عودة المسلمين إلى العصبية القبلية

القبلية
عانى النبي كثيرا مع العرب لاستئصال العصبية القبلية، التي شكلت عائقا أمام دخولهم في الإسلام، وخاصة أن العصبية القبلية تجعل الإنسان يتمسك بعقيدة الآباء حتى ولو كانت على ضلال، ولكن العرب دخلوا في الإسلام وتخلوا عن عصبيتهم القَبَلية، بفضل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكن بقي شيء من رواسب هذه العصبية في نفوسهم، وكلما وجدت لها ظروفا مساعدة كشفت عن نفسها.

وهذه العصبية سرعان ما عادت إلى المسلمين بعد وفاة رسول الله وحتى قبل دفنه، حيث عقد الأنصار اجتماعا بينهم لاستخلاف سعد بن عبادة، وعلم المهاجرون بهذا الإجتماع فاعترضوا على هذا الإستخلاف، واعتبروا أن قريش أحق القبائل المسلمة بخلافة النبي كون النبي صلوات الله عليه منها، فاعترض الأنصار عليهم بأنهم آووا النبي ونصروه فهم أحق به، وتعاليت الصيحات والتهديد بين الطرفين.

ويؤخذ على المجتمعين في سقيفة بني ساعدة مآخذ عديدة، ولا يمكن إغفالها، وخاصة أن موضوع هذا الإجتماع هو في غاية الخطورة والأهمية، وهو موضوع الخلافة سواء كان لجهة المستخلف بالفتح وهو النبي، أو سواء لجهة المستخلف عليهم وهو عموم المسلمين، ويمكن لنا أن نشير إلى أبرز هذه الملاحظات، ونعرضها على النحو التالي:

المؤاخذة الأولى: يكشف اجتماع سقيفة بني ساعدة على عودة العصبية القبلية إلى المسلمين، وليس بالضرورة إلى كل المسلمين، بل إلى بعضهم، وخاصة أن الأنصار أعلنوها بشكل صريح أن قبيلة الأنصار هي أولى من بخلافة النبي من غيرها من القبائل، وهذا إن دل فإنه يدل على أن العصبية القبلية لم بتم القضاء عليها بالشكل الكامل، كما أن موقف قريش وهو موقف الأغلب كان رافضا، لخلافة الأنصار للنبي، وصرحوا أنه ليس هناك من هو أولى منهم بالخلافة، متذرعين بكون النبي من قريش، وقبيلة قريش أولى به، ولا يخفى أن قريش هي النسب الذي يجمع بين القبائل في قريش، والمنطق الذي نادى به الجميع هو منطق قبلي لاجدال في ذلك.

اقرأ أيضاً: لبنان عربي أولا…

المؤاخذة الثانية: أن المبدأ الذي تم على أساسه الإجتماع في سقيفة بني ساعدة لا يؤيده دليل من الكتاب والسنة، سواء لجهة الأنصار أو لجهة قريش، فليس هناك نص من الكتاب والسنة، يدل على أن الخليفة يتم انتخابه من الأنصار لأنهم نصروا النبي، كما أنه ليس لوحدهم نصروا النبي، بل شاركهم في ذلك قبائل أخرى، كما أنه ليس هناك ما يدل في الكتاب والسنة على أن الخليفة للنبي يكون في قبيلته وعشيرته، كما يؤخذ على الذين نادوا بهذا المبدأ أن يتسلم الخلافة أهل بيت النبي لأنهم أقرب الناس إلى النبي، وهذا ما لم يحصل.

المؤاخذة الثالثة: لم تخضع أحداث السقيفة لمنطق الشورى بقدر ما خضعت لمنطق التهديد والوعيد بين المتحاورين، حيث تم استبعاد باقي القبائل، وفِي مقدمتهم بني هاشم، ولا يمكن أن نصبغ اجتماع سقيفة بني ساعدة بصبغة الشورى، وهذا من المآخذ التي تكشف أن ما نتج عن سقيفة بني ساعدة، كان خاضعا للروح القبلية عند الأنصار والقرشيين، وفِي تصوري بأن الأنصار سارعوا إلى بيعة خليفة منهم، لأنهم يعلمون بأن قريشا لا ترضى بالبيعة للأنصار ، بل كان اجتماع الأنصار في سقيفتهم بتخطيط مسبق، وكان دافع القرشيين الذي دخلوا إلى السقيفة هو الكراهية بأن يستأثر الأنصار بالخلافة.

المؤاخذة الرابعة: وهو أنه كيف يجتمعون في سقيفة بني ساعدة لتعيين خليفة، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد عين خلفاء له من بعده، وهم أهل بيته، وأحاديث النبي في وصاياه لأمته حول ذلك، كثيرة ومتواترة، وفِي مقدمتها حديثا الغدير والثقلين، ثم إننا نسأل كيف يمكن لأصحاب السقيفة أن يتجاهلوا النص على إمامة علي، وهو الإمام الأول المفترض بيعته، كما أننا نطرح تساؤلا: هل يعقل للنبي أن يتجاهل موضوع تعيين خليفة من بعده ويترك ذلك للأمة، وهو صلوات الله عليه لم يترك صغيرة ولا كبيرة من القضايا التي تعنى بحياة الإنسان إلا وقد أوصى بها وبين حكمها ؟ وعليه لا بد وأن يكون هناك وصية للنبي حول خلفائه من بعده، وليست هي إلا النص على إمامة أهل البيت عليهم السلام ، والتي لم يدعيها أحد غيرهم.

المؤاخذة الخامسة: لم يكن من المناسب تصرف أصحاب السقيفة من استعجال طرح موضوع الخلافة قبل دفن النبي، حيث المناسبة تدعو إلى الحزن والإنشغال بمراسيم الحفاظ على توديع النبي، فإنشغالهم بالخلافة عن المناسبة يكشف أن ما حصل كان قد تم له الإعداد مسبقا، وأن هناك تنافسا قبليا على الخلافة، ولعل قريش كانت السباقة إلى ذلك، وما إقدام الأنصار على استعجال موضوع الخلافة إلا لوجود هواجس لديها، جعلتها تخشى من وصول قريش إلى الحكم، ويحمل مفاجآت لها لم تكن في الحسبان، من وصول من لا عهد لهم بالجهاد وبذل التضحيات، وخاصة الحزب السفياني الذي كان يسعى في الخفاء لوصوله إلى الحكم، وخاصة أنه من قاد مسيرة الشرك قبل فتح مكة لمحاربة النبي والإسلام، وخاصة أنهم كانوا من الطلقاء.

ثم إن هناك أمورا حصلت في إدارة الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، كان لها دورأيضا في تنمية العصبية القبلية، وخاصة أنه تم في هذا العهد التمييز في العطاء بين المسلمين على أساس الانتماء القبلي لهم، ففضل السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم، وفضل القرشيين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم، وفضل الصريح على غيره، هذا التمييز والتفضيل في العطاء فرض إحياء الروح القبلية من جديد، وخاصة أنه أصبح مطلبا للدولة لتنظيم التفاوت، والملاحظ أن هذا المبدأ أعطى لقريش ميزة على غيرها، مع أنه لا فضل لقريش على غيرها في الجهاد وتقديم التضحيات، سيما إذا قيست بما قدمه الأنصار، نعم بعض القرشيين يشاركون الأنصار في التضحيات وليس كل القرشيين، ولكن تفضيل كل القرشيين أمر يستوقفنا، وفِي العموم الإقدام على التفضيل في العطاء كان له الأثر السلبي، مع أنه في زمن النبي ساوى في العطاء وكذا في عهد أبي بكر فإنه ساوى أيضا في العطاء، ونسأل ما هي الأسباب التي دفعت عمر إلى جعل هذا التفضيل، هل كان بفعل ضغط العصبيات القرشية التي رأت نفسها، أن لها الفضل والميزة على باقي القبائل، لكن ورد في كتب التاريخ أن عمر وعد بالعودة عن هذا التفضيل واستبداله بالمساواة حيث أوجد شعورا عند القرشيين بالإمتياز والتفرد وصيرورة ذلك فتنة بين المسلمين.

اقرأ أيضاً: عندما بكى المسلمون دماً..

وأيضا من الأمور التي ساعدت على إثارة العصبية بين المسلمين، هو طريقة الشورى التي اقترحها عمر بن الخطاب لانتخاب خليفة جديد من بعده مؤلفة من ستة أشخاص من قريش ، مستبعدا باقي القبائل من هذه الشورى سيما الأنصار، مع أنه قد تم الإتفاق معهم في سقيفة بني ساعدة، أن يكون للأنصار دور الوزراء إلى جانب الأمراء الذين هم من قريش، وقد كان كل شخص رشحه عمر للشورى، يشكل مشروعا بنفسه لأن يكون خليفة، والأشخاص الستة هم علي ابن ابي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف و سعد بن وقّاص، ولعل الذي دفع إلى جعل الشورى في قريش، هو لكي لا تخرج الخلافة من قريش، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية هو أن الأكثرية من قريش لا تريد أن تذهب الخلافة لعلي بن أبي طالب، منعا لاجتماع الخلافة والنبوة في بني هاشم، بالإضافة إلى معرفة قريش بعلي أنه يرفض عصبيتها، وكان شديد الورع والرفض للتساهل في أمر الدين وتنفيذ الأحكام، وهذ لا يناسب قريش.

ونتج عن هذه الشورى في تركيبها لأن يكون عثمان بن عفان هو الخليفة الجديد، مما زاد من فرصة هيمنة الحزب الأموي على السلطة، وفعلا استطاع هذا الحزب التمهيد لمعاوية لمجيئه حاكما على الأمة، واستغل الأمويون مجيء عثمان خليفة فتسلطوا على مراكز الحكم والسلطة في الدولة، وبدأ الإستياء لدى المسلمين، من تمدد النفوذ الأموي حتى اصبح الحكم بعد مقتل الخليفة الثالث بيد الأمويين.

 

السابق
12 مسألة تنازلية كاشف فيها الملك سلمان الحريري
التالي
24 ألف متعاطٍ للمخدرات بينهم تلامذة وجامعيون: الاسباب كثيرة والنتائج كارثية