القدس: استعادة المعنى إلى القضية

لم يستشر الفلسطينيون أحداً عندما أطلقوا انتفاضتيهم الأولى والثانية في 1987 و 2000. ولم يسألوا رأي الأشقاء عندما بدأوا الكفاح المسلح في 1965. طلب الفلسطينيون من العرب ومن العالم التضامن معهم تحت سقف القرار الوطني المستقل الذي دفعوا ثمنه باهظاً على شكل حصارات وحروب مدمرة لهم وللبلدان التي أقاموا فيها.
القرار المستقل الذي واجهت منظمة التحرير الفلسطينية به حكومات عربية رغبت في استغلال القضية العادلة كورقة في الصراعات الداخلية والإقليمية، كانت ميزته الأساس أنه يخضع لقيادة واحدة. يجوز توجيه الكثير من النقد القاسي إلى الممارسات والسياسات الفلسطينية في الأردن ولبنان بين 1965 و1982. ويصح بالقدر ذاته التشكيك في جدوى النهج الذي اعتمدته القيادة الفلسطينية وأفضى إلى أوسلو ومن ثم إلى خنق العملية السياسية بأيدي الإسرائيليين الذين لم يعودوا يرون جدوى من أي تسوية للصراع ما داموا قادرين على التحكم بكل مفاصل الأمر الواقع من خلال الاستيطان وتطويق السكان في معازل وإنزال القضية الفلسطينية ككل من مركز اهتمام العالم. وهذه «إنجازات» يشارك الإسرائيليين فيها صفٌ طويلٌ من الحكومات العربية الممانعة والمعتدلة، سواء بسواء.

اقرأ أيضاً: سيرة جيل خرج من عباءة رجال الدين بحثا عن التنوير!

استعراض ردود الفعل العربية والفلسطينية على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء الإجراءات لنقل السفارة الأميركية إليها، لا يأتي بجديد. هي ذاتها ردود الفعل البافلوفية على كل خطوة تصعيدية أميركية أو إسرائيلية: المقاومون والمعادون للصهيونية يدعون إلى انتفاضة جديدة وإلى تظاهرات ووقفات أمام السفارات الأميركية. المعتدلون يجرون اتصالات بالإدارة في واشنطن للومها وربما «بعبارات قاسية» على قراراها.
وبين التهديد بالعنف الفلسطيني الذي سيصب في نهاية المطاف في مصلحة الإسرائيليين والأميركيين الذين سيسارعون إلى تصويره كإرهاب عربي وإسلامي يستفيدون من الترويج له كعلامة على استحالة الحوار مع الفلسطينيين وحتى على لا جدوى أي كلام عقلاني معهم، وبين إماتة الرأي العام العربي مَللاً بتصريحات الشجب والإدانة والتنديد التي تفاقم مشاعر العجز والسلبية وتدفع، بالتالي، إلى صرف النظر عن قضية لا طائل من تحتها والاهتمام بالمصائب المتكاثرة في الداخل العربي، يقف من يسأل عن المعنى الذي تحمله القضية الفلسطينية اليوم، بالنسبة إلى الفلسطينيين أنفسهم وكذلك بالنسبة إلى العرب المطالبين بالتضامن، وأخيراً بالنسبة إلى العالم الذي يحتار في كيفية إشاحة وجهه عن هذه المنطقة التي تلد الحروب تلو الحروب من دون استراحة أو إجازة.
مفهوم أن للفلسطينيين وحدهم الحق في اختيار شكل الرد على الخطوة الأميركية الجائرة، بما يلائم أوضاعهم وقدراتهم ودرجة تحملهم لموجة القمع الإسرائيلي المنتظرة بعد كل خطوة فلسطينية. لكن يتعيّن القول إن العودة إلى القرار الوطني المستقل يحول دونها انقسام عميق بين غزة ورام الله. بين «مقاومة من أجل المقاومة» وبين «تفاوض من أجل التفاوض»، فيما تبقى السلطة أو بالأحرى التسلّط هو هاجس الجانبين اللذين ما برحا يفشلان في كل محاولات المصالحة وآخرها تلك التي جرت قبل أسابيع.
ما هي الرسالة التي ينبغي أن ينطوي عليها الاعتراض الفلسطيني والعربي؟ وذلك بعدما تعاون الجميع، الفلسطينيون والعرب والأميركيون والإسرائيليون، في تدمير القضية وإفراغها من معناها الإنساني الكبير، تارة بتحويلها إلى مسألة لاجئين وطوراً برفع شعارات دينية تحيل الصراع إلى حرب بين مؤمنين وبين كفّار. قد تكون استعادة المعنى إلى القضية أولوية تفوق أهمية الدعوات إلى التظاهر. لكن، على ما سبق القول، الفلسطينيون هم من يحدد الأولويات هنا أيضاً.

السابق
بلدية الغبيري تكافح الفوضى: المقاهي مقفلة والشبّان على الأرصفة يسهرون!
التالي
ما سقط مع علي عبدالله صالح