على جسر الكوفة

هاني فحص

أنا الآن على جسر الكوفة، الذي يفضي شرقاً إلى الطريق التي تؤدي إلى بغداد مروراً بمدينة الحلة (بابل) وحدائقها المعلقة، وإذا ما انعطفت يميناً بعد الجسر فستصل إلى الحيرة عاصمة المناذرة، أما إذا ما أتيت الجسر من جهة الشرق إلى الغرب فسوف تجد نفسك في الكوفة إياها التي ازدهرت بالعلم والشعر.
تمر في طريقك منها إلى النجف بمسجد الكوفة الذي كان فيه آلاف من الناس العلماء كل يقول: حدثني جعفر الصادق، وفي محرابه قتل ابن ملجم علياً بن أبي طالب غدراً وتأول له مجتهدون عدة وأعفوه من ذنبه، وقريباً منه دار الإمارة التي قتل فيها عبيد الله بن زياد رسول الحسين مسلماً بن عقيل بن أبي طالب، وهاني بن عروة، وسحلهما في أسواق الكوفة، ومنه أدار المعركة في كربلاء ثم قتله فيه المختار الثقفي، وعلى مئات الأمتار من المسجد بقايا المنزل الذي أقام فيه علي بن أبي طالب أيام خلافته، وهو لابن أخته، وعندما دفن تبين أن في كيسه سبعين درهماً وفرها بداية لتأمين ثمن منزل له.
وإذا ما واصلت سيرك أسلمتك الطريق إلى حي كندة حيث ولد المتنبي والفيلسوف الكندي، وفي أوله يطالعك قبر ميثم التمار الذي قتل وصلب على النخلة، ومن الكوفة إلى النجف التي أسسها كمدينة صغيرة حول قبر الإمام علي عضد الدولة البويهي في أوائل القرن الخامس الهجري، ثم تحولت إلى جامعة علمية بعد الهجوم السلجوقي على بغداد يأتيها طالبو العلم، على مدى ألف من الأعوام… وخربها الطاعون والجفاف أكثر من مرة، وهاجمها أشقاء متعصبون متوترون وهدموا شقيقتها كربلاء مرتين وحاصرها الإنكليز قبيل ثورة العشرين (1919- 1918م) وقذفوها بالمدافع وأعدموا 27 من ثوارها وعلمائها، وأهملتها الدولة القومية العراقية في كل العهود عقوبة لها على قيادتها للقتال ضد الإنكليز وانحيازها إلى فلسطين، وقد شرع النظام الصدّامي منذ أشهره الأولى في اضطهادها وتشتيتها بمحاصرة مراجعها (السيد محسن الحكيم) عقوبة له على أمور كثيرة أهمها إلحاحه على الإصلاح، وبتهجير علمائها وطلابها بالألوف على مدى سنوات وإباحتها لقوى الأمن، ثم البدء منذ أواسط السبعينيات بإعدام العلماء وصولاً إلىإعدام المجتهدين والمراجع، كما هو معروف لدى القاصي والداني، وصولاً إلى عام 1991 حيث تولى وزير الداخلية علي حسن المجيد شخصياً، بعد تجربته مع حلبجة والأسلحة الكيماوية وهو في الأصل سائق شاحنة في الجيش العراقي فدكها دكاً عقوبة لها على الاعتراض واقترابها مع غيرها من المدن المنتفضة، من النصر وتغيير الأوضاع، لولا أن القرار الأميركي عاجل وعجل إلى إطلاق سراح الحرس الجمهوري وسلاح الطيران العراقي، متيحاً للنظام القضاء على الانتفاضة، في البصرة والناصرية والعمارة والكوت والديوانية والشامية والسماوة والكوفة والحلة وأربيل والسليمانية ودهوك، مع التركيز الشديد على النجف وكربلاء لموقعهما القيادي والطليعي في السياسة وفي الجهاد.

اقرأ أيضاً: أنا والعراق فرصة رجائنا

من هنا، أحيّيكم تحية الفجر الذي هبت تباشيره الآن نسيمات دافئة وناعمة تثير في الروح والبدن حالة بين النوم واليقظة، نعاساً يشبه في لذته الموت بين الأهل (على ما يشبهه جبور الدويهي)، ويغري بالعودة إلى النوم وافتراش الأرض وطاء واتخاذ الليل غطاء، وتراب العراق الأسود الناعم ألطف من القطن وأجمل من الصوف وأخصب من أرحام العذارى…
ولكن.. ها هو أراه، عمود النور الممتد من الأرض إلى السماء أو من السماء إلى الأرض، لا أدري، فهنا تبدو الأرض سماء وتبدو السماء أرضاً، ها هو عمود النور المنفجر إلى جهة الشرق يسير على سعف النخل أفقياً في كل الاتجاهات ويحرض على الشعر والرسم والموسيقى والفقه وعلم الرجال والحديث والبلاغة والتاريخ والمنطق والفلسفة والنحو والصرف والكيمياء والحراثة والزراعة والصناعة والتجارة والسياسة والديموقراطية والمقاومة والدفاع عن مشاتل الرازقي (الفل) وبساتين النخيل التي تتمطى سعفاتها فوق أعذاقها التي يبزغ فيها الوعد بموسم وافر من البرحي والعمراني والجوزي والمكتوم والحلاني والخستاوي، رطباً ذهباً وتمراً عسلاً، والبربن البني الغامق في رطبه الأسود، كالمسك لوناً وطعماً في تمره.. حتى لا ننسى الزهدي، تمر الفقراء الذي يفيض عن حاجاتهم أو قدرتهم على الاستهلاك فيعصرونه عسلاً أسود (دبساً)، وبعضهم يصنع منه شراباً حراماً وأشد حرمة من أمثاله لأنه شديد التركيز قوي المفعول ورخيص، أي متاح للأغلبية الساحقة من الفقراء إذا ما استبد بها الخوف واليأس لجأت إليه لتنسى ما في الذاكرة من ثقوب وما ينتظرها في المستقبل من دم مسفوح فداء للسفاح أو شراباً للمعتوه القادم من حظائر رعاة البقر.
وها هي رفوف عصافير الدوري تسعى إلى رزقها حول الدور الهامدة الهائمة، تتخللها أزواج من القمريات المطوقة (الفخّاتي باللهجة العراقية) تغادر بيتها في أحضان النخيل إلى حقول الأرز (الشلب) طلباً للغذاء والقش تمهيداً لبناء أعشاشها.. وها هي بلابل النخل الملونة بالأبيض والأسود والأصفر والرمادي والأكثر رشاقة وحيوية ويقظة وحذراً من بلابل بلاد الشام ومصر والمغرب والولايات المتحدة وإسبانيا، مشغولة بدوزنة مناقيرها وألسنتها وحناجرها ورئتيها لمعزوفة ربيعية على مقربة من موعد الحب والغزل والإخصاب، بلدية تعيدك إلى الشيخ سيد وعبده السروجي وصالح عبد الحي وألحان الشالجي العراقي الأصلية الأصيلة.
أيها الإخوة في كل مكان.. يتهيأ الآن، في هذه اللحظة، المؤذن في مسجد الكوفة للدخول في هذا المشهد الكوني.. أترككم الآن لهذا الأذان أو معه أو أتركه لكم أو معكم، لا أدري ماذا أقول لكم، فأنا أرتعد ولا أدري لماذا؟ وأعتذر لهذا التشويش (البرازيت) الذي تسببه الطائرات والدبابات الأميركية.. أيها الأخوة مع أذان الفجر يرفعه إلى مسامعكم الشيخ بدر شاكر السياب.

ولأول مرة تشترك مجموعة من الشعراء في تلاوة الشعر بعد الأذان من المسجد..
السياب:
“يا حاصد النار من أشلاء قتلانا
منك الضحايا وإن كانوا ضحايانا
إن العيون التي طفأتَ أنجمها
عجّلن بالشمس أن تختار دنيانا
والنار والباذرون النار كم زرعوا
من كل ثكلى لعزرائيل بستانا
نحن الذين اقتلعنا من أسافلها
لاةً وعُزى وأعليناه إنسانا”

ويعقب الجواهري:
“أنا ابن كوفتك الحمراء لي طنب بها
وإن طاح من أركانه عمدُ”

ويضيف مصطفى جمال الدين:
“بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ
إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ”.

وأدونيس:
“ترسبتُ غير دويكَ يا صوتُ.. أسمع صوت الفراتْ، قريش قافلة تبحر صوب الهند، تحمل من أفريقيا من آسيا للهند.. تحمل نار المجد.. والسماء على الجرح ملصوقة والضفاف، تتهامس تلتف، بيني وبين الضفافْ، لغة، بيننا حوار، حضنته الكراكي طافت به كالشراعْ… بيننا.. وافراتاهُ كن لي جسراً وكن لي قناع.. ترسبتُ غير رنينك يا صوتُ، أسمعُ صوت الفراتْ، قريش.. لم يبق من قريش غير الدم النافر مثل الرمحْ، لم يبق غير الجرحْ.”

وعندما حاصرت جيوش المسلمين كسرى يزدجرد أرسل إلى ملك الصين يستنجده، فسأل ملك الصين رسول كسرى عن صفة القوم الذين يحاربونهم فوصف له كيف يصلون وكيف يقومون بالحراسة وكيف يجمعون الحطب وكيف يأكلون ويتوضؤون… إلخ، فكتب ملك الصين إلى كسرى يقول: ما منعني أن أمدك بجيش أوله في مرو (خراسان) وآخره في الصين، جهالة لي بحقك، ولكن القوم الذين وصفهم رسولك قوم لو طاولوا الجبال لهدوها وأنصحك بمصانعتهم.. ولم يسمع كسرى النصيحة فانهزم ومات بعد أشهر من ذلك كمداً.

اقرأ أيضاً: المشترك حديقة الروح

أيها الإخوة أعتذر عن المتابعة.. أشاهد بأم عيني من هنا، من الطرف الشرقي لجسر الكوفة، دبابة تشتعل فيها النيران على الطريق إلى مدينة الكفل التي تقع على طريق الحلة التي تقع على طريق بغداد. انقطع البلبل عن غنائه قليلاً ثم عاد كأن شيئاً لم يكن، واقترب فحل القمري من أنثاه، سايرها قليلاً ثم همّ بها ولكنها نقرته في رأسه نقرة طار لها صوابه وطار فطارت وبقيت وحدي أمام عمود الدخان الكثيف المتصاعد..

يروي الرواة ومنهم من كانوا شهوداً في ثورة العشرين أن سفينة إنكليزية معتدية كانت تمخر عباب الفرات عند جسر الكوفة في طريقها إلى الجنوب.. فقرر عدد قليل من الثوار الفلاحين اصطيادها، وليس في أيديهم سوى “المكاوير” أي العصي ذوات الرؤوس المكورة من القير الأسود الجاف.. و(فالة) آلة خشبية في طرفها قطعة حديد مسننة تستخدم لصيد الأسماك وقطع غصون الأشجار اليابسة أو الزائدة.. هجموا على قمرة القيادة، ضربوا القبطان بالفالة، علقت الفالة بين كتفيه ورمى بنفسه في النهر وهو على هذه الحال.. سيطروا على السفينة ورقصوا رقصة الهوسة وهوّسوا “مشكول الذمة بها الفالة” أي إنهم لا يسامحونه على الهرب بفالتهم.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
نصرالله: سلاح المقاومة عامل أساسي ولا تحرضوا اسرائيل على ضرب لبنان
التالي
نصرالله: السعودية فاشلة