التسريبات في قضية زياد عيتاني.. لتدجين الصحافيين!

منير الربيع

سحيق، هو المنحدر الذي تسلكه الصحافة اللبنانية. هو بلا شك، يرتبط بالواقع السياسي العام في البلد، إلى جانب ارتباطه الوجودي بمسألة الممولين ورغباتهم، أو ربما بهرموناتهم.

في لبنان حالياً، نوعان من الصحافة. نوع يمزج ما بين التقليدية والحداثوية، ولكن بمهنية وروية، يفضّل التمحيص في ما يجري التداول فيه، قبل تناوله. ونوع آخر، تقليدي في المضمون، وحداثوي في الشكل، لكنه متفّلت من أي إجراءات رقابية ذاتية، أو غير قابل للنقد، بل يكتفي بكل ما يتلقى، ويعمل على تسويقه.

يقود ذلك إلى نتيجتين من الصحافيين، أولئك السائرون في ركب التهليل والتصفيق، والمعتادون على السير مع اتجاهات الرياح، بمعزل عن أي تفكير أو تمحيص، وهم أكثرية. لهم الغلبة في ضوضاء الأضواء والفضاءات المفتوحة، يصل صوتهم بسرعة، بمعزل عن التأكد من مصداقية قضية ما.

إقرأ أيضاً: حملة تحريض على المحامي نبيل الحلبي والسبب.. زياد عيتاني!

وآخرون، يفضّلون الركون إلى هدوئهم، وتغليب منطق النقد العقلي لأي خبر يتلقونه، إلى حين التأكد منه، بعيداً من منطق السبق أو “غشّ” القرّاء واستقطابهم إلى اللا شيء، إلى ما هو فارغ من أي مضمون، وهؤلاء أقلية أصبحت مقموعة، أو خائفة من الإفصاح عما لديها، خشية الحملات التي ستتعرّض لها في جنون التواصل الإجتماعي من ناحية، وخشية التوقيف، في ظل موجة التوقيفات الحاصلة، من جهة ثانية.

لا شك في أن أزمة الصحافة من أزمة السياسة، وأزمة الصحافيين من أزمة السياسيين، لا يمكن فصل هذه العلاقة الطردية. فكما أصبح السياسي في لبنان، سلطة قضائية، تحوّلت الصحافة إلى سلطة مماثلة، هدفها الجَلد السبّاق، وغير المرتكز على أي قواعد أو ثوابت. ليس تفصيلاً ما يحصل في لبنان من حفلة جنون في الفترة الأخيرة، من توقيف أصحاب الرأي، أو الصحافيين أو الناشطين.

في هذا العصر، قد يكون المُطالب برقابة مشددة على وسائل التواصل أو حتى على وسائل الإعلام، وكأنه خرّيج أنظمة أمنية، وتصل جرأة المطالبة بذلك إلى حدّ الإنتحار المهني الشعبوي في هذه الفترة، لكن بهدوء. فغالباً ما تكون الرقابة وتنظيم “وسائل تداول المعلومات وتناقلها” حامية لقدسية المعلومة من المتطفلين، أو المصفقين الذين أصبحوا جيوشاً مجنّدة لها وظائف محددة، ترتبط بكل فريق ينتمي هذا الجيش الالكتروني إليه. وإذا حصل أن خالف شخص، بمعزل عن موقعه، هذا السرب، فستبدأ حملات التخوين ومحاكمات الجَلد.

غالباً ما تكون الرقابة في هذه الحالة، عاملاً مساعداً لصيانة المهنة، من المتعدّين عليها، وإن كان الطرح أمنياً في شكله، لكنه أيضاً قد يحمي المهنة من المنطق الأمني الذي يطغى على لبنان منذ سنوات إلى اليوم. إذ يتحول الخبر الأمني، والذي يحتوي كل مقومات الإثارة والتشويق، إلى خبر أول لأيام، وتنسج حوله تحليلات ومجلّدات، قبل إصدار أحكام قضائية، بل وقبل التأكد من حقيقة المسائل.

حين تنحدر الصحافة إلى درك التهليل للأمنيين على “إنجاز” ما، أو تنحدر إلى خانة التبجيل لصاحب موقع سياسي، يعني أنها تتحول من المهنة الكاشفة للتجاوزات، إلى فرصة لتعزيز العلاقات العامة.

لكن، في مقابل المطالبة برقابة مشددة على حفلات الجنون التي ينام عليها اللبنانيون ويصحون، فأيضاً لا بد من الإشارة إلى أنه لا يمكن القبول بتوقيف أي صحافي أو صاحب رأي، أياً كان “اقترافه”. وما شهده لبنان مؤخراً، يعدّ مرحلة يدق لها ناقوس الخطر، في تحويل الصحافيين أو الناشطين إلى محاكم جزائية بدلاً من محكمة المطبوعات.

والأخطر من ذلك، هو أن حملة التدجين والتطويع والتركيع، لا تنفصل عن خطين أساسيين: غياب منطق الرقابة، والضرب بلغة الجزاء لأي شخص يعبّر عن رأي بمعزل عن الطريقة، والتي غالباً ما تكون تشهيرية، او تجريحية، ولا يمكن قبولها. لكن الأكيد أن مواجهة هذا النوع من التفلت في التعبير، لا يُحلّ باللجوء إلى القضاء الجزائي، وإن كانت هذه تحتاج إلى حماية. في المقابل أيضاً، تحتاج المهنة إلى حماية من التسرّبات الأمنية أو المنطق التهليلي والترويجي.

ما حصل منذ أيام، مع مارسيل غانم، ومع أحمد الأيوبي وغيرهم من صحافيين أو ناشطين، لا يمكن إدراجه إلا في خانة تدجين الصحافيين وتركيعهم، لصالح منطق “المهنة الموحدة” أو المتوحدة، غير القابلة لأي احتمال نقدي او موقف اعتراضي.

وفي المقابل، لا يمكن تجاهل ما حصل مع المسرحي زياد عيتاني والمشتبه في تعامله مع العدو الإسرائيلي، حيث كان للتسريبات الأمنية أو التسربات الأمنية، بُعد عميق في إصدار الحكم بحق الرجل، قبل إنتهاء التحقيق، الذي تغيّر أكثر من مرّة على لسان التسريبات نفسها. إذ تجلّت التناقضات في الإنحدار الروائي لاعترافاته، من تخطيطه لعمليات اغتيال، إلى مراقبة سياسيين وجمع معلومات عنهم، إلى إنشاء مجموعة حزبية مؤيدة للتطبيع. ومِن تقاضيه المال لقاء “عمالته”، وصولاً إلى خضوعه لابتزاز جنسي.

وبمعزل عن تغيير الموقف باعترافاته أكثر من مرّة، ما اضطر الى إصدار تسريبات متناقضة لتصويب بوصلة التحقيق، فإن المسؤولية هنا تقع على عاتق الجهة المولجة بالتحقيق مع المتهم، والتي سرّبت ما سرّبته في البداية، واضطرت إلى نفيه لاحقاً وتصحيحه، عبر تسريبات أخرى. وهو ما يضرّ بسمعة التحقيق والمحققين، الذين كان الأجدر بهم تسريب الخبر بعد إنتهاء التحقيق وإحالة الموقوف إلى القضاء المختص.

كما لا يمكن مجانبة إلقاء اللوم على وسائل الإعلام التي سعت إلى تحقيق “السَّبق” عبر التشهير وتبني روايات التحقيق، من دون التثبّت منها، ومن دون حتى ترك هامش نقدي للصحافي أو المستقصي يحفظ به خطّ الرجعة. وهنا الدليل الأبرز على مدى تدجين “الصحافة اللبنانية”.

في منطق الأنظمة الأمنية، أو الراديكالية، غالباً ما يلجأ ولاة الأمر، إلى تسريب خبر ما، لاستمزاج رأي الشعب فيه، أو لمعرفة ردّ الفعل على الخبر، وذلك لتوجيه اتخاذ القرار في ما بعد، بناء على رد الفعل هذا. وربما يكون ذلك، أسوأ ما وصلت إليه مهنة الصحافة، في تحوّلها إما إلى مضبطة إتهام في مكان، أو بالون اختبار في مكان آخر.

والأخطر من ذلك، الرسائل الضمنية التي حملتها التسريبات في قضية عيتاني، وهي ربما أخطر مما كان سيستبب فيه عيتاني إذا ما ثبتت عمالته وخيانته للوطن، إن لم تنتهي قصته عند قضية “خيانة زوجية”، مع الإقرار بالخطأ الذي وقع فيه. لكن الأخطر والأخطر، هو تضمين التسريبات أسماء صحافيين آخرين وناشطين، قيل إن عيتاني تعرف إليهم، بناء على طلب مشغّليه. والأكيد أنه ليس صدفة، رمي الأسماء التي رميت، من بولا يعقوبيان، وديما صادق، ومصطفى فحص، إلى وسام سعادة ومحمد بركات وغيرهم.. فهؤلاء أصحاب مواقف معروفة، بمعزل عن الإتفاق أو الإختلاف معهم، إلا أنهم يصرّون على اتخاذ مواقف نقدية متمايزة عما هو سائد، ومعاكسة لمسار الدوغمائيات السياسية المفروزة في البلد.

تسريب هذه الأسماء له مقصد وهدف. إذ لا يحق لأي كان تسريبها أو إعلانها، حتى وإن ذكرها الموقوف. إلا أن الهدف من ذلك، كما يبدو، هو توسيع مروحة التركيع والتدجين، لا سيما لمن يريد اتخاذ مواقف نقدية أو اعتراضية. الهدف من تسريب هذه الأسماء، هو إيصال رسائل إلى هؤلاء، بأنهم تحت المجهر، وبأنهم ربما يلاقون المصير نفسه الذي لاقاه مرسال غانم أو أحمد الأيوبي أو غيرهما، بل وقد تكون تهمة عمالتهم جاهزة.

فبركات وفحص من “شيعة السفارة”. وتسريب أسمائهم في قضية عمالة، يشكل رسالة إستباقية لهم بأنهم ممنوع عليهم التفكير في العمل في المجال السياسي خلال موسم الإنتخابات المقبل. أما صادق ويعقوبيان، فتعرّضتا لحملات تخوينية هائلة في الفترة الأخيرة، فيما سعادة مواقفه حادّة جداً.

إقرأ أيضاً: زياد عيتاني يتعامل مع «الموساد» منذ عامين.. وتلّقى أموالاً ضخمة لتشكيل «لوبي»

ليس الكلام هنا، دعوة إلى التشكيك في أي مؤسسة. ولا هو دعوة إلى التمرّد أو الإستخفاف بكل الإنجازات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية. لكنه يرمي إلى حماية هذه الإنجازات، بحماية أصحاب الرأي، كي لا يتكرر منطق التدجين ويتّسع، وكي لا يُكرّس ما ساد منذ ظهور تنظيم داعش، لجهة وصف أي شخص سوري معارض، سواء كان مدنياً أم عسكرياً، بأنه ينتمي إلى هذا التنظيم. ومعلوم أن تجاوزات كثيرة حصلت، عادت الأجهزة الأمنية وعملت على تصحيحها.

ولأن حماية الصحافة من حماية السياسة، فلم يعد في الإمكان السكوت، لا أمام التدجين، ولا أمام منطق “السياق القطعاني العام”.

السابق
نصرالله «محتجز» في طهران بمواقف روحاني فهل فشلت وساطة ماكرون؟
التالي
الحريري: من انتصر في سوريا ليس الأسد!