مِن تسليمِ السلاحِ إلى التسليمِ به

أيُّ حوارٍ مع حزبِ الله يَجبُ أن يَبدأَ بسلاحِه مع أنيّ أستَوْثِقُه. لكنَّ حزبَ الله لا يبدأ أيَّ حوارٍ إلا ويَضعُ سلاحَه خارجَ النِقاش. ما يَعني أنَّ إمكانيّةَ الحوارِ مع حزبِ الله تَنطلقُ من المواضيعِ الأخرى.

لكنَّ المواضيعَ الأخرى السياديّةَ والسياسيّةَ والأمنيّةَ، مرتبطَةٌ بسلاحِه. ما يَعني أنَّ تصحيحَ الوضعِ اللبنانيِّ متعذِّرٌ من دونِ العودةِ إلى موضوعِ السلاح.

غيرَ أنَّ هذه العودةَ تَستلزِمُ اقتناعَ حزبِ الله بأنّه يُشكِّلُ في ذاتِه قوّةً بِمَنأى عن السلاح. ما يَعني أنّه قـوّةٌ سياسيّةٌ وميثاقيّةٌ لا يُمكِنُ تَخطّيها. بَيْدَ أنَّ حزبَ الله يَعتبرُ أنَّ قوّتَه التمثيليّةَ والإقليميّةَ تَضعُفُ من دونِ سلاحِه. ما يعني أنَّ سلاحَه ضَخَّمَ تمثيلَه السياسيَّ ودورَه.

وحين يُضخِّمُ السلاحُ التمثيلَ السياسيَّ يَثبُتُ أنّه عامِلُ تمييزٍ وتفرِقةٍ بين مُكوّناتِ الشراكةِ الوطنيّة. ما يَعني اختلالَ صيغةِ التعايشِ اللبنانيِّ ولزومَ الحوارِ لتقييمِ الشراكةِ واستخلاصِ العِبَر. إلا أنَّ الحوارَ هذه المرّة يَجبُ أنْ يتركّزَ على السلاحِ لأنّه هو الذي أدّى إلى الحوار. ما يَعني أنَّ حزبَ الله سيُضْطرُّ أخيراً إلى القَبولِ بطرحِ موضوعِ سلاحه.

لكنَّه سيطرحُه لتشريعِه في نطاقٍ دُستوريٍّ مُختلِفٍ عن الواقعِ الدُستوريِّ الحاليّ. ما يَعني أنَّ السلاحَ غيرَ الشرعيّ، أيّا كان صاحبُه ودورُه، يُزعزعُ وِحدةَ الدولةِ، لأنَّ الاعترافَ بسلاحِ فريقٍ سيُبرِّر تسلُّحَ الأفرِقاءِ الآخَرين ويُغـيِّرُ بُنيةَ الدولة.
تعودُ هذه الجدليّةُ إلى الاختلافِ بين نظرةِ حزبِ الله إلى نفسِه ونظرةِ الآخَرين إليه.

الآخَرون يُريدونَه حزباً كسائرِ الأحزابِ اللبنانيّةِ فيُطَبَّقُ عليه ما يُطَبَّقُ على سواه. وهو يَعتبرُ نفسَه حزباً offshore عابرَ الحدودِ اللبنانيّةِ نحو بلادِ العربِ والفُرسِ، ويَتمتَّع بامتيازاتٍ خاصّةٍ اقتطعَها لنفسِه مِن مقاومتِه إسرائيلَ في لبنان ومِن محاربتِه الإرهابَ التكفيريَّ في سوريا.

وما دامَ الاختلافُ في النظرةِ قائماً، سيبقى سلاحُ حزبِ الله مطروحاً ومحظوراً في آن. وإذا كان التعديلُ في النظرتين مستبعداً في المدى المنظور، فأيُّ طرفٍ إذاً مَدعوٌّ إلى تغييرِ موقِفه؟ أهُمُ اللبنانيّون الذين يَرَون حزبَ الله بمِرآةِ الدولةِ اللبنانيّة (مِن دونِ سلاحٍ)، أم حزبُ الله الذي يَرى ذاتَه بمَرايا عِدَّة (بسلاحٍ)؟ كنتُ أحسَبُ دائماً أنَّ حزبَ الله يَعتبر وجهَه اللبنانيَّ بمثابةِ حِسابٍ مجمَّدٍ يعود إليه بعدَ تقاعدِه من وظائِفه في المِنطقة.

لكنْ ما حَسِبْتُ يوماً أنَّ الّذين «رَسْمَلوا» على شِعارِ «لا لسلاحِ حزبِ الله»، سَيُسَلِّمون ببقائِه مثلما يَفعلون اليوم؛ صاروا «8 أذار». إنَّ المواظَبةَ على المطالبةِ بنزعِ السلاحِ ضروريّةٌ ولو كان تَخلّي حزبِ الله عن سلاحِه تلقائيّاً ليس الآن في الوارد، فمخالفةُ الدستورِ لا تَخضَعُ لمرورِ الزمن.

لم تَشهَد دولةٌ في العصرِ الحديثِ وضعاً مماثِلاً وضعَ لبنانَ: أنْ يتحوَّلَ حزبٌ مَذهبيٌّ جيشاً آخَرَ ويقاتلَ في دولٍ أُخرى. والمُذهِلُ أنَّ إثارةَ هذه الظاهرةِ المخالِفةِ الدستورَ والميثاقيّةَ أصبحَت إشراكاً، فيما التسليمُ بها بات شَرعاً.

إقرأ ايضًا: معالجة معضلة «السلاح» واجب وطني وليس خياراً

أوّلُ ما قامَ به الجنرال ديغول بعدَ التحريرِ سنةَ 1945 كان إنهاءَ سلاحِ المقاومةِ الفرنسيّةِ وإعادةَ سلطةِ الدولةِ. كلُّ ميليشياتِ المقاومةِ نفذّت الأمرَ وسَلَّمت سلاحَها باستثناءِ الحزبِ الشيوعيِّ الفرنسيِّ الذي ماطَل شهرين قبلَ أنْ يَخضَعَ ويَسْلَم… ويومَ قرّرَ تشي غيفارا سنةَ 1965 تعميمَ الثورةِ الكوبيّةِ الماركسيّةِ على أفريقيا وأميركا اللاتينيّةِ، استقال مِن حكومةِ كوبا، لئلّا يُحرِجَ الدولةَ، وسافر إلى الكونغو ـ برازافيل ثمّ إلى بوليفيا حيث ناضلَ واستُشِهد.

حتّى في إيران، بادرَ الإمامُ الخُمينيّ بعد الثورةِ إلى تنظيمِ جميعِ القِوى العسكريّةِ، الثورويّةِ والمقاوِمةِ في إطارِ مؤسّساتِ الدولةِ بإِمرة مُرشِدِ الثورةِ، وهو عمليّاً الرئيسُ الأعلى للدولة. فما للدولةِ للدولةِ وما للثورةِ للثورة. وِحدةُ السلطةِ شرطُ الوِحدةِ الوطنيّة، ووحِدةُ القرارِ ملازِمةٌ وجودَ الدولة.

ولأنَّ رسالةَ لبنان في هذا الشرقِ ليست تصديرَ الثوراتِ والسلاحِ والمقاتلين، مع أنَّ مقاتلينَا مِن أشْجعِ المقاتلين، ظاهرةُ حزبِ الله تَستدعي حلاً يعيدُ للدولةِ ما لها ويُبقي للحزبِ ما له.

مِثلُ هذه الظواهر انتهَت تاريخيّاً بواحِدٍ من الحلولِ التاليّة: استلامُ الحزبِ المسلَّحِ الدولةَ فيُصبحُ الحزبَ الحاكِم (الاتّحادُ السوفياتي). تسليمُ سلاحِ الحزبِ المسلَّحِ ـ حتّى ولو كان مقاومَةً ـ للدولةِ (فرنسا). دمجُ الميليشياتِ المقاوِمةِ في جيشٍ شعبيٍّ (الجزائر). وبقاءُ السلاحِ ووقوعُ التقسيمِ (دولُ البلقان بعد سقوطِ الاتّحادِ السوفياتيّ).

وإذا كانت الديمقراطيّةُ والتعدّديةُ تَحُولان دون اعتمادِ الحلَّين السوفياتيّ والجزائريّ، والشراكةُ الوطنيّةُ تَنهَى عنِ خِيارِ التقسيم، فمنطِقُ الديمقراطيّةِ والتعدّديةِ والشراكةِ والدولةِ يَفرِض الحلَّ الفرنسيّ. غيرَ أنَّ هذا الحلَّ تَعترِضُه إشكاليّتان: الأولى طائفيّةٌ ميثاقيّةٌ عقائديّةٌ في حالِ انخَرطَ مقاتلو حزبِ الله، دونَ سِواهُم، في الجيشِ اللبنانيّ أو في جهازٍ عسكريٍّ آخَر، والأُخرى وطنيةٌ لأن السلاحَ غيرَ الشرعيِّ ليس محصوراً بحزب الله.

هناك سلاحُ الفلسطينيّين داخلَ المخيّماتِ وخارجَها، وسلاحُ التنظيماتِ الأصوليّةِ المتطرّفة والتكفيريّةِ في مدن وقرى معيّنةٍ؛ ما يَستدعي معالجةً شاملةً إذ لا يُعقلُ أنْ يُنزعَ السلاحُ من طرفٍ لبنانيٍّ ويُتركَ مع الغرباء، لاسيمّا أنَّ جميعَ هذه الأسلحةَ، صارت جُزءاً من الصراعِ السُنيِّ/الشيعيّ بعدما كانت جُزءاً من الصراعِ العربيِّ/الإسرائيليّ. في هذا السياقِ، ماذا يمنعُ الدولةَ اللبنانيّةَ من نزعِ السلاحِ الفِلسطينيّ وحمايةِ المخيّماتِ وقد صَدَرت قراراتٌ سابقةٌ بذلك؟

خِلافُ ذلك، لن يَقبلَ حزبُ الله بأنْ يُسلِّمَ مُسدَّساً مهما كتَبنا (وكتبتُ)، بل سوف يَستخدمُ سلاحَ غيرِه حُجّةً إضافيّةً للاحتفاظِ بسلاحِه. مجموعُ هذه الإشكاليّاتِ تَدفَع بالوضعِ اللبنانيِّ نحو التدويلِ التصاعُديِّ مع كلِّ ما يُرافقُ التدويلَ من خِياراتٍ مؤلمةٍ.

السابق
اجتماعات ومشاورات في باريس وبيروت للبتّ في«تريّث»الحريري
التالي
السعودية تعطي الأولوية لمشاريع الطاقة المتجددة: جذب رؤوس الأمول للإستثمار!