هل فلسطين قضية؟

في الكلام عن فلسطين ومِن أجلها، علينا ألا ننسى ثلاث حقائق:
الحقيقة الأولى؛ هي أننا لا نتضامن مع فلسطين بصفتها رمزًا أو قضيةً مقدسة، بل بصفتها شعبًا يقاوم الإبادتين السياسية والثقافية، ويناضل من أجل البقاء كشعب واسم وحق وحقيقة. تعبت فلسطين من الذين يدّعون حبّها في العالم العربي؛ يُحبّون فلسطين ويمارسون أبشع أنواع التمييز ضد الفلسطينيين اللاجئين الذين يعيشون في المنافي العربية منذ تسعة وستين عاما. يحملون راية فلسطين ويقتلون شعبها ويفرضون عليه لجوءًا جديدًا مع أبناء البلاد العربية التي استباحها الاستبداد والأصولية.
فلسطين ليست القضية إلا لأنها أرض الشعب الفلسطيني المحتلة والمستباحة، وفلسطين ليست مقدسة إلا لأنها تقدست بدماء الشهداء والضحايا من أبنائها.

اقرأ أيضاً: بغداد صباح الجمعة

الحقيقة الثانية؛ هي أن النكبة ليست حدثًا تأريخيًا حصل في سنة 1948، النكبة مسار لم يتوقف لحظة واحدة منذ سنة 1948. النكبة ليست ماضيًا نتذكره، على ما للذاكرة من أهمية، بل هي حاضر نعيشه كل يوم. فلسطين كلها من البحر إلى النهر تعيش منذ تسعة وستين عامًا في نكبة مستمرة، عناوينها واضحة لمن يجرؤ على الرؤية، من الطرد إلى مصادرة الأراضي إلى تجريف الزيتون والأشجار المثمرة إلى محو القرى المهدمة إلى التغوّل الاستيطاني إلى الجدار إلى الأسرى إلى الأطفال المعتقلين إلى التهويد المنظّم للقدس إلى آخر ما لا آخر له.
ثلاثة أجيال تعيش هذه النكبة المستمرة، التي لم تتوقف، فالاستعمار الاستيطاني الذي صنع الدولة الصهيونية، هو في جوهره مشروع عنصري يهدف إلى تدمير شعب فلسطين وإخراجه من المعادلة.
الحقيقة الثالثة؛ هي أن إسرائيل دولة تمييز عنصري، ابارتهايد؛ إنها تمزج بين التمييز العنصري والإبادة الثقافية والسياسية، وهي بذلك تشكل حالة أشد خطورة من الحالة التي كان يشكلها نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ومن المؤسف أن يكون التقرير عن التمييز العنصري في إسرائيل الذي أصدرته الإسكوا في 15 آذار- مارس 2017، قد تم سحبه بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة، ما دفع السيدة ريما خلف الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) إلى تقديم استقالتها.
سواء نشرت الأمم المتحدة هذا التقرير أو لم تنشره، فإن مضمونه العلمي يؤكد حقيقة لم يعد اليمين الإسرائيلي الذي يسيطر على الدولة العبرية يستطيع أن يخفيها بمساحيق تجميلية إنسانوية. فالممارسات الإسرائيلية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تؤكد هذه الحقيقة، وهذا ما يجب أن يدفع النضال الفلسطيني خطوة إلى الأمام، عبر تأكيد العمل على عزل إسرائيل على كافة المستويات ومقاطعتها.
منذ بداياته في القرن التاسع عشر لم يخف المشروع الصهيوني طبيعته الكولونيالية باعتباره جزءًا من المشروع التوسعي الأوروبي الذي أنتج مشروعات استيطان كولونيالية في أكثر من مكان في العالم من جنوب أفريقيا وروديسيا إلى الجزائر وفلسطين. كل هذه المشروعات الاستيطانية تفككت واندحرت، ولم يبق اليوم سوى المشروع الإسرائيلي الذي حظي بدعم وتبنٍ خاص من قبل القوى الاستعمارية المختلفة من بريطانية إلى الولايات المتحدة.
إن الاختباء خلف الضحايا اليهود في معسكرات الإبادة النازية، وهي واحدة من أبشع جرائم القرن العشرين، لا يعطي لمن يريد التكلم باسم الضحايا الحق في التضحية بشعب آخر وتحويله إلى ضحية الضحية، كما كتب إدوارد سعيد.
فالجريمة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني التي تُرتكب كل يوم، قادت إلى وعي متزايد بضرورة حصار العنصرية الإسرائيلية، ولعل قـــرار الأونيسكو وضع البلدة القديمــــة في الخليل كموقع فلسطيني تراثي مهدد و«يتمتع بقيمة عالمية استثنائية»، يؤشـــر إلى إمكانية جديدة لطرح القضية على حقيقتها، وهذا سيقود إلى عزل إسرائيل، الذي تجلت ملامحه الأولى في انسحاب الولايات المتحدة وإسرائيل من مظمة الأونيسكو.
غير أن ما يجب التنبه إليه هو أن الحصار السياسي على فلسطين ليس حصارا أمريكيا فقط، بل هو للأسف حصار عربي أيضُا، بدأ يتخذ أشكالا غير مألوفة هي نتاج مرحلة الأفول العربي التي صنعتها الديكتاتوريات والأصوليات، في عملية تدمير شاملة للمجتمعات العربية، أعادتنا إلى شكل جديد من الهيمنة الكولونيالية.
كانت فلسطين وستبقى تحدي العالم العربي لنفسه، فيها اكتشفنا كيف قادنا الاستبداد إلى الهزائم المتواصلة، وفي الحروب التي شنت عليها رأينا كيف تساقطت الشعارات في حقول الدم والقتل، وفي محنتها اليوم، نرى كيف تتأسس تحالفات عربية – إسرائيلية، معلنة أو خفية، من أجل حماية أنظمة العجز والتداعي.
لا شك أن أزمة العمل الوطني الفلسطيني العميقة من الانقسام إلى التنسيق الأمني شكلت أرضية سمحت لهذا الضياع العربي الشامل بأن يبتلع الوعي، كأن الأزمة الفلسطينية هي مرآة أزمة العالم العربي مع هذا الانسداد السياسي والثقافي والأخلاقي الذي يجتاحه.
برغم كل شيء، ففلسطين تقاوم، تصنع من الحياة اليومية شكلا للمقاومة، وتتابع إصرارها على التمسك بالحياة، وهذا ما أذهل الصهيونيين ودفعهم إلى مزيد من القمع والتسلط وعدم احترام الحد الأدنى لحقوق الإنسان.
في وصيته طلب الروائي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي أن يُكتب على شاهدة قبره «باق في حيفا». هذه العبارة لا تشير إلى بقاء الكاتب في تراب مدينته فقط، بل تشير أيضا إلى أن حيفا التي طرد الاحتلال أغلبية سكانها عام 1948، وأجبر من بقي في المدينة على الإقامة في غيتو مسيج بالأسلاك الشائكة في حي وادي النسناس، هذه المدينة وكل مدن فلسطين وقراها باقية، لأن ترابها مجبول بكلمات الحرية.

(ألقيت هذه الكلمة في الاحتفال الذي نظمته الأمم المتحدة في بيروت بمناسبة يوم التضامن العالمي
مع الشعب الفلسطيني، في 29 تشرين الثاني- نوفمبر 2017)

السابق
درْس علي عبد الله صالح
التالي
الحريري يرد على الجبير: لا خوف علينا في موضوع المصارف