ترامب يطرد نفسه من الشرق الأوسط

لم تكن الولايات المتحدة محبوبة الجماهير العربية يوماً. دعمها الثابت لإسرائيل سبب جوهري. ولكنها حاولت في السبعينيات، مع رئيسها الديمقراطي، جيمي كارتر، أن تلعب دور "الوسيط النزيه" بين العرب وإسرائيل، فأثمرت هذه السياسة اتفاقية السلام بين أنور السادات ومناحيم بيغن، واتفاقية أوسلو؛ والاثنتان تتوقعان مفاوضاتٍ حول الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، حكما ذاتياً أو دولتين، ومن ضمن هذه الأراضي مدينة القدس.
دونالد ترامب لم يتّبع خطى جيمي كارتر، ولا قبله على كل حال جورج بوش وباراك أوباما. الأول غزا العراق، فأفسح المجال لإيران، من دون قصد ربما، كي تهيمن عليه. أما الثاني، أوباما، فامتنع عن فعل أي شيء في سورية، فوضع رقاب سورية تحت رحمة إيران أولاً، ثم روسيا؛ فنسف بذلك سنواتٍ من المفاوضات السرية وشبه السرية بين إسرائيل ونظام الأسد، بـ”رعاية” أميركية. واضحٌ أنه مهما اختلف الرؤساء الأميركيون بطبائعهم، فإن الخط البياني الذي سلكوه، في العقدين الأخيرين، هو الانسحاب التدريجي من دور “الوسيط النزيه”، بين الإسرائيليين والعرب، وبين العرب أنفسهم، الذين لا يحبون بعضهم، أصلاً. ترامب يجسد ربما واحدةً من مراحل هذا الانسحاب، وأكثرها إثارة، فالرئيس التلفزيوني يلعب دور الشرير، الأحمق. ولكنه في الواقع ضعيف، من ضعف أميركا نفسها؛ في عصر بداية تراجعها، تصبو إلى الانطواء على نفسها. كل الصخب الملازم للسنة الأولى من رئاسة ترامب، كل الصلافة والنفخ في الذات، كأنهما للتمويه عن هذا الانسحاب ليس كـ”وسيط نزيه” وكصاحبة أقوى الأسلحة، وبالتالي، أكثر الاستراتيجيات تماسكاً وتوافقا مع هذا السلاح. أو هكذا يُفترض.

إقرأ ايضا: دلال البزري تكشف عن تجربتها الحزبية في «سنوات السعادة الثورية»

انظر ماذا أنجز ترامب طوال السنة المنصرمة: سحب أميركا من “يونسكو”، من منظمة التجارة العالمية، من اتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ، من اتفاقية المناخ، من اتفاقية السلاح النووي مع إيران، العزلة من المهاجرين الجدد، ومن أقرب الجيران، المكسيك، ومشروع الحائط الخرافي بينهما. ثم أخيراً، نفض الأيادي من دور “الوسيط النزيه”، وتقديم القدس إلى الإسرائيليين على طبق من القنابل.

“في خضم الغضب، نسينا أن القدس ليست إسلامية فقط، إنما مسيحية، قبل أن تكون إسلامية بستة قرون” عاصمة لإسرائيل، من دون ان يأمر بنقل سفارته إليها، ومن دون أن يرسم الحدود التي يقصد. هكذا، بهدوء ومن دون مسرح، ولا إضاءة. دور بوتين شبه جاهز. وراثته دور “الوسيط النزيه” لها بشائر: أبو مازن اتصل به ليتوسَّط بينه وبين ترامب، ويثنيه عن قراره المتعلق القدس. صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين التقى وزير الخارجية الروسي، ناقلا الرسالة نفسها من أبو مازن. وروسيا، الفخورة بوضوح إستراتيجيتها، بثبات تحالفاتها، بصفتها “صديقة الشعوب”، الموروثة عن الاتحاد السوفييتي، سوف تتابع خطاها الحثيثة لبلوغ هذا الدور، وتصبح هي الوسيط بين العرب وإسرائيل، بعدما صار لها قواعد دائمة ويد طولى على اللاعبين الإقليميين، الحلفاء منهم والمتنافسين. ويطلّ من نافذة فلسطين أيضاً، رأسٌ صيني جديد، مكتوب له أيضاً دور “وسيط” ما… سيكون خجولاً وديعاً في البداية؛ ثم بخطىً دؤوبة، قد يبلغ دوره، ويتنازع مع روسيا مستقبلاً حول أحقيته بهذا الدور، أو حجمه، كوسيط آخر في الصراع العربي الإسرائيلي.

قرار ترامب حول القدس موجّه موضوعياً ضد العرب أنفسهم. “موضوعياً” أقول. أما ذاتياً، أما إعجابه ببعض عربنا، فهذا شأنٌ آخر، له علاقة بمهنته مقاولا، وبذوقه التلفزيوني. ولكن العرب، كما نعلم نحن عن أنفسنا، بين منهارين نازحين ومقتولين، باختصار، ضائعين. حاجة حكامهم إلى أميركا، وبعضهم لإسرائيل، تجعلهم يتصرفون مثل ترامب تماماً: يطلقون الرصاص على أرجلهم، كلما اعتقدوا بأنهم فازوا بغنيمة دور. والحاجة هذه من فوضى أولوياتهم، ونزاعاتهم في ما بينهم، أو من انعدام التوافق بين أولوياتهم وأولويات المجتمع الذي يستقتلون ليبقوا حكاماً عليه. حتى مبادرة السلام للملك عبد الله عام 2002، الداعية إلى دولتين والقدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، حتى هذه المبادرة التي وُصفت حينها بـأنها “متواضعة”، لم يتمكنوا من فرض احترام بنودها. وكأنهم أرادوا تصديق سلاح المليشيات الإيرانية، والممانعين معها، بأنه موجَّه ضد إسرائيل. وتصديق أهازيجهم التي تتغنّى باحتلالهم سورية والعراق عبر هذه المليشيات، هو معبرها نحو فلسطين… فتخلّوا عن أنفسهم، بعد التخلّي عن حقوق شعوبهم.

الآن المحور الممانع نفسه: قرار ترامب “فرصة تاريخية”، يصدح الممانعون. ولكن لحظة، “تاريخية” بأي معنى؟ إسرائيل أحرزت نقلة نوعية، أخيرا، في ضرباتها الجوية لسورية. بعدما كانت تستهدف المخازن وقوافل السلاح، صارت الآن تقصف، يومياً تقريباً، منشآتٍ إيرانية، تابعة لحزب الله. وإيران وأسلحتها واقعة على الحدود السورية الفلسطينية (الإسرائيلية). وبما أن محور الممانعة انتصر على الإرهاب، كما يردّد ليل نهار؛ بما “أن طريق القدس يمر بالزبداني والقلمون”، أو بأية بلدة سورية ذاقت الأمرّين من سلاحه، فاحتلها… فمن المنطقي، بتعبويته “الكفاحية”، أن تكون تلك “اللحظة التاريخية” هي التي سيطلق فيها صواريخه لتدمر إسرائيل، فتحقّق ما يلهج لسانه “وفلسطيناه..!”.

ولكن لا شيء من ذلك كله. كان حسن نصر الله أكثر من عادي في ردَّيه على قرار ترامب؛ وإن اعتمد الصراخ في ردّه الثاني. قدّم اقتراحات كلاسكية، تنديدا، تظاهرات، تغريدات، سفراء، طرد السفراء.. إلخ. أي ما تقوم به عادة الجماهير المؤيدة، ولكن ضمن شرطين: تظاهرة منفردة ينظمها حزب الله، ودعوة الفلسطينيين كي يقرروا ماذا يريدون… “ونحن وراءهم” و”شهداء بالملايين”! اقتراحات هي دون حزبٍ يملك عشرات آلاف من الصواريخ، يجيب على كل من يسأله عنها، إنها من أجل تحرير فلسطين… وبهذا أهدى نصر الله لكلمنْجية “المقاومة”، فرصاً هائلة لـ”تفجير غضبهم”، بالفرحة من “استفاقة الحقد على أميركا”، وصرخة “الموت لأميركا”؛ بحمل السكاكين وتقطيع أوصال كل إسرائيلي أو خائن أو مطبّع، بالتأكيد على صحة نظرية “المقاومة”، الخالدة، من أن المفاوضات مع اسرائيل مؤداها الفشل، وبأن “المقاومة هي السبيل الوحيد”، وفورة العواطف المهتاجة التي لا ترى أمامها، المنْتشية بغضبها، دليلها للنضال، الذي وجد، أخيراً، سبباً ليتفجر، على الساحة الفيسبوكية… اصرخوا! اغضبوا!… ولكن تحت سقف مضبوط مدروس. في سلوكٍ باتَ بافلوفياً مقنّناً. آخر تجلياته، المضحكة، وزير الخارجية اللبناني، العنصري، الكاره للفلسطينيين، وللسوريين، حليف حزب الله، الذي ارتدى لبوس الزعامة العربية الغابرة، بنسختها القذّافية، البالية، وخرق جدار جامعة الدول العربية عندما أطرب مندوبيها الناعسين، بنشيد الصمود والتصدي: “في لبنان، لا نتهرَّب من قدرنا في المقاومة والمواجهة حتى الشهادة”.

“إنها قضية جيوسياسية ثقافية، دينية، روحية، ثقيلة على أكتاف ديانة إبراهيمية واحدة” هم أكثر الشعوب العربية احتكاكاً بالاحتلال الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، المضبوط روسياً. وخلفهما شعوب عربية أخذت نصيبا وافراً من الأجنبي، ومن دعمه ما تسمى “أنظمتنا”. الأولويات تختلط بين الشعبين، وتتعقد. والفراغ يعمّر دنياهم؛ فراغ الغضب، والتظاهر والبوستات. يكبر هذا الفراغ كلما صُبَّ بباطون الصراخ… وسط هذا الفراغ، كيف يمكن للشعبين، أصحاب القضايا المختلفة، أن يتحولوا إلى أصحاب قضية واحدة؟ لا أولويات تتنافس في ما بينها؟ ما هو الجهد المطلوب لبلوغ هذه الغاية.. بعد “فلسْطنة” السوريين، وتحويلهم إلى شعب منكوب؟

إقرأ ايضا: دلال البزري: شغف الجنوبيات بدّده الجوّ الجديد

وفي خضم هذا الغضب، نسينا أن القدس ليست إسلامية فقط، إنما مسيحية، قبل أن تكون إسلامية بستة قرون. على تلالها، حمل السيد المسيح صليبه، وكانت جلْجلته، وفيها دُفن، وبُعث من جديد. فاحتوت كنيسة القيامة على ضريحه. وربما “التوجهات” الإعلامية الغربية أسقطتها تماما عن أجندتها، فحذوْنا حذوها. وسط غبار الصراخ، لم ننتبه أيضاً إلى أن كنسية القيامة، أي القدس، كانت هدفاً للحملات الصليبية، بدءاً من القرن الثاني عشر؛ وكان شعارها “تحرير قبر يسوع”. وإن نزاعاً نشبَ بين روسيا الأرثوذكسية وفرنسا الكاثوليكية في القرن التاسع عشر، حول القدس، فاشتعلت بينهما حرب، في شبه جزيرة القرم. في مسألة القدس تحديداً، ليست القيادة الإسلامية مثمرة، ولا موثوقة. إنها قضية جيوسياسية ثقافية، دينية، روحية، ثقيلة على أكتاف ديانة إبراهيمية واحدة. مسجد الأقصى ليس، في قلب المسيحي المؤمن، شرقيا أو غربيا، أعزّ من كنيسة القيامة. القداسة تتساوى بين الرمزين بالديانتين. والسؤال البديهي: لماذا لا ينهض المسيحيون من أجلها؟ ما هي الكوابح الثقافية- الدينية الحائلة دون ذلك؟

السابق
حسابات الجيوبوليتيك بين الدب الروسي والقط الشيرازي
التالي
الشعار: معبر جوسيه يبدأ العمل به غداً