استقال الحريري فسالت الدموع على السيادة

كيف رأت الباحثة دلال البزري مسألة استقالة الرئيس سعد الحريري؟

أكثر أو أقل من عام مرّ على “التسوية” التي رفعت ميشال عون وسعد الحريري؛ واحدا إلى رئاسة الجمهورية والآخر إلى رئاسة الوزراء، فكان أفسد عهدٍ عرفه لبنان الحديث، المعروف أصلاً بعراقة فساد حكامه. وفي وسعكَ أن تلمس هذا الفساد في أبسط شؤون حياتك. فسادٌ سافر، بلا أي حياء. من المحاصصات الصريحة، إلى الزبائنية الممتدة، إلى تهريب الميزانيات، إلى قوانين انتخابية “مضمونة” سوبر طائفية، إلى فشل تام في تسيير المصالح الأكثر حيوية (ماء كهرباء نفايات.. إلخ). عهد تخريب وتمزيق بلبنان، وإهلاكه، وايصاله بوتيرة متسارعة إلى الانهيار التام؛ يسرح ويمرح بمنعطفاته حزبٌ تابع لإيران، وأيضاً على المكشوف.

إقرأ ايضا: دلال البزري تكشف عن تجربتها الحزبية في «سنوات السعادة الثورية»

احتجاز الحريري في السعودية، وتلاوته بيان استقالته، هو التهديد الأكبر للممْسكين بقرار هذه “التسوية”. تهديد لحزب الله أولاً، الذي كان قايض حريته بمقاتلة الشعب السوري، بتغاضيه عن حفلة الإفساد العام، بل مشاركته بها. وتهديد، ثانياً، لميشال عون الذي احتفى بنفسه، وبمرو عام على عهده، مزهواً بـ”إنجازاته” الوهمية، مبتهجاً باستيلاء عائلته على دوائر القرار المسيحي.. ثم من أين يأتي الاثنان برئيس حكومةٍ شريك في الفساد، من غير أن يكون شريكاً في القرار؟ لذلك، كانت حرارة عواطفهم على سعد الحريري المستقيل، المحبوس في السعودية.

إعلام حزب الله كان سباقاً في تعظيم حالة الاحتجاز والتركيز عليها. إعلام لم يكن يصدّق عيونه في رؤية سعد الحريري يقدّم التنازل تلو الآخر: “أفضل رئيس وزراء عرفه لبنان”، هكذا عنْونت الصحيفة الناطقة باسمه، قبل أسابيع. فانصبت مهارات هذا الإعلام التضليلية في إطلاق “حملة وطنية لإطلاق سراح الحريري”، بدموعٍ فائضةٍ من التعاطف معه، و”قلق على السيادة الوطنية”. فأفهمنا، وللمرة الألف بأن نسف “التسوية” التي جاءت بالحريري هي “آخر انتخابات رئاسية حقيقية حصلت في مطلع هذه الحرب، عام 1976، بين سليمان فرنجية وإلياس سركيس، انتهت بفوز الأول بفارق صوت واحد”

شأن مصيري للمحور الممانع الذي يضم أيضا الرئيس عون. وهذا الأخير لم يترك وسيلةً غير دستورية، وغير قانونية، إلا وتجاوزها، بمعاونة صهره جبران باسيل، وبخطاب “الإصلاح والتغيير”؛ وكلام عالي النبرة عن “السيادة”، يستغفل اللبنانيين، أو ربما يستحق اللبنانيون رئيسا كهذا، عهدا كهذا… ثم يرفع لهجته، ويهدّد باللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، المحتقر جداً، منه ومن محور حلفائه الممانعين، أصحاب الجميل الفعليين باعتلائه سدّة الرئاسة. وكلام يختزل المعادلة: “سعد إبني… دخلنا معاً ونخرج معاً”. أي هو الذي أتى بي، وأنا الذي أتيتُ به. جو “عائلي” بامتياز… الجوقة التي ترفس يوميا الدستور والسيادة، حلّ عليها فجأة عقل الرحمن. فعرفت كيف تتمسَّك بمواجهة الشكل، أي احتجاز الحريري، وحجب المضمون، أي أسباب الاحتجاز- الاستقالة وخلفياتهما.. هكذا، ربحت جولة إعلامية أكيدة.

والمضمون الذي تتجنّب خوضه هو سلاح حزب الله. وقبل ذلك، أو بعده، سؤال أوّلي، ساذج بالتأكيد، عن تمويل دول إقليمية كبرى لممثلي طوائف: كيف يقبل هؤلاء الدعم؟ كيف يسعون إليه أصلاً؟ بأي منطق وطني سيادي؟ بأية شهوة سياسية؟ أيضاً: هذه الأموال التي تغدقها تلك الدول، لماذا لا تقدمها إلى مؤسسات الدولة اللبنانية، بدلا من أن تمنحها لرجال طوائف تصنعهم فتكون صاحبة القرار على زعماء طوائف زاعمي السيادة، وقابضين على الدولة؟

منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، زاد استزلام أولئك الرجال لداعميهم، بالمال أو الشكيمة. يكفي أن آخر انتخابات رئاسية حقيقية حصلت في مطلع هذه الحرب، عام 1976، بين سليمان فرنجية (الجد) وإلياس سركيس، انتهت بفوز الأول بفارق صوت واحد. وبعد ذلك، لم تحصل انتخابات واحدة. كله تعيين، لا يقبل منافساً، ولو مسرحياً. من إلياس سركيس، إلى بشير الجميل، إلى أخيه أمين، والياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان إلى ميشال عون… كلهم استنجدوا بوصاية، أو توازن وصايا، فحولوا الانتخابات إلى تعيين. فبدل أن نخرج من الحرب بمشروع مارشال عربي، يموِّل إعادة إعمار بلادنا، لجأ سياسيون إلى استجداء الأموال لأنفسهم، هي المقدّم المقبوض سلفاً، ثمناً لطاعتهم السياسية. والنتيجة المنطقية: ميزانية الدولة مفلسة، فيما جيوب رجالاتها ممتلئة بملايين الدولارات.

ولكن المقارنة بين المموِّلين الداعمين تفرض نفسها هنا: بين إيران والسعودية تحديداً. أولا من حيث المبدأ الذي قد يبدو طوباوياً. وما فائدة الطوبى غير الكشف عن النتوءات: مشروع إيران في منطقتنا ليس مذهبياً إلا وسيلة تعبئة. إنه قومي فارسي. العقل الإيراني أكبر من عقلنا؛ وهو عقل واحد، تقاتله قوى متناحرة. يعرف من أين تؤكل كتفنا. الأداة المذهبية هذه حولت شيعتنا إلى القوة الضاربة للإستراتيجية الفارسية. أدخلت إلى قلوبهم عاطفةً جياشة، وقناعة أن يوم ينتهي القتال، إذا انتهى.. سيكونون هم الحاكمين. الرد السعودي على هذا المنافس الإقليمي، في مجمله، يحاكي الهجمة الإيرانية ويستعير منها أسوأ ما فيها.

والطوبى تتوقف هنا: إذ لا يحق لنا أن نطلب من مملكة وجمهورية، إسلاميتين، على تماس يومي مع الظلام.. أن تقفزا إلى طموحنا “العلماني”، أو “الوطني” أو “التعدّدي”. وكان الأوْلى بأجدادنا أن يطالبوا فرنسا الانتدابية بتصدير علمانيتها إلينا…
إيران دولة ظلامية على أرضنا، تواجهها دولة ظلامية أخرى؛ لا يمكن أن ينتجا معادلة “إذا أرادت السعودية أن تسيطر على طائفتها المفضلة، فما عليها إلا الدأب والمثابرة، بخطةٍ وهدف، على امتداد جيلَين” مستقرة.

إنما ينتجان تناحرا على أرضنا، أو صفقات على حسابنا. هنا يتوقف المشترك بين الدولتين. أما الفرق، ففي الأسلوب والرؤية. إيران المستقرة، لا تنقسم أجنحتها حول قرارات مرشدها. لها مؤسسات راسخة، اخترعتها ثورتها الإسلامية، أو ورثتها عن عهد الشاه. حرثت في منطقتنا ثلاثين عاماً، بعمل بطيء وشاق ومنهجي، أثمر ما نعانيه اليوم من مليشيات ملتحمة بها عضوياً. أما السعودية فتبدو من بعيد مثل دولةٍ لا تملك لا استراتيجية ولا رؤية. تعمل بقليلٍ من الحنكة، والكثير من المزاجية. مع أنها ليست جديدة على المشرق العربي؛ ولا هو جديد تمويلها الزعماء اللبنانيين، خصوصا السنّة من بينهم، ومنافستها للقطب الناصري. أي أن “تجربتها اللبنانية” تعود إلى خمسينيات القرن الماضي.

إقرأ ايضا: دلال البزري: شغف الجنوبيات بدّده الجوّ الجديد

أيضاً: ربما أمزجة ملوكها وتوازنات أمرائها، ربما النفط الذي رفع مقامها في وقت قياسي، لم يسمح لها ببلورة أدواتها الأيديولوجية والإستراتيجية. صحيح أنها الآن، باحتجازها الحريري، لا تبدو متهيبة، أو مهتمة، بالمستنكرين، المطالبين بعودته. لكنها، لو لعبتها منذ البداية بمنهجيةٍ، لكانت الآن، على الأقل، غير مبتلية بسيناريو فضائحي فاشل، يسهِّل شيْطنتها،على وقع احتجازها الحريري. ثم قلّة خبرة معطوفة الآن على تغيراتٍ في بنيتها الحاكمة، هي جذرية بمقاييس بيئتها؛ لا يمكن، في اللحظة الراهنة انتظار أكثر من ذلك، أو الطلب منها أن تضع مصالح حكامها المتجدِّدين قبل كرامة سياسيينا.

احتاجت إيران ثلاثين سنة من الدأب لتحوّل شيعة لبنان من طائفةٍ ديناميكيةٍ خلاقةٍ متعلمةٍ حرة مثقفة، إلى جماهير مؤمنة، طائعة، متعصبة، تؤمن غالبيتها العظمى بأن الحرب المقبلة مع إسرائيل سوف تنتهي بظهور المهدي. وإذا أرادت السعودية أن تسيطر على طائفتها المفضلة، كما تفعل، فما عليها إلا الدأب والمثابرة، بخطةٍ وهدف، على امتداد جيلَين؛ وهي على الأرجح لن تتمكن. فالسنّة اللبنانيون ليسوا طائفة، إلا في المجاز. أما إذا أرادت أن تعاملنا إخوة لها، في الدين أو الإنسانية، فلتدخر مالها من أجل مؤسساتنا، وميزانياتنا الرسمية، ولا تهدر مالها على رجالٍ لا يصلحون لحكم دولةٍ تحترم نفسها. ولكن هنا أيضاً نجاور الطوبى..

*باحثة وكاتبة لبنانية

السابق
هل أنتم منافقون أم جهلة معذورون؟
التالي
بعد اعلان عون أنّ الحريري محتجز: العلاقة اللبنانية السعودية تدخل نفقا مظلما