التسوية العائمة: ماذا بقي من «تعادل سلبي» بين الحريري و«حزب الله»؟

انعقاد مجلس الوزراء، أمس، بجدول أعمال مُطوّل واتخاذه قرارات كبرى بمستوى تلزيم التنقيب عن النفط وتعيينات إدارية وما شابه من القرارات، يُشكّل تأكيداً قاطعاً بأن التسوية الرئاسية، التي كانت على وشك السقوط في الرابع من تشرين الثاني، قد تمّ إنقاذها. ما تؤشر إليه المعطيات أن التسوية بنسختها المعدّلة يُراد لها أن تصمد حتى موعد الانتخابات النيابية في السادس من أيار 2018، والتي على أساس نتائجها سيتم رسم معالم المرحلة المقبلة من الحياة السياسية في لبنان وطبيعتها.
أركان التسوية القائمة يراهنون على استمرارها بموازين القوى الراهنة من دون تبدّلات جوهرية، لا بل إنهم يتعاملون مع الآتي من السنوات بناء على اتفاقات ذيّلت في اجتماعين منفصلين، الأول عُقد بين الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في الضاحية الجنوبية، والثاني عُقد بين باسيل وزعيم «تيار المستقبل» رئيس الحكومة سعد الحريري في باريس. وما ستشهده البلاد من تطورات يرتكز على دقائق الاتفاقات في هذين الاجتماعين اللذين يُشكّلان أصل الحكاية التي نُسجت للبنان على مستوى التحالفات الداخلية القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى، وعلى مستوى إدارة الملفات، سواء المحلية أو الإقليمية.

اقرأ أيضاً: هل قصد الحريري بن سلمان بـ«البحصة»؟

الأساس المؤقت في تجديد التسوية، ينطلق من مبدأ إراحة الحريري، وخصوصاً في ما خص مراعاة مبدأ «النأي بالنفس»، من قبل «حزب الله» حيال الأزمات الإقليمية. مسألة التبرّؤ علانية من الانغماس في الساحة اليمنية كانت جزءاً من الشروط الدولية التي أعادت تجديد التسوية. حديث المراعاة هنا يشمل الأزمة السورية، حيث كان حلفاء محور إيران – سوريا قد أخذوا على عاتقهم، قبل أشهر، البدء العملي لعودة تطبيع العلاقات اللبنانية – السورية لتعويم نظام بشار الأسد من جهة، والدفع بلبنان أكثر إلى التسليم بالانتماء إلى هذا المحور من جهة أخرى. تلك المراعاة ستنعكس خفوتاً في سقف الكلام عن ضرورات التنسيق اللبناني – السوري على المستوى الحكومي، والضغط في هذا الاتجاه إلى حين جلاء ما سيُكتب لمستقبل سوريا. أما في ما خص انخراط «حزب الله» العسكري، فهو وفق لصيقين باق في سوريا تحت عنوان جديد يتمثل بـ «التخلص من إرث الخطر»، فضلاً عن أن المعركة مع إسرائيل واعتباراتها، بما تُشكّله من متطلبات العمل الميداني في الجنوب السوري، لا تشملها سياسة «النأي بالنفس».
ومبدأ إراحة الحريري وعدم وضع عناوين إحراج وإزعاج ومشاغبة على الطاولة، يأتي نتيجة اقتناع لدى «حزب الله» بأننا أمام نسخة «حريرية جديدة» ضمانتها فرنسية – غربية، وليس سعودية، كما كانت «الحريرية السياسية» التي نشأت في زمن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كجزء من خط الاعتدال العربي وامتداداً لعمق تأثير المملكة في المعادلة اللبنانية.
هو تحوّل يطرح سؤالاً محورياً: أيّ بُعدٍ تمثله اليوم «الحريرية السياسية»؟ ومِنْ أين تستمد قوتها، وأين موقعها في المعادلة؟ ربما لا يزال من المبكر إيجاد أجوبة حاسمة، ذلك أن حال الاهتزاز الذي يُصيب علاقة الحريري بالرياض ليس بالأمر البسيط، ويحتاج إلى وقت لتبيان وقائع الأمور ومآلها، وما سينتج عنها من تحوّلات ونتائج وتداعيات على التوازنات في لبنان.
فالذهاب إلى اعتبار أن «السنيّة السياسية» سلّمت لبنان إلى إيران، وأدخلته في فلكها، هي قراءة تتقاطع بين كثير من المحللين على ضفتي المؤيدين والمناهضين للمحور الإيراني، لكن لا يمكن اعتبارها حتمية نهائية وقدراً، ذلك أن لا شيء ثابتاً في السياسة أصلاً، والأهم أن المنطقة لا تزال في خضم الصراع المحتدم، ولم تصل بعد الدول التي انهارت إلى مرحلة التسويات النهائية، ولا تبلورت التشكلات الجديدة لأنظمتها، فضلاً عن أن التجارب السابقة في لبنان أثبتت استحالة سقوطه بالكامل في محور ما، أو التحكّم به من قبل طائفة ما، أو فريق سياسي مُعيّن، أو دولة بعينها، مهما اشتدّ إطباقها عليه، وليست مرحلة الوصاية السورية، التي امتدت لثلاثين عاماً، إلا مثالاً على ذلك، ومِنْ قَـبْـلها تَحَكّمْ منظمة التحرير الفلسطينية بحيزٍ كبيرٍ من مساحة القرار اللبناني.
ولكن ممّا لا شك فيه أن تحوّلات حصلت في المشهد اللبناني يصح وصفها بمقدّمات التحضير لرسم خارطة سياسية جديدة. نقطة التحوّل تبدأ من الحريري الذي لم يعد يحمل مشروع «الرابع عشر من آذار»، بما كان يمثله هذا المشروع من ثوابت وطنية، ويُجسّده من حلم لمليون ونصف المليون لبناني نزلوا إلى ساحة الشهداء في الرابع عشر من آذار 2005. الخطورة لا تكمن في أن الحريري دخل التسوية باسم «الواقعية السياسية» من أجل حماية ما تبقى من مؤسسات وعودة الحياة إلى الانتظام العام وحماية «اتفاق الطائف»، بل في أن ثمّة من يرى أن تغييرات جذرية طرأت على ثوابته السياسية، وهو يتعامل من هذا المنطلق في نظرته وعلاقته مع حلفائه السابقين الذين قدّموا شهداءً كما قدّم هو. ويتعامل – بعد أزمته الأخيرة مع المملكة – مع مَن يُفترض أنهم حلفاء له، من منطلق التخوين والطعن وليس من منطلق المراجعة النقدية لأدائه وأدائهم وأخطائه وأخطائهم، بما يُفضي إلى إعادة التوحّد مجدداً انطلاقاً من الثوابت المشتركة. الخطورة الأكبر أن استمرار الحريري بهذا النهج سيُخسِّره كل الإرث الآذاري، رغم ما اعتراه من تشوّهات، ويجعله وحيداً أمام تحالف عريض متراص وقوي يشكله الثامن من آذار، وملتحقاً به بشروط هذا التحالف، مما يجعله الحلقة الأضعف، في وقت كان يقود، منذ اغتيال والده، تحالفاً عريضاً استطاع أن يقف في وجه تحالف الثامن من آذار، ويخلق تعادلاً سلبياً على أقل تقدير.
هناك مَن يَسأل، وفي السؤال كثير من المنطق: هل كان بإمكان شخصيات سياسية أو حزبية لبنانية أن تؤثر على علاقة سعد الحريري التاريخية بالقيادة السعودية؟
ليس من السهل القبول بغير النفي.. وبالانتظار.. فإن الحكمة تقتضي التعقل، ومراجعة المسيرة من الألف إلى الياء!

السابق
إزالة لافتات رفعت لريفي في طرابلس بأمر من محافظ الشمال
التالي
لا للانتحار الفلسطيني…