سيرة جيل خرج من عباءة رجال الدين بحثا عن التنوير!

مصنفات الفقهاء، نقاشاتهم، ما يطرحون من أفكار، وما يضربون به عرض الحائط من آراء.. ذلك التاريخ العلمي الكلاسيكي للمرجعيات الدينية للمسلمين الشيعة، كان بمثابة “الوجبة اليومية” التي لا تغيب عن برنامجنا في بدايات النشأة والتكوين المعرفي، مذ كنا تلاميذ صغارا، وحتى سنوات ما بعد الجامعة.
“الرسالة العملية” والتي تحتوي على فتاوى مراجع التقليد، ليست إلا مصنفا صغيرا، بل أكاد أقول هامشيا، من بين الدروس التي كنا ننصتُ إليها بمحبة وخشوع، وعقل منفتح وشغوف يود أن يتحصل على المزيد من الحكمة، والتي هي “ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها”.
في مسجد الشيخ حسين العمران، كنا مجموعة من الشباب اليافع، نحضر دروس الفقه والعقائد وما تيسر من السيرة. وتحت منبر الشيخ عبد الرسول البيابي، في حسينية “النهاش” القديمة، في القلعة، نجلس إبان كل مناسبة دينية نستمع لشيء من تاريخ عترة الرسول محمد، متنقلين بعدها من مجلس لآخر، رجاء للمثوبة ونهلا للمعرفة.
كون ابن عمي عالم دين، منحني فرصة كبيرة، مكنتني من حضور العديد من الدروس التي كان يلقيها، سواء في مجلس منزل العائلة بعيد صلاة المغرب، أو المحاضرات والنقاشات الثرية التي كانت تعقد في مسجد السيد الخوئي بحي “البستان” بمدينة القطيف، حيث كان إماما للمصلين. وهو أحد المساجد التي شكلت علامة فارقة في التاريخ الديني الحركي والثقافي في المنطقة.

اقرأ أيضاً: هل فلسطين قضية؟

الأهم من كل ذلك، مكتبته الغنية بمختلف أنواع الكتب، دينية وأدبية وثقافية، لكتاب إسلاميين وقوميين وعلمانيين. كما الزيارات المستمرة لمنزلنا من طلبة العلوم الدينية، وفي مقدمهم السيد منير الخباز، والشيخ جعفر الربح، وسواهما الكثير ممن كنت أجالسهم لساعات وأستمع لحديثهم، وهو الأمر الذي جعلني منذ صغري في خضم لجة من النقاشات التي لا تنتهي، ووسط مجتمع طلبة العلوم الحوزوية، عارفا بأدبياتهم، وطرائق تفكيرهم، ومفردات خطابهم.
هُيِّئ لي أن حضور مجلس ودروس الشيخ محسن المعلم أكثر من مرة، في دارته العامرة بقرية “الجارودية”، وهو الذي تربطنا بأسرته صداقة قديمة.
المعلم المبتسم، المتواضع، كان أستاذا لعشرات طلبة العلوم الدينية في القطيف ونواحيها، وتحديدا في مستوى “السطوح العليا”.
السيد منير الخباز، كان لجيلي به علاقة خاصة، فقد كنا نرى فيه –حينها- نموذجا أكثر تقدما لعالم دين منفتح بخطاب معتدل، يتناسب وتطلعات الشريحة الشابية في المجتمع، ويخاطبها بذات لغتها. وكنا نتواجد في محاضراته، ومجلسه بشكل دائم.
وكانت دروس مسجد “الإمام علي بن أبي طالب” الرمضانية، بعيد صلاة الفجر، والتي كانت مختصة في “الفلسفة الإسلامية”، حيث يتحلق الكثير من المؤمنين حول السيد الخباز، وهو يشرح دعاء “الصباح”، كانت خياري المفضل، لما بها من تفكير فلسفي غير تقليدي يحفز العقل.
أذكر ذات مرة أني أتيت للسيد الخباز، وقلت له إن مستوى الدرس اليومي أقل من المأمول، ويحتاج لمزيد من العمق. وعندما تعمق أكثر ليومين متتالين، شعرت فيها ومجموعة من الأصدقاء بـ”نشوة المعرفة”، رجع وسهل على مستمعيه الحديث، معتذرا أن جماعة من الحضور شكوا له صعوبة حديثه!
حتى عندما خرجنا من طوق التفكير الشيعي الكلاسيكي، نحو تدين أكثر حداثة وثورية في آن معا. كنا نجلس لساعات في دروس السيد ياسين الصائغ في مسجده بحي “الشريعة” بمدينة القطيف. وهو المعروف بلغته الصارمة، المعقدة، العصية. والتي كنا نعاني منها في البدايات، ونسعى باجتهاد لفهم موضوعاته الفلسفية والعقدية المختلفة.
حلقات النقاش والدروس التي كنا نعقدها في منازل الأصدقاء، والكتب التي نتبادلها، كانت مختبرا فكريا حقيقيا، جعلت البعض يجترح إيمانه الخاص باكرا، ويخرج من تجربة دينية محدودة، نحو أفق أكثر سعة. فيما البعض بقي يراوح مكانه، خوفا من الثمن الباهظ اجتماعيا، الذي يرافق التحولات الفكرية والسلوكية التي كان جيلنا يعيشها. وهي تحولات أدخلته في صراعات أسرية واجتماعية كثيرة، إلا أن الكثيرين تحلوا بشجاعة أدبية كبيرة، في سبيل تغيير ديني يؤمن بضرورة حصوله.
أسماء كثيرة لطلبة علوم دينية، وخطباء منبر حسيني، ومثقفين دينيين، كنا نحضر مجالسهم باستمرار، نتسامر في نقاشات لا تنتهي، تحتدم في أحايين كثيرة، ونادرا ما تهدأ. فضلا عن المكتبات التي كنا نشتري منها الكتب بأثمان باهظة، ونحن الذين كنا طلبة في المرحلة الثانوية والجامعة!
شبان شغوفون بالمعرفة، التغيير ضالتُنا، وجدنا في العلامة الراحل عبد الهادي الفضلي، تلك الشخصية المتواضعة، التي تجمع بين الفقاهة الشرعية، والمرتبة الأكاديمية، وجدنا فيه عالما يرضي الكثير من تطلعنا لإيمان يتناسب والعصر الحديث، لجيل يريد أن يعيش المستقبل، لا في غياهب الجب!
في مواسم الحج، كانت بعثات المرجعيات الدينية وجهتنا. نجالس العلماء، نتزود من أخلاقهم، ونحملهم الدعاء لنا في حضرة الحبيب محمد، ونستمع لأحاديثهم، ونطرح عليهم ما لدينا من أسئلة.
بعثة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، كانت الأكثر جاذبية، لما بها من حراك علمي، ونقاش حيوي، وطرح يلامس رؤيتنا الدينية المختلفة عن السائد والنمطي.
في زياراتي القليلة لمدينة “قم” الإيرانية، حيث الحوزة العلمية. كنا نقضي أوقاتا بين مكاتب المرجعيات الدينية، والعلماء الكبار.
آيات الله بهجت، الشاهرودي، الحيدري، التبريزي، الروحاني، الشيرازي، الحائري، الآصفي، الحكيم، اليوسفي.. جميعهم بين من صلينا معه، أو حضرنا مجلسه، أو قضينا أوقاتا في السؤال منه وتلمس أجوبة لا تلبث أن تنفتح على أسئلة لا تنتهي. في متوالية من البحث الأبدي.
هذه السيرة الدينية المختصرة، قبل أن ننتقل منها لتجارب أكثر انفتاحا ونضجا نحو قراءة نقدية للنص الديني، لم تكن سيرتي وحدي، بل كانت سيرة جيل من الشباب السعودي الشيعي، عاش وسط مخاضات عسيرة، كان خلالها نقيا في تدينه، منكبا على القراءة والتعلم بشغف وصدق. لم يكن يجد حدا لأحلامه إلا عنان السماء. وهو الذي من صغره كان يصغي للعلماء يرددون “ما خلق الله شيئا أشرف من العقل”.. وكان هؤلاء الشبان يخشون أن ينطبق عليهم قول الإمام علي بن أبي طالب “قصم ظهري اثنان، عالم متهتك، وجاهل متنسك”.. ولذا كان التدبر ديدنهم.
هذا التدبر، لم يكن –ربما – كما يريده نفرٌ من “رجال الدين”، لأنه قاد لأن يكون العقل هو المرجع، وهو الفيصل، وهو القبس الذي يصنع الرؤية الخاصة بالفرد.
قد أكون -ومن ماثلني من أبناء جيلي- “رجل ليس من طلبة العلوم الدينية”، كما يصفُ الشيخ منصور الطاهر، في مقالته “المصطفى وحرية الرأي في الهجوم على فقهاء الطائفة عبر العربية”، ولذا لا نستحق يضيع شيخنا الجليل وقته في الرد على أفكار صادرة من خارج دائرة “المشايخ”، الذين هم وحدهم يمتلكون “المعرفة” و”الفهم”، كما في مقالة السلمان!
قد يصح الحديث السابق وفق الوصف التقليدي والضيق لـ”طالب العلوم الدينية”، فنحن لسنا بفقهاء ولم ندَّعِ يوما ذلك، ولم نسعَ أن نكون في ذلك الموقع. يكفينا أن نكون “متعلمين على سبيل نجاة”، نجلس بكل تواضع وخشوع في حضرة العلم، لا نرتوي منه، وفي طلب دائم له، غير آبهين بالمسميات والمناصب والشكليات التي لا تعني شيئا.
الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، وفي لقاء مصور معه، سأله محاوره “هل أنت مهتم بأن أدعوك بسيد؟”، فما كان من باشلار إلا أن أجابه “لا، أبدا، على الإطلاق.. نادني غاستون باشلار، أو باشلار، وليس أكثر.. ولا حتى بروفيسور.. بلا مزاح”، مضيفا “أنا رجل حر تماما، الجميع يناديني باشلار”.
ربما هي الرغبة في “الاحتكار” و”السيطرة”، ما تجعل السلمان ينظر إلى الآخرين وكأنهم يملكون عقولا معطلة عن العمل والإدراك. أو هو شيء من “الغرور” الذي يصيب من يظنون أنهم وحدهم القادرون عن تفسير “النص المقدس” واحتكار شرحه، بوصفهم واسطة بين الخالق والمخلوق. متناسيا أن “الغرور زوال الدول”، كما قال علي بن أبي طالب. وأن البشرية تطورت معارفها وأدواتها المنهجية والبحثية، ولم تعد بحاجة لمن يكتب عنها الرسائل ويبعث بها إلى السماء!
إن هذا الجيل الذي سردت نزرا من سيرته، العصي على الترويض، الرافض لوصاية الآخرين عليه، هذا الجيل الذي يؤمن بالتعددية، واحترام الآخر، والحق في الاختلاف، وبشرية “التجربة الدينية”، هذا الجيل هو اليوم من يسعى لأن يكون رافعة للتغيير في الوسط الديني والثقافي والاجتماعي في القطيف. فهو يعمل على صياغة رؤيته الخاصة للحياة، ويجترح لغة وخطاب عصريين، يلبيان إصراره على عمارة الأرض، وصناعة المستقبل، وأن يكون حرا، قويا، لا تابعا طيعا، كما يريد له حرسة المعبد!

السابق
جنبلاط: يا له من قدر!
التالي
القدس لا شيء، القدس كل شيء