المؤرخ إبراهيم بيضون: تأثّرتُ بوالدي في تجديد النّصّ ومواقفي السّياسيّة

قال فيه المؤرِّخ العلاَّمة/ العلَمُ السيد حسن الأمين: "الدكتور إبراهيم بيضون لقد قَرَّتْ به عيني". فقد أثبت أنه مؤرِّخ حداثوي ومجدِّد، عندما اجتهد فأصاب، في عِلْم التّاريخ، فهو الذي – وعلى حدّ قول الأمين أيضاً – "نهض بعبء كان له كفوءاً، هو كتابة التاريخ من جديد، ومَنْ يتتبع ما خرج من كتابات بيضون، سواء على طريق المقالة أو طريق الكتاب، يوقن أن الرجل قد خُلِق لمهمة كتابة التاريخ من جديد، وأنه عرف ما خُلِق له، فلم يُضِعْ نفسه، ولم يتنكّب عن الطريق. وإنّ من أفضل ما تتميز به كتابات الدكتور إبراهيم بيضون التاريخية، عندما تنطوي على موضوع فجّ جامد، تجيء موشّاة بالبلاغة البيانيّة، فتسيغ القراءة وتُغري بالمزيد". وبدورنا نقول: إن هذه الشهادة الدامغة، هي خير ما يلخّص مضمون إبداعية بيضون الذي استحوذت على كيانه الفكري والعقلي، شهوة البحث عن الحقائق التاريخية المجرَّدة، فانتقل من ربوع جنائن الأدب، إلى مغالق مسرح التاريخ، فاستطاع فكّ رموز ألغازها، مُجَوْهِراً القضايا التاريخية الحسَّاسة، بتعامله مع معميّات التاريخ تعاملاً مفصليّاً، في قراءته المختلفة للتاريخ، من خلال مُراودته للحقيقة، في مجالها المعقَّد والأرحب.

على هذه الخلفية الباذخة بمضمونها المعرفيّ الخلاّق، نقرأ السِّيرة الذاتيّة لإبراهيم بيضون الذي يتناولها هذا الحوار:
· في أي سنة ولدت؟ وأين؟
ولدت في سنة 1941، في بنت جبيل.
· ماذا تخبرنا عن والدك؟
كان والدي مغترباً إلى أكثر من مكان: بدءاً من الأرجنتين إلى السنغال، وكان يتردّد على مصر، ويتزوّد بمجلات وكُتُب ينشر فيها أدباء ومفكّرون من عمالقة زمانهم، فتأثر الوالد بهذا المناخ، ونقل بعضاً منها (الكتب والمجلات) إلى بنت جبيل، من خلال المكتبة التي أقامها في البلدة، ولم يبق منها إلا القليل.

اقرأ أيضاً: الدكتور إبراهيم بيضون.. العالم المنحاز إلى الحقيقة

باختصار: ولدتُ في بيت يميل إلى الثقافة، ويتأثّر بالسياسة أيضاً، لا سيما انتفاضة التّبغ في سنة 1936، التي كان رائدها الوالد الحاج علي بيضون. ولقب الحاج عُرِف به منذ أن أدّى الفريضة، حين التقى، في بورسعيد، الحجاج القادمين من لبنان. ولكن هذه المسألة، مسألة الحجّ، لم تتم، فقط، من طريق المصادفة؛ إذْ إنه (أي الوالد)، وُلد ونشأ في بيت معروف بالتّديّن، وكان يؤمّه علماء كبار. ولكن الوالد، لم يكن ملتزماً دينياً على طريقة والده، وإنما كانت له توجهات تجديدية، قادته أخيراً إلى السياسة، وتتوَّجت بانتفاضة التّبغ.
وبالنسبة لي، تأثّرت بكل تُراث هذه المرحلة، على الصعيدين الثقافيّ والسياسيّ. وكنتُ حريصاً على السَّير في التّجديد والتّغيير، وكلاهما بات سمةً من سمات أعمالي الكتابيّة. أستطيع القول: إنّني اكتسبت من هذا التراث الذي زرعه الوالد في مجالنا، بالإضافة إلى بعض من أصدقائه، كان يتردّد على دارنا، ومنهم مَن أصبحت قريباً منهم، مثل الشاعر موسى الزين شرارة، والشاعر عبد الحسين عبد الله، وأحد رموز الثقافة في بنت جبيل إبراهيم نعيم بزي (أبو نعيم)، والشيخ علي الزين، وحسين مروّة، وحسن الأمين. وكانت ثمة علاقة قديمة، وحميمة في آن، بين أُسرتنا والأسرة الأمينيّة، وكان أبناء السيد محسن الأمين، يترددون على بيتنا، يزورون الوالد، لا سيما السيد حسن والسيد هاشم. لم أكن على علاقة مباشرة مع السيد هاشم؛ ولكن علاقتي بالسيد حسن، كانت متينة، ولا أبالغ إذا قلتُ إنه كان من أساتذتي، وكان من المتحيِّزين لي، في الخط التجديدي والمدافعين عنه. وقد أعطتني، هذه العلاقة مع السيد حسن، دفعاً معنوياً، إذ كان دائماً، وحيث كان يُثني على كتاباتي؛ وعندما يُصدِرُ كتاباً، يقدّمه لي مع إهداءٍ: “إلى العزيز الدكتور إبراهيم بيضون الذي قَرَّتْ عينيَ به”.

من الأدب إلى التاريخ
· ماذا عن طفولتك؟
طفولتي لم تكن متجانسة في كل الأحوال. ففي بدايتها كنت طفولة ساذجة، قضيت معظمها مع أخي، المهاجر الآن إلى أميركا، وأقارب لي، في كَرْم لنا في منطقة معروفة بـ”الوادي” (في بنت جبيل)، وكان فيها من البراءة والإمتاع؛ ثمّ بعد ذلك، كنت قد بدأت أميل إلى قراءة الشعر والرواية، وقد رسخ ذلك في وعيي الثقافي، وترك أثره على شخصيتي فيما بعد.
· ماذا عن دراستك؟
تدرّجت في المدرسة الرسمية، في بنت جبيل؛ ثم إلى مدرسة ليلية في بيروت، فيما كنت أمارس عملاً وظيفياً، أثناء النهار، في بداية العشرينات من عمري.
· ماذا عن شخصيَّتيْ والديك، وعن تأثّرك بهما؟
كان ثمة اختلاف في شخصيتيّ الوالد والوالدة. فالوالد كنتُ معجباً به مناضلاً، قويّ الشكيمة، ومتعطّشاً إلى الثقافة؛ بينما الوالدة، الحاجّة علياء بيضون، كانت شديدة التّديُّن، وتمارس ضغوطاً عليّ لممارسة الصلاة والطقوس الدّينية، من دون انقطاع، ولكنها لم تكن متزِّمتة، إلى حد كبير. فكانت أمْيَل إلى الدَّماثة والطِّيبة. ذلك أن تأثّري كان بالوالد، خصوصاً فيما ذهبتُ إليه، من تجديد النص، والمواقف السياسية الوطنية والعربية. فإني لم أبلغ السابعة عشرة حتى كنت قد قرأت العشرات من الكتب، لا سيما في مجال الرِّواية ومنها قليلٌ من المُتَرْجَم، قرأتُ أعمال نجيب محفوظ، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وإبراهيم المازني، الذي كنت معجباً بكتاباته، ومحمد سعيد العريان. إلى كتابات غير روائية مثل أعمال: أحمد حسن الزَّيات ومصطفى صادق الرّافعي؛ بينما الشِّعر تلقَّيته في سن مبكرة، بدءاً من بنت جبيل، ولَفَتني شعراء كبار لبنانيون مثل: أمين نخلة والأخطل الصغير وصلاح لبكي والشّاعر المهجري الياس فرحات. وإذا انتقلنا إلى سوريا، فالشاعر بدويّ الجبل (محمد سليمان الأحمد) يبقى في المقدِّمة، بالإضافة إلى عمر أبو ريشة. ولكنني كنت مشدوداً، حتى في تلك السن، إلى العراق وشعرائه العمالقة، لا سيما الجواهري، وكنت أنظر إليه، على أنه شاعر العرب حينذاك. وطبعاً كان هناك شعراء مشتَهَرونَ في العراق، قرأتُ لهم، ولكنهم لم يخرجوا من ثوب التقليد مِثْل: الزّهاوي والرصافي.
وكنت أمِيل إلى الأدب، ولم يكن التاريخ ما تستثيرني قراءته، حتى مرحلة الجامعة، فتغيّرت، حينذاك اتجاهاتي من الأدب إلى التاريخ. فهذا الرصيد الأدبي، الذي أشرنا إليه، كان له تأثير في ما صرتُ إليه فيما بعد. وعندما انتسبتُ إلى قسم التاريخ في الجامعة العربية في بيروت، في العام 1963، لم يَعْنِ ذلك، أنني تخلّيتُ عن الأدب، الذي ظلّ يتسرّب في شرايين دراساتي التاريخية حتى اليوم.

بداية التفرّغ للكتابة
· هل تتذكّر حادثة معيَّنة، في مطلع مراهقتك أو مطلع شبابك، كان لها تأثير حاسم، في تغيير مجرى حياتك، باعتراضها رغبة حياتية خاصة، كانت لديك، ما وجَّه حياتك الوجهة التي وصلت إليها اليوم؟
في جامعة بيروت العربية كان تحوُّل آخر ترك دمغة في حياتي، إذْ تعرَّفتُ بعض كبار الأساتذة، ممن كنت أسمع بهم، وكانت لهم شُهرة فائقة في مصر، ومنهم، على سبيل المثال: الدكتور لطفي عبد الوهاب يحيى، والدكتور حسن ظاظا.
كانت علاقتي بهما، تتعدى علاقة الطالب بالأستاذ إلى الصداقة. وقد تركوا جميعاً أثراً عميقاً في حياتي. بعد التخرّج، مارستُ التدريس، عاماً واحداً في ثانوية بنت جبيل، ثم قرّرت الرحيل إلى فرنسا، حيث حضَّرت لشهادة الدكتوراه الحلقة الثالثة، ثم حاولت أن أُتابع للحصول على دكتوراه الدولة، فلم تسعفني الأحوال المادية. حينذاك التحقت بثانوية “رأس النبع”، ومارست التدريس بصورة متعاقد في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، في العام 1971. ولكن، في العام التالي، أصبحت متفرِّغاً في الجامعة، وكان الفضل في ذلك، للدكتورة زاهية قدّورة، عميدة الكلية حينذاك. كان من نتائج ذلك، الاستقرار النفسي والمالي مما أتاح لي مساحة من الوقت، للكتابة والإنتاج العِلْمي، حتى بات لي، هذا الكمّ من الكُتُب والأبحاث.

مجلة شؤون جنوبية 165
· في أيّة سنة انتقلت من بنت جبيل إلى بيروت؟
كان ذلك في العام 1960. كانت بيروت عاصمة الثقافة، في ذلك الوقت، ومقصد العلماء والشّعراء والأدباء والفنانين العرب. تأثّرت بهذا المناخ الثقافي. فكما قلتُ، بعد فترة من الدراسة الليلية، تعرّفت شخصية صحافية موهوبة، أصبح من كبار العاملين، في جريدة “القبس”، في الكويت، ومن ثم الآن، رئيس تحرير مجلة “الصياد” أعني به الصديق رؤوف شحوري. كان يومذاك، يعمل في جريدة “الجمهورية”، ويشجّعني على أن أكتب، فأتردّد على الجريدة، بين الحين والآخر، وتعرّفت، حينذاك على مجموعة من كبار الكُتَّاب والشّعراء، أمثال: جوزيف نجيم، الذي أُعجبت به كثيراً، وتعلّمتُ منها الكثير، وكنت، من حين إلى آخر، أكتب مقالات فيها.

تقدير… وسوء فَهْم
· متى بدأت بإصدار أعمالك الكتابيّة؟
كان ذلك في السبعينيات من القرن العشرين، وقد حرَّضني أحد الأساتذة من جامعة دمشق (الدكتور سهيل زكّار)، على أن نكتب معاً في موضوع تاريخيّ تُراثيّ. لقد فاجأني بهذا الطلب، لاعتقادي أن زمن التأليف، لم يحن بعد. ولكن أمام إلحاحه، رضختُ لطلبه. وصدر حينئذ كتاب “تاريخ العرب السياسي” المشترك بين الاثنين، ومن اللافت، حينذاك، أن الطبعة الأولى، من الكتاب، قد نفدت، في أقلّ من سنة. وكان المقبلون عليه من الطلاب، بشكل خاص، ولكنه، في الحقيقة، كان مجرّد كتاب تقليدي. كنتُ، من جانبي، حريصاً على شيء من التحليل، بينما كان زميلي مفرطاً في التقليد، على الرغم من علمه وسعة معرفته.
الكتاب الثاني – الصادر في السبعينات أيضاً – كان قد شجعني عليه الصديق الذي رحل باكراً، السيد محمد جواد فضل الله، وهو “التوّابون”، والطّريف أن هذا الكتاب، على صغر حجمه، نال شُهرةً واسعة، لا تزال سائدة حتى اليوم. ربما لأن نهجاً جديداً، سُرتُ فيه، حينذاك، وما زال يتطوّر، مع الوقت حتى الآن. وكان يغبطني أن يشيد به، باحثون وعلماء كبار، فيما يكون ردّي عليهم: “لقد تجاوزته، منذ وقت بعيد، يجب أن تقرأوا كُتُبي اللاحقة الأكثر تطوُّراً وعمقاً.
منذ بدء الثمانينات كانت نقلة كبيرة في دراساتي التاريخية الإسلامية، ومنها المُترجم من الفرنسية. كانت مرحلة خصبة في الإنتاج امتدت إلى اليوم، حتى بلغت أربعة وعشرين كتاباً، ونحو ستّين بحثاً، أُلقيَ بعضُها في مؤتمرات، في لبنان والأردن وسوريا والمغرب ومصر وليبيا وإيران. هذا بالإضافة إلى عشرات المقالات الأدبية والتاريخية المنشورة، خاصة، في صحيفة “السّفير”.
هذه الكُتُب، قُوبلت بتقدير من جانب الكثيرين، ومنهم مؤرِّخون عرب كبار أمثال: الحبيب الجنحاني (تونس) وهشام جعيط (تونس أيضاً)، وإلى المؤرِّخين الكبيرين: عبد العزيز الدّوري (العراق) وصالح أحمد العلي (العراق أيضاً)، وآخرين. دون أن أنسى الثناء الذي لقيته في لبنان، فيم ايتعلق بالتجديد، الذي ربما كنت من الأوائل الذين غامروا فيه، لا سيما في مجال الدّراسات الإسلاميّة، ذات البُعد الدِّيني. وكان من المقدِّرين لي، بصورة خاصة، سماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، والعلاَّمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين. ولكن لم يخْلُ الأمر من بعض سوء الفهم لأعمالي، خصوصاً، التي كتبتُ فيها عن الإمام الحسين(ع)، فلم يُعجب ذلك بعض قُرّاء العزاء الذين حملوا عليّ بشدة؛ إلا أن التراكم وظهور عدة دراسات لي، في موضوعة الإمام الحسين، بدأ يُغيِّر، تدريجياً، في مفاهيم هؤلاء، بأنني لم أنتحل ذلك، أو أفتعله؛ وإنما كان ما أكتبه، من باب العِلم، وتوسُّلاً لمقاربة الحقيقة، قدر الإمكان. ومن الطريف، كنت كلما ألتقي بالعلاّمة المرجع السيد فضل الله، يبادرني: “إبراهيم أُكْتُبْ عن الحسين”، فكنت أتغاضى عن ذلك، لعدم رغبتي بالخوض في المسائل التي، من الممكن أن تُؤَوَّل. وكما قلنا سابقاً، ويُساءُ فهمها. وفي النهاية، شعرت بأن ما يطلبه سماحة السيد، أصبح فريضة يجب أن أقوم بها، فكان كتابي، الذي طُبع أربع مرّات، بعنوان: “ثورة الحسين، حدثاً وإشكاليات”.

اقرأ أيضاً: حسن داوود 1/2: الماضي هو الذي دفعني إلى الكتابة

اكتشاف… وقيم علْميّة
· بعد معاشرتك الطويلة للتاريخ، ماذا قدَّم لك التاريخ إلى اليوم، من أشياء أو أمور، يمكن أن تُعِدَّها موضع فخرٍ واعتزاز لك على الصعيد المعنوي؟
التاريخ – من حيث المبدأ – عِلْمٌ. وعندما نقول: علْماً، فثمة أسباب ونتائج، وبالتالي، هذا يذهبُ بنا إلى أماكن لم تكن متاحة سابقاً، إذ كان التاريخ محصوراً في كتابات سردية عقيمة. هذه النقلة بدأت تفرض نفسها، منذ ستينات القرن الماضي، بشكل خاص، وهيّأت للجيل الجديد، أن يأخذ دوره في مجال التجديد؛ إلى ذلك فقد نَقَلتْني الدِّراسات التاريخيّة إلى عالمٍ كنتُ أجهله سابقاً، لأُطِلّ، بَعْدَهُ، على مفاهيم جديدة، وقِيمٍ علميّة انغرست في مسامّ حياتي العلميّة.
· كقارئ للتاريخ بعمق، ما هو صفك له، وإذا ما أردت أن تصف التاريخ بكلمة واحدة فقط، فما هي؟
التاريخ من العلوم الإنسانية، وهذا يعني أنه لا يندرج في العلوم البحتة، أي أنه، في الواقع، لا ينتهي إلى نتائج حاسمة، كالعلوم الطبيعية، على سبيل المثال؛ وإنما، هو مجرّد مقاربة للحقيقة، قدر الإمكان. ولا يسعفنا في ذلك سوى المنهج الذي يعني الطريق إلى هذه المقاربة.

(هذه المادة نشرت في مجلة “شؤون جنوبية” العدد 165 خريف 2017)

السابق
أحمد الأيوبي بانتظار قرار «نادر»
التالي
الامام قبلان يستنكر ما يتعرض له الشيخ عيسى قاسم