القدس لا شيء، القدس كل شيء

فلنفرض، مجازا، أن قرار الرئيس الأميركي ترامب الاعتراف بالقدس رسمياً عاصمة لإسرائيل، لم يكن (كما يقول توماس فريدمان والعديد من المحللين الأميركيين والأوروبيين) مجرد خطوة أخرى متهورة من رئيس “متهور وجاهل”، بل خطوة عقلانية وتكتيكية مدروسة سلفاً لتحقيق خطة مرسومة سلفا. فماذا يمكن أن تكون هذه الخطة؟
السيناريو يمكن حينها أن يكون على النحو التالي:
يكون إعلان الاعتراف الهزّة الأولى العنيفة التي يفترض أنها ستقلب كل معايير التسوية الفلسطينية (والعربية)- الإسرائيلية: بدلاً من ترك القدس لتكون اللغم الأكبر الدائم، القادر على نسف أي “ترتيبات نهائية” مقبلة، يُحسم وضعها فوراً كعاصمة أمر واقع لإسرائيل، على أن يُعطى الفلسطينيون لاحقاً إحدى ضواحي المدينة المقدسة (كمنطقة أبو رديس الشهيرة) كعاصمة لدولة الحكم الذاتي التي يجري الحديث الكثيف عنها الآن.

اقرأ أيضاً: هل فلسطين قضية؟

هنا، قد تسير الأمور في أحد اتجاهين:
اندلاع أعمال عنف واحتجاجات مديدة في أنحاء عديدة من العالم الإسلامي، في مقدمها بالطبع فلسطين، تطال المصالح الأميركية، أو تحد على الأقل من حرية حركة النفوذ الأميركي في العالم. وحينها يتم تأجيل طرح “صفقة العصر” أو الصفقة النهائية” التي يُعدّها منذ أشهر صهر ترامب ومستشاره الأول جاريد كوتشنر.
أو اقتصار ردود الفعل على بعض المظاهرات والاستهدافات العنفية المحدودة ضد المصالح الأميركية، فيكون ذلك بمثابة الضوء الأخضر لإطلاق تسوية كوتشنر التي تتضمن، على مايشاع، ترتيبات جغرافية جديدة في كل من فلسطين 48 ومصر وغزة والضفة، ومشاريع بناء ضخمة لإرساء هذه الترتيبات الجغرافية على أسس اقتصادية تُغري العديد من الأطراف الفلسطينية والعربية على استبدال السياسة بالاقتصاد، والإديولوجيا بالمصالح المالية. على أن يلي ذلك فوراً التطبيع الرسمي للعلاقات العربية- الإسرائيلية، خاصة بين بعض الدول الخليجية والدولة العبرية.

– – II

إذا ماصحّت فرضية هذين الاحتمالين “العقلانيين” لخطوة ترامب المقدسية، تكون الولايات المتحدة رمت الكرة في ملعب القوى الإسلامية المعارضة لمسألة التهويد الرسمي لمدينة القدس. وهنا لا نقصد فقط إيران وفلسطين والمنظمات الإسلامية المتشددة، بل أيضاً تركيا التي يعتبر قادتها الحاليون أن القدس بالنسبة إليهم “هي مسألة كرامة وخطاً أحمر ممنوع تجاوزه” (على حد تعبيرهم الدائم)، وحتى مصر التي كان شيخ الأزهر فيها مقداماً حين هدّد “بفتح أبواب جهنم ضد الغرب”، وصولاً إلى باكستان وإندونيسيا ومسلمي الهند وبنغلادش.

بيد أن نجاح أو فشل الرد الإسلامي على الخطوة الأميركية، لايتعلّق فقط بإبداء الغضب الملموس ولا حتى التهديد الفعلي للمصالح والنفوذ الأميركيين، بل في نقل الصراع على القدس من كونه مسألة “عقار” له أبعاد سياسية تقتصر على الجانب الفلسطيني، إلى قضية حضارية- تاريخية تتطابق مع الرمزية المطلقة لهذه المدينة في تراث الحضارة الإسلامية طيلة عهودها الألفية المديدة.

اليهود الصهيونيون يُطلون على هذه المدينة من هذه الزاوية بالتحديد، حين يربطون حاضرها في القرن الحادي والعشرين بماضيها قبل ثلاثة آلاف سنة، فيحوّلونها بالتالي من عاصمة سياسية إلى حاضرة وجودية وجيو- ثقافية لهم الحق الحصري في السيطرة عليها. وبالتالي، أي رد فعل يقوم به العالم الإسلامي يُسقط هذا العامل من الاعتبار، ويتطرق فقط إلى الجوانب المتعلقة بعاصمة الدولة الفلسطينية، سينسف كل مقومات موازين القوى الحضارية ، ويُسقط عن القدس كل أعماقها الاستراتيجية والرمزية والتاريخية. وهذا قد يُسدد ضربة موجعة لتاريخ الحضارة الإٍسلامية ومستقبلها.

بكلمات أوضح: المعركة التي دشّنها ترامب حول القدس، ومعه على الأرجح أطراف شرق أوسطية غير مرئية الآن على شاشة الرادار الدولي، ستكون إحدى العوامل الرئيسة التي ستُحدد دور الحضارة الإسلامية في النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتشكّل مع صعود الحضارات الآسيوية العريقة إلى قمرة القيادة الدولية مجددا: فإذا ماجاء رد العالم الإسلامي جازماً وقويا، سيكون ذلك دفعة قوية نحو حجز مقعد لهذا الاخير في النظام العتيد. أما إذا ما جاء الرد ضعيفاً وسريع الزوال، فسيكون ذلك مدعاة لمواصلة إقصاء مليار ونصف مليار مسلم عن المشاركة في هذا النظام الجديد.

– III –

هذا على صعيد العالم الإسلامي. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن أي رد إسلامي ضعيف سيشجّعها على المضي قدماً في خوض غمار صدام الحضارات الذي بشّر به ودعا إليه برنارد لويس وتلميذه صموئيل هانتينغتون مع الحضارة الإسلامية، ولاحقاً مع الحضارة الكونفوشيوسية. لكن هذا في الوقت نفسه قد يحقق نبوءة زبغنيو بريجنسكي (في كتابه الأخير “رؤية استراتيجية”) التي قال فيها أن أميركا ستبدأ رحلة النزول عن عرش الزعامة العالمية، إذا ماغرقت في مستنقع المجابهات مع العالم الإسلامي.

القدس الآن هي المدخل إلى صدام الحضارات، كما إلى بلورة طبيعة موازين القوى في النظام العالمي العتيد بين حضارات العالم.

لماذا هي المدخل؟
لأنها، كما قال صلاح الدين الأيوبي للقائد العسكري الصليبي حين سأله عما تعنيه القدس بالنسبة إليه:
“لاشيء”، ومشى. ثم التفت إليه ثانية وقال:”كل شيء”.

السابق
سيرة جيل خرج من عباءة رجال الدين بحثا عن التنوير!
التالي
«ما بعد داعش»: إيران تعطّل المخارج السياسية ولا أحد يمنعها