآخر العمر

لا يرى أبي اللمع تعارضاً بين مهنته وهوايته، فهو أثقل نفسه في الرسم من خلال القراءة والمتابعة، كما أنّه زار معارض الرسم الأهمّ في العالم.

لوحاته تجسد الطبيعة، الطبيعة الحلم، المفقودة ربما. بيت القرميد حاضرٌ في العديد منها، أما الألوان التي يستخدمها في تلك التي يحملك تمازجها إلى “الضيعة” والمناخ الهادئ بعيداً عن ضجيج بيروت وازدحامها.

لبيت القرميد حكاية لدى أبي اللمع، فيحدثنا عن ذاك البيت الواقف فوق جبل، البيت الصغير ذي القرميد الأحمر، هو حلمه!

ريشته لم تحاكِ فقط الطبيعة، بل أيضاً رسم العديد من البورتريه لقديسين.

لوحة رسمها دانيال أبي اللمع وتحمل اسم “Forest rays”

علاقة أبي اللمع بالرسم، تلخص مفهوم  amour passion، لاسيما حين يتحدث عن لوحته الأخيرة “فينيز”، وعن الحزن الذي تملّكه لدى الانتهاء منها وكأنّه أراد أن يتابع التجربة معها أن يستمتع أكثر بهذا الشغف، أن يخلط أكثر الألوان، هذا التعلق باللوحة جعله يمارس طقوساً لا رسماً، ولما وصل إلى نقطة النهاية وقع في لحظة يأس.

شارك أبي اللمع مؤخراً في معرضين، الأوّل معرض #art_of_living في الفوروم بيروت، الذي شهد مشاركة 60 فناناً، والثاني معرض “فنانون في مهمة”، الذي حمل رسالة دعم ذوي الاحتياجات الخاصة وشارك فيه أكثر من 65 فناناً.

هو رجل الأمن صباحاً، الفنان ليلاً، مثل أيّ “بطل خارق”، لكن بالمقلوب، فهو يتخفّى في هوية أخرى، للقيام بالمهمات السرية :”الرسم”، والعودة صباحاً إلى عمله في حماية الناس والسهر على أمن المواطنين.

إقرأ أيضاً: «شو هيدا؟» مبادرة لـ«بيروت متحف الفن BeMA» تُحيي القطع الأثرية التاريخية

لمشاهدة المزيد من اللوحات (اضغط هنا)

السابق
المتهم عمر العاصي: لهذا السبب اردت تفجير نفسي بحزب الله لا بالـ«كوستا»
التالي
هذا ما حصل مع الوزير باسيل في صيدا…