محاولة تفسير يائسة لمشهد حميميم

يمكن المرء أن يُخمن أن وظيفة الإهانة الروسية لبشار الأسد في قاعدة حميميم العسكرية هي عكس ما اعتقده خصوم الأسد، ذاك أن «كرامة» الأخير لم تعد اعتباراً في المشهد السياسي السوري. وربما علينا، نحن الراغبين في رحيل رئيس سورية، أن نتشاءم: ذاك أن واقعة حميميم تنطوي على تمسك روسي بالرجل، وهو تمسك مشروط بالاستتباع، وما قبول الأسد بما حصل له هناك إلا نتيجة لمعرفته بأن ذلك ثمن لا بد من دفعه لقاء تمسك بوتين به رئيساً. وهذه ليست لعبة كرامات بقدر ما هي رسائل في أكثر من اتجاه.

الصحافة الروسية تحفل هذه الأيام بتحقيقات ومقالات حول طبيعة النظام في سورية وحول تورطه بالدماء في بلده، وهذه كلها تساق نحو هدف واحد يتمثل في أن الأسد باقٍ في منصبه، ولكن ضمن الشروط الروسية التي ستحد من جموحه. الروس يريدون توظيف كل شيء في موقعهم الشرق أوسطي. يتحدثون عن علاقاتهم الاستثنائية مع تل أبيب، وعن تفاهمات مع إيران وعن اقتراب مغادرة «حزب الله» سورية. متعقب الموقع الروسي سيدهش بحجم الاستدارة الروسية، وبالرغبة في الانتقال من موقع القتال دفاعاً عن النظام إلى موقع راعي التسوية. وهم إذ يتحركون في الفراغ الذي خلفه الأميركيون، يملأون هذا الفراغ بنوع مختلف من المشاهد. فلا شيء يقف عند طموحهم في وراثة نفوذ واشنطن، ولا حساب يقيمونه لأحد في مساعيهم هذه.

البراغماتية الروسية «غير الأخلاقية» مستعدة للقول أنها تقف إلى جانب نظام كان له الدور الأبرز في صعود «داعش»، وتشير إلى المجازر التي ارتكبها، وهي إذ لم تعترف، حتى الآن، باستعماله أسلحة كيماوية، إلا أنها لا تستبعد قيام حليفها باستعمالها، وكل هذا في سياق القول أنها بصدد حماية السوريين من رئيسهم الذي سيبقى إلى 2021.

هذه هي خلفية مشهد قاعدة حميميم الذي حرصت موسكو على تظهيره للعالم. ووفق هذا الوعي وهذه المهمة، ليست كرامة الرئيس اعتباراً يُعتد به لتفسير شريط الضابط الروسي، ممسكاً بيد الأسد لمنعه من توديع بوتين. الديبلوماسية وفق هذه المعطيات هي عملية تخريج لمشهد سياسي من عناصر قذرة، ودعوة إلى قبول الجريمة بصفتها مؤسِّسة مستقبل البلد. الروس المنتصرون في الحرب في سورية يقولون للعالم أنهم سيحمون سورية من رئيسها الذي اختاروه، والرئيس بدوره قبل بهذه المعادلة وجاء إلى القاعدة العسكرية ليؤدي مشهد القبول.

علينا أن نباشر تمارين ذهنية تساعدنا على توقع مشاهد «التسوية» في سورية واستشرافها. ثمة وقائع ثقيلة تحصل في موازاة الحرب الدائرة هناك. في سوتشي، جلس الأتراك مع ما يمثلون في سورية والإيرانيين مع ما يمثلون أيضاً في سورية، وحصل ذلك في رعاية قيصرية. من المفترض أن تكون «التسوية» موازية لهذه الواقعة. شريكان صغيران وشريك أكبر. البداهة تأخذنا إلى أن ذلك يعني أن بشار الأسد سيقبل بـ «مساعد» من «الإخوان المسلمين» السوريين لإدارة المرحلة الانتقالية. المشهد قاسٍ للمترقبين على طرفي الانقسام في سورية. هذا مجرد تمرين ذهني، إلا أن الواقعية الروسية الجلفة، يمكنها أن تفرضه. فمن كان يتخيل أن يبقى الأسد رئيساً لسورية، ومن كان يتخيل أن يقبل الأخير بما حصل له في حميميم؟!

إقرأ أيضاً: بوتين.. الذي باتت سوريا خلف ظهره

لم يسبق أن لعبت دولة كبرى الدور الذي تلعبه روسيا في سورية. فهي لا تقاتل لحماية الأسد فقط. تقاتل مع الأسد ومع «حزب الله»، وتفسح المجال للطائرات الإسرائيلية لتقصف مواقع حلفائها، وتتواصل مع الأردن لإشراكه في هدنة الجنوب السوري، وتقيم صلات متينة مع أنقرة، راعية «فصائل جهادية» في إدلب، وتنتزع من واشنطن تفويضاً ضمنياً حول مستقبل سورية، ولا تعطي بالاً لرغبات الرئيس الأميركي في مواجهة إيران، لا بل تشعر الأخيرة في أن موسكو ملاذها الأخير في ظل هذا التهديد.

الديبلوماسية المتخففة من أي التزام أخلاقي، ومن أي بناء على سوابق الديبلوماسية، تقول علانية أن نظام بشار الأسد هو الذي سهّل المهمة لـ «داعش» وهو الذي أطلق قادته السوريين من السجون. وهذا لن يحد من رغبتها في القتال إلى جانبه. فلاديمير بوتين يتصرف من دون أي رقيب سواء في روسيا أو في العالم. بلده جديد على تقاليد المحاسبة، والعالم في ظل دونالد ترامب صار معجباً بـ «رشاقة» رجل الكرملين وبتخففه من الأخلاق التي تقيد السياسة في الغرب. ومن هذه حاله لا تمكن مقاومته.

إقرأ أيضاً: من حميميم إلى أنجرليك

بوتين أقوى من ترامب، على رغم أن أميركا أقوى من روسيا، لا بل لأن أميركا أقوى من روسيا. الأول يثير بتخففه من أخلاق السياسة وشروطها إعجاب العالم، والثاني تكاد تطيحه فضائح التحرش. الشرق الأوسط مسرح نموذجي للأول، فيما هو بؤرة عجز كامل للثاني. وبما أن الرجلين متشابهان، فلا بأس من تفويض طالما أن تل أبيب لا تمانع في إعطائه إياه.

وفق هذا السيناريو، يجب أن نفسر ما حصل في حميميم. ثقة القيصر المفرطة في النفس جعلته يشعر بأنه يستطيع أن يقول للعالم أن سورية هي مسرحه. إيران نفسها شريك أصغر في هذه المعادلة. وهي ستكون أكثر براغماتية وقبولاً ما إن تباشر واشنطن حملتها عليها. ستكون موسكو ملاذها. لقد انتصر الأشرار في كل مكان، وفي وقت جرى هزم شرير واحدٍ هو «داعش»، صار علينا أن نتعايش مع كل من انتصر عليه، وهؤلاء هم بقية أشرار العالم. وستتوالى علينا مشاهد المهانة، لكن علينا ألّا نسقط في فخ تفسيرها بغير ما هي. فلكي تكون رئيساً عليك أن تكون جزءاً من مشهد حميميم

السابق
فتوى السيستاني: دور سليم في الزمن الخطأ
التالي
انتقاد لاذع من نائب القوات للتيار الوطني الحر: بتفرق التربية بين الخي وخيّه!