حين استيقظت طهران صباح سقوط صنعاء

كشف انقلاب الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح السبت على حلفه مع الحوثيين، تداعي ووهن التحالف الذي ترعاه إيران، الذي يسمح لها بالقيام بدور تخريبي تهدد به أمن الخليج، كما يمكنها من اختراق المنطقة، لكن العزم الذي أفصح عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لإنهاء الخطر الإيراني من على تخوم الكتلة الخليجية، أوضح لصالح أن العامل الإيراني في المنطقة عموما وفي اليمن خصوصا هو محرّم لن تقبل به الرياض، ما جعله يتدارك عن خطأه في حق بلده ومحيطه الخليجي، ليبدأ صفحة جديدة من فصول الصراع اليمني، رحبت بها دول التحالف الإسلامي الداعمة للشرعية اليمنية، وأعادت بوصلة الصراع إلى أصوله المحلية.

أن ينقلب الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح على حلفه مع جماعة الحوثيين، فإن ذلك يُسقط نهائيا تقاطع مصالح ماكيافيلية غير سوّية بين مدرستين في السياسة وفلسفتين في عقائد الحكم. وأن يجري الحدث بهذا الشكل الدراماتيكي الذي كشفت عنه ساعات فجر السبت الماضي، فإن ذلك ليس إلا واجهة لتبدٌل كامل في مقاربة العواصم المعنية بالشأن اليمني لاستراتيجيات مواجهة الاختراق الإيراني اللافت الذي حققته طهران داخل المشهد السياسي لهذا البلد.

من المبكر معرفة أسرار ذلك الموقف الجديد الذي انتهجه رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام ضد الحوثيين، غير أن حراكه العسكري السياسي الجديد ليس وليد مزاج محلي بين شريكين تورطا سويا في الانقلاب على الشرعية اليمنية المعترف بها عربيا ودوليا، بل نتاج ترتيبات ليست العواصم الإقليمية بعيدة عنها واتصالات دبّرت في الأسابيع الأخيرة لفكّ ارتباط صالح بالحوثيين.

إقرأ أيضاً: «إسرائيل» و12 دولة عربية وإسلامية لمواجهة طهران وحلفائها

والظاهر أن تطورا جديدا طرأ على فلسفة التحالف العربي بقيادة السعودية في مقاربة المأزق اليمني.

انقلاب صالح

منذ بداية “عاصفة الحزم” أُدرج تحالف صالح-الحوثي من قبل التحالف العربي داخل معسكر الخصوم، ورُفضت كل المقاربات البديلة التي أرادت إعادة تعويم صالح وتمييزه عن شركائه. بالمقابل، وعلى الرغم من رسائله التكتيكية الودودة للسعودية ودول الخليج التي كان يرسلها بين الفينة والأخرى خلال السنوات الماضية، بدا أن صالح فشل في استعادة الثقة المفقودة التي وسّعت الهوة بينه وبين جيرانه الخليجيين. تعاملت الرياض وحلفاؤها مع مناورات صالح بصفتها أساليب متقادمة لا نجاعة لها في زمن العزم النهائي على التخلّص من الخطر الإيراني على تخوم الكتلة الخليجية.

وفي تصريحات وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الأخيرة والتي أكد فيها أن بلاده لن تسمح بقيام “حزب الله” جديد في اليمن، كان جليا أن أمر إخراج إيران من الفضاءات المطلّة على الخليج هو أمر حتمي متعلّق بالأمن الاستراتيجي للسعودية كما لبقية دول الخليج. وحين كان بن سلمان يكرر أن المشكلة مع قطر هي “قضية صغيرة جدا جدا جدا” مقارنة بملفات أخرى منها ملف اليمن، فإن ذلك أوضح لعلي عبدالله صالح أن العامل الإيراني في المنطقة عموما وفي اليمن خصوصا هو محرّم لن تقبل به الرياض، كما أنه أمر لن تتساهل معه المجموعة الدولية مهما تفاوتت وارتبكت مواقفها من المسألة اليمنية.

بالنهاية فإن صالح هو رجل حسابات متمرّس ويمتلك دهاء سياسيا عتيقا. أدرك الرجل أن خياراته في التحالف مع الحوثيين كانت خاطئة تصل إلى مستوى الخطيئة. ولم يكن هذا الإدراك جديدا، إلا أن تحويله إلى انقلاب جذري كان يتطلّب إنضاج البدائل التي تحسّن حساباته السياسية.

دفع صالح في الأشهر الأخيرة برسائل وإشارات إلى الرياض وحلفائها تفيد باعتراف بخطأ وعن استعداد لتسوية تزيل كابوس الحوثيين عن اليمن. لم يكن صالح قادرا على الإفصاح علنا عما أباح به للرياض ودول التحالف. كان وجوده داخل غابة البنادق التي يمتلكها الحوثيون مشروطا بلغة سياسية محدودة، فيما أن التوتر الذي بدأ يظهر للعلن بين الشريكين أطلّ بشكل داهم وعاجل على أمنه وحرية حراكه.

قبل أشهر أرسل ولي العهد السعودي رسالة واضحة باتجاه اليمن. قال الأمير محمد بن سلمان في مايو الماضي إن “علي عبدالله صالح لديه خلاف كبير جدا مع الحوثي، ونعرف أنه اليوم تحت سيطرة الحوثي وتحت حراسة الحوثي، ولو لم يكن تحت سيطرة وحراسة الحوثي سيكون موقفه مختلفا تماما عن موقفه اليوم بلا شك”.

أكمل الأمير الشاب إشاراته اللافتة جدا باتجاه الرئيس اليمني السابق “علي عبدالله صالح لو خرج من صنعاء إلى منطقة أخرى سيكون موقفه مختلفا تماما عن موقفه اليوم، اليوم قد يكون مجبرا على الكثير من المواقف التي ذكرها”.

ولي العهد السعودي قدم خارطة طريق تتيح لصالح تخليص نفسه من تحالف شاذ وتخليص اليمن من عصر الظلامية الحوثية

كانت تلك إشارة الرياض منذ ستة أشهر. قدم ولي العهد السعودي خارطة طريق تتيح لصالح تخليص نفسه من تحالف شاذ وتخليص اليمن من عصر الظلامية الحوثية وهيمنة طهران على راهن ومستقبل اليمن كما على مستقبل صالح نفسه وحزبه، المؤتمر الشعبي العام.

يتم انقلاب صالح على الحوثيين بناء على حسابات صالح نفسه. ليس في الأمر أي أوهام، فالرجل مسؤول عن تدهور المسألة اليمنية وإتاحته للحوثيين الإمساك باليمن والهيمنة على راهنه، وللرجل مسؤوليات يجب أن يتحمّلها لإخراج البلد من مأزقه ومأساته. لكن انقلاب صالح أيضا بالمعنى التكتيكي يقلب مآلات الحرب رأسا على عقب لصالح ما نادى به التحالف الدولي منذ الساعات الأولى لـ”عاصفة الحزم” في مارس 2015 لجهة تخليص اليمن من النفوذ الإيراني المتسلل إلى داخل نسيجه الاجتماعي السياسي وإعادة بوصلة الصراع إلى أصوله البيتية المحلية.

هزيمة إيرانية

تفقد إيران ورقتها اليمنية. كانت طهران وحدها تدرك تصدّع حضورها ووهن قواعدها داخل هذا البلد. أطلقت صواريخها الباليستية من اليمن باتجاه السعودية مؤخرا ليس من موقع القوة والتفوّق بل من موقع الضعف والارتباك. لم يكن أمر هذا القلق الإيراني جليا إلى أن أظهرت وقائع الساعات الأخيرة صدق ما تعرفه إيران عن ذلك الوهم الذي تسيطر من خلاله على اليمن منذ أن أباح الزواج العجائبي بين صالح والحوثيين انطلاق العبق الإيراني من صعوده شمالا باتجاه عدن جنوبا مرورا بالعاصمة صنعاء.

تعامل البيان الأول للتحالف العربي مع التطورات الأخيرة بصفتها شأنا يمنيا يدور داخل تحالف الانقلابيين. قال البيان إن التحالف “يراقب”، تحدث عن “انتفاضة مباركة”. بدا أن الكلمات الأولى للتحالف واكبها حذر مردّه خيبة التجارب السابقة مع صالح، غير أن العالم برمّته فهم لاحقا أن تطورات صنعاء هي مفصلية في تاريخ اليمن كما في تاريخ المنطقة.

إقرأ أيضاً: أكراد سورية هدية جديدة لطهران

إخراج إيران من اليمن ليس مهمة اليمنيين وحدهم، وبالتالي من الخفّة اعتبار انقلاب صالح على ذراع إيران اليمنية شأنا يمنيا خالصا. كان لا بد أن يتدخل التحالف بشكل حيوي لرفد انتفاضة اليمنيين بالغطاء العسكري المطلوب لإنهاء الظاهرة الحوثية نهائيا، وكان لا بد للحكومة الشرعية اليمنية أن تطوي صفحة قديمة وتعلن فتح صفحة جديدة مع الجميع، بما في ذلك حزب المؤتمر الشعبي العام وزعيمه.

ستدور أحداث كثيرة عسكرية وسياسية قبل أن يعود اليمن إلى تموضع آخر. وحدها طهران الصامتة ستحتاج إلى الكثير من التدبيج الأبجدي لتبرر هزيمتها اليمنية. ولطالما اعتبر المراقبون أن الورقة اليمنية في يد إيران ليست أساسية مقارنة بأوراقها في العراق وسوريا ولبنان، بيد أن سقوط صنعاء من حسابات طهران نذير سقوط آت لعواصم عربية أخرى ما زالت تحتلها إيران.

السابق
إيران ووقاحة البقاء في سوريا
التالي
اعتصام لمياومي شركة الكهرباء