حسن الرفاعي ابن العاصيين لا ابن العاص

الكلمة التي ألقاها الوزير السابق رشيد درباس في الندوة التي أقيمت حول كتاب "حسن الرفاعي حارس الجمهورية".

حسن  الرفاعي حارس شرف الجمهورية

 

العاصيانِ  اتَّحدا               قرابةً ومَحْتدا

تعاهدا بالسُّنْدُسِ الـــــمَكْتوبِ خَطّاً مُفْرَدا

هذا تَجَلّى كرْمَةً           وذا تعلَّى معبدا

 

الأول زئير لبوة، تدفَّق ماءً  عَرِماً من شِدقيها، وجرى شِمالاً كأنه بوصلة الأنهر، فحقن الكرمة خمراً، وحرَّكَ الهواء بالنواعير، ثم حمَل أنينها في طيات خريره، ليصبَّ في متوسط الحضارة.

والثاني معجزُ الدنيا، وخليل الشمس، ومطران الأديان المتلاقحة. كأنما حبة العنب التي امْتَصَّت دم الأرض، أنضجته في كنف الشعاع، فتبوَّأ إله الخمر باخوس من نقطة تواضعها، معبداً لسكارى الحياة زعم بانيه أن شموخه المادي إذلال لروحانية الشرق، فثمل المكان من الثنائية المنصهرة، ونَصَّبَ جوبيتر نفسه خَمَّاراً للتاريخ، وجعل من الستة العَمَد خوابي يُعتِّقُ فيها الأزمنةَ خاليةً من كحول الزيغ مفعمةً بمرارة القرون.

هذا عن أبويه، نهراً وقلعة، فهو ابن العاصيين، لا ابن العاص الذي خدع الأشعري فخلع علياً، بل هو حفيد فخور لكريم الوجه بليغ النهج، متصل بالإمام رضي الله عنه، عبر جدود منهم الـمُحدِّثُ الإمام أحمد الرفاعي، فهل شهدنا على الشاشات، محدِّثاً كالحسن خالد بن عبد الرؤوف، وهل شهدت اللوائح القانونية حديثاً أمتع من حديثه يكادُ الحرف فيه أن يخرج من السطر لساناً قويماً وبلاغاً مبيناً؟..

منذ شاهدته لأول مرة على المنبر النيابي، رسخ في وجداني أنه حلْق الحق، فالكلمة تخرج منه عميقةً كعمق العين المنفجرة من بطن الصخر، رائقةً كعين الديك، واضحةً كعين الشمس، بليغةً كعين الخليل.

بعد هذا استضافني في دارته ببعلبك، فمال لعابي عن وليمته الباذخة، وسال إلى ما هو أشهى، إذ رأيتني جالساً وجهاً لوجه في حضرة مجمع البحرين، أسأل فيفيض بلا حدود لمعارفه، ولا واديَ يفصل بين فرع وفرع، بل هو الثقافة المتصلة،  أو هو كما قال أبو الطَّيَّب:

فالأرضُ لا أمَمٌ.. والجيشُ لا أمَمُ…

إذا مضى علمٌ منها بدا علمُ       وإن مضى علمٌ منه بدا علمُ

 

شاهدت عينيه الساطعتين تنفذان من زجاجتيهما، وتبثان الدفء من غير وساطة، وسمعت مخارج الألفاظ تنساب على أوتار المعرفة كالنوتات  الموسيقية، فرثَيْثُ لمن قال: إن الطرب غناء وحسب، فهذا لم يستمع إليه وقد روض جفاف القانون الإداري، فجعله يميل نشوان على نديمه الدستوري كأنهما يتساقيان أسباب النجوى.

سألته عن محاولة اغتياله فأجابني بما يطمئن إلى تجاوزه تلك المحنة، لكنني أحسست بعمق غصته من أن يمناه لم تعد صالحة للتصويب الذي اشْتُهِرت بدقته، ولا لسكب أسطر اللَّجَيْن فوق صفحات السياسة والقانون. فلما تناولت هذا الكتاب قرأت بين السطور أن إرادته طوعت يسراه وروضت أنملها على قلمه لكي يظل محتفظاً بأسرار الأفكار في حِضن الولادة، فلا تنكشف عورتها أمام كاتب تُمْلى عليه، قبل أن ينقطع  حبل سُرَّتها عن صاحبها الأول.

هو الحسن إذاً، سيرة ومسيرة وسريرة، وبيتَ عِزٍّ أدركته الفاقة بعد فجيعة غياب الوالد المفاجئة والتي حدسها بمجرد دخول الحاجب إلى فصل الدراسة. صاحبُ الأناقة واللباقة، المستعيضُ عن غنى المال بغنى النفس، عشير عِلْية القوم على قدم المساواة المعنوية رغم اختلال الميزان المادي، حتى إني لم أجد كثيراً مثله ينطبق عليهم قول أبي تمام:

بَصُرْتَ بالراحة الكبرى فلم ترها

تُنال إلا على جسر من التعب

ولنا أن نقول إنه جسر التصميم، الذي تبوأه، فجعل من الوزارة أم الوزارات، لأن الفرس من وراء خيالها كما قال لصبري بك.

إنه نموذج العصيان وروحه الوثاب، يسترفد النهر، ويبتني من صخور المعابد صلابته، ويغزل من خيوط الشمس خطوطه، وإنه لأمر عجب، أن الأستاذ حسناً، ذا البيان المشرق، والفصحى الراقية، يُقِرُّ ويعترف بأن استقامة لغته تعود إلى معلمته أم حسان، فإذا كانت هذه حال التلميذ فما حالُ المعلمة باركها الله وأدام ظلها؟

هو خريج الشام، ومع هذا يتأدب أمامه خريجو السوربون، لأن القانونيَّ الذي تلقى العلم باللغة العربية، على أيدي مفتي سوريا أبو اليسر عابدين والدكتور منير العجلاني وسواهما من جهابذة الاساتذة، لم يكتف بمصادقة علماء القانونَيْن الإداري والدستوري الفرنسيين، بل هو صديق حميم لفولتير، وبوالو، ومونتسكيو وروسو، وذو لكنة باريسية يتهيب محاكاتها الأفذاذ.

تربطني به صداقة بالغة الصدق، عميقة الأثر، رغم أننا لم نلتق إلا مراراً قليلة، حيث استعضنا عن مؤانسة المجالس، بالتسارّ عبر المسَّرة- أي التلفون حسب تعريب المجمع اللغوي- فأصحبت مكالماته لي مرهونة بمناسباتها. فيوم انتُخِبْتُ نقيباً، أسمعني من نبرات المحبة ما يروي عطش العاطفة، ويوطد الثقة الواجفة، وحين عينت وزيراً، أطلق علي لقب معالي النقيب، كأنه يمد لي بهذا سلماً أستطيع ارتقاءها لأصل إلى ما أحرزه من معالي، أما إذا كتبت مقالاً، أو أدليت بتصريح، فإنني أكون عرضة لنقد دقيق، مصحوبٍ بالإشادة، كمن يمنح لي في كل مرة شهادة أعزَّ مما جنيت من شهادات، حتى دُفعتُ إلى إقامة جدار افتراضي في داخلي أزينه بإفادات الجدارة التي أنا أقل منها.

 

 

أيها الحفل العزيز..

هاأنذا أستهلك الدقائق وما زلت على مشارف العاصي، وعند كعب المعبد، محوطاً بأخ كبير البلاغة، فقيه القانون، شلال المحبة والرزق الباقي من الزمن المحترم، وبأستاذ للتاريخ، ينتمي لحّا لأرومة الاستقلال، سرني لقب البيك المضاف إلى اسمه، فرزق الله على أيام البكوات، كما شاقني فيه أنه صاحب مؤلف موسوعي في تاريخ الشيعة سأسعى إلى اقتنائه وقراءته، وكذلك بالزميل حسان، الذي ما أن فرغت من قراءة الكتاب حتى اكتشفت فيه مزيداً من الصفات، فهو المحامي الفرنكوفوني وهو المحقق الجنائي الذي تقصَّى أسرار محاولة اغتيال الوالد إلى درجة اجتماعه بالجناة والمدبرين، فلم يعد ينقصه بعد ذلك  إلا غليون شرلوك هولمز وعصا شريكه الدكتور واطسون، وربما سيستعان به لاحقاً لكشف غوامض الجرائم التي أدمت قلب الوطن، وهو أخيراً يراعة بارعة في يراع أُخَر، استطاع مع أحمد عياش وجوزف باسيل، إنجاز مجلد متعدد، ممتع سلسبيل، حتى رحت أسائل نفسي، هل هي سلاسة الكتبة أم روح الراوي؟! ومع هذا لست ممن يغمطون الناس حقهم، فجهد الأساتذة كان الوعاء الدافىء للسيرة  الدافقة؛ والدقةُ العلمية والتاريخية ورشاقة الأسلوب سمتان معروفتان للأساتذة المؤلفين الذين أهنئهم مع بطل روايتهم، على اختيار المثقف الموسوعي جوزف مايلا لكتابة المقدمة الرصينة الملأى بالود والوصف الصائب بأن حسن الرفاعي هو حارس شرف الجمهورية الذي لا يقوم إلا على مفاهيم الديمقراطية البريئة من الخشخاش السياسي، وصوابية الأسس القانونية التي إذا غُضَّ الطرف عن ملمتر من أساسها انحرفت الدولة عنها أميالاً. ولهذا كانت للمعلم حسن قراءة خاصةٌ للطائف لم تعجب أصحاب الهوى لخلوها من الهوى.

أما سائر المشرق فشبكة رمت علي خيوطها حتى  صرت أسيرها السنوي إما تعليقاً أو تأليفاً، فلقد شَرُفْتُ بالحديث قبلاً مرتين عن كتابين للمرحوم الصديق السيد هاني فحص، ونشرت لي كتاباً لفَّقْتُه على عجل بعنوان “على هامش الشؤون” وها أنذا اليوم أعاني المهابة بين المعبد والعابد، بين الضِّفة والماء، بين الكرمة والسكر، فصرت كوقع الهنيهة في المطلق كما يقول سعيد عقل أو كبصيص خافت يتسلل إلى سائر المشرق.

أما بعد..

فقد أحسن الحسن مَلْءَ العُلبة وفق توجيه المونسيور يوحنا مارون وظلَّ طوال عمره يرتب فوق رفوف عقله كتب الفنون والآداب، والعلوم واللغة، فتحول إلى خلطة نادرة تداخلت فيها الثقافة بالدين، ولبس القانون عنده ثوب البلاغة، وصدحت في ردهات نفسه الموسيقا الكلاسيكية بعظمتها، وجاورت المقامات الشرقية التي ربي ذوقه على أرباع أصواتها الشجية، وترحل بين أروع فنون التصوير، مستمتعاً ومقتنياً لوحاتٍ من بعض الفنانين اللبنانيين المدهشين، فترى على حائطٍ، صورة زيتية له، بريشة المعلم رشيد وهبي الذي يريك من نافذتي عينيه أعمق ما في نفسه من سجايا، وعلى حائط آخر، تبرز لوحة “ورود الإبل” لعبقري التصوير عمر الأنسي، وهي أعز مقتنياته لما لها من تاريخ، وما يتلألأ فيها من مهرجان أخاذ لتراسل الضوء واللون.

سليل الطريقة الصوفية الرفاعية هو أكثر من عرفتهم تحرراً وانفتاحاً ونبذاً للتعصب، إنه الجريء في فهم الدين بمقاصده، الكاشف لمشوِّهيه، المتفلت من التزمت، المؤمن بأن الأنبياء ما بعثوا إلا ليتمموا مكارم الأخلاق؛ وفي مفاهيمه هذه تكمن معاناته السياسية، لأن أكثر السياسيين شقاء هو الراسف في أغلال أخلاقه، فهو يكابد المناورة ولا يعاقرها، ويرى الإساءة فلا تُعميه عن الحسنة، لأن الإنصاف  يجعله يشهد بالحق لمن كانت بينه وبينهم خلافات وخصومات، وها هو يُشيد بالرئيس شهاب رغم دور المكتب الثاني بإسقاطه في الانتخابات، وينَّوهُ بأخلاقية كامل الأسعد على ما كان بينهما من سوء التفاهم، ويقدر عالياً رقي وشجاعة تقي بك أمام الرئيس حافظ الأسد، وهو الذي حل محله في مقعد بعلبك النيابي، ويثمن نزاهة صبري بك حمادة بعد اختلاف وفراق، ولا يفوته أن يعلن للبنانيين كلِّهم،ما كان من موقف حازم للشهيد المظلوم رشيد كرامي في مقابلة نواب الجبهة الشهابية مع الرئيس الأسد أيضاً، كما أن ذورة الإنصاف الحزين تجلت عندما اتفق مع ابنه حسان على ضرورة مقابلة الرئيس رفيق الحريري بعد اختلاف، وكان هذا في الثالث عشر من شباط 2005.

في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي حدثني معلقاً على مقالتي في النهار فقاده الكلام إلى ما كان من الأمير سعود الفيصل أثناء مؤتمر الطائف إذ قال له: ” أنت بتشددك تقلق النواب وتقلقنا”، ومرد ذلك التشدد أن الفقيه النزيه، لا يطوع النص لخدمة البراغماتية، فهو الأعلم بأن مستصغر الخلل في أساس البنيان يؤدي إلى انهياره من أعاليه.

أستأذنكم الآن أن أخاطب مرارته مباشرة وعلناً، وأسأله:”أما كان “مونتسكيو”  مسكوناً بالخيبة بعد ما كتب روح الشرائع، فهل خيبت روحَه الأجيال التي تعلمت منه واستهدت بتعاليمه؟!

تعمدت أن استأخر الحديث عن صديقه وصنوه الرئيس جوزف شاوول متوخياً من ذلك توازن الخاتمة مع البداية، ولقد حبَّبه الأستاذ حسن إلى وجداني قبل معرفتي به إذ قال لي:” هذا القاضي المحدود الدخل ينفق على كتب القانون والدوريات أكثر مما أنفق أنا” ثم كان  لقائي الأول معه غداة انتخابي نقيباً، وكان رئيساً لمجلس شورى الدولة، وفي المساء صار وزيراً للعدل، فصرت أتنزه بين فكريهما، في بستان من المحبة والصدق والنصح، ولعل الرئيس يسامحني إذا نقلت إليكم ما قاله لي في آخر محادثة معه: “إسمع يا رشيد، انا أدرس كل يوم لمدة عشر ساعات، فأكتشف في كل يوم أنني أكثر جهلاً ” فهنيئاً لنا بهذين الجاهلين.

 

أيها الأصدقاء

هذا جنى يسير من ثمر كثير، وقبس طفيف من نور كثيف، لا فضل لي فيه ولا منَّة، هذا ما أقوله لكم، وهذا ما قاله العميد ريمون إدة للأستاذ حسن الذي كان يمدُّه بالاستشارات القانونية ليستعملها في مداخلاته من غير إشارة إلى صاحبها، فلما عاتبه ممازحا، أجابه العميد : ” ولماذا أشكرك، فأنت تأخذ من الكتب، وأنا آخذ منك” .

ولقد أخذت من الكتاب قليلاً… وأخذت من وقتكم كثيراً ….. فعذراً ….. وشكراً

إقرأ أيضاً: حسن الرفاعي يستعيد حكاية العمر في معرض الكتاب

 

السابق
ضحايا الاغتصاب في بلادنا… بين التعنيف والإحتواء القانوني والعيادي
التالي
القوى الأمنية توقف عميلاً اسرائيلياً في البداوي