لتغيير استراتيجية مكافحة المخدّرات وإنهاء ظاهرة المخبرين في المستشفيات

إن إعلان المستشفيات بإبلاغ حالات الأوفردوز للشرطة يُحدث ضرراً إجتماعياً كبيراً.

تصرّح إدارات بعض المستشفيات في لبنان، عن أنها تقوم بإبلاغ أقرب مركز للشرطة عن أي حالة تعاطي مخدرات يشتبه فيها لديهم. وترجع إدارات المستشفيات هذه الممارسة الى تجاوبها مع تعميم صدر سنة 2006 عن وزير الصحة العامة السابق، محمد جواد خليفة، طلب من خلاله من نقابتي الأطباء في بيروت وطرابلس ومن نقابة أصحاب المستشفيات في لبنان، أن يعمموا على الأطباء وعلى إدارات المستشفيات الخاصة والحكومية، موجب إعلامهم قوى الأمن الداخلي عن الحوادث الطارئة المتأتية عن فعل الغير، وذلك عملاً بالمادة 400 من قانون العقوبات. وفيما من البدهي أن هذا التعميم لا ينطبق على حالات تعاطي المخدرات ما دام فعل التعاطي لا يأتي عن الغير بل عن المتعاطي نفسه، إلا أن تطبيق هذه المستشفيات والأطباء له ذهب في الاتجاه المعاكس.

اقرأ أيضاً: عن أسباب انتشار المخدرات في صيدا وجوارها والوصمة التي تلاحق المدمن

إن هذه الممارسة تؤدي عملياً الى تفاقم حالات الموت لدى الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات جراء تناولهم جرعة زائدة (أو ما هو متعارف عليه في رطانة قضايا الإدمان بالـ”أوفردوز”). فالخوف من الملاحقة الجزائية يحول دون توجه شخص تناول جرعة زائدة أو اقتياده من الأفراد المحيطين به الى المستشفى أو على الأقل يسبب ترددهم لساعات قبل القيام بذلك (الأمر الذي غالباً ما يؤدي الى وفاة الشخص المعني). هذا مع العلم أنه إذا عولج الشخص المعني خلال وقت قريب من وقوع الحادثة فإن احتمال الموت نتيجة الأوفردوز يصبح الاستثناء وليس القاعدة.

18 حالة في عشر سنوات
وإذ تشير إحصاءات قوى الأمن الداخلي الى إبلاغها 18 حالة أوفردوز فقط خلال العشر سنوات الماضية، أي بحدود الحالة أو الاثنتين في السنة، فمن المؤكد أن عدد المصابين بالأوفردوز هو أعلى بكثير. إذ سنداً لمقابلات أجرتها جمعية “سكون” مع أكثر من مئتي شخص يتعاطون المخدرات، فإن أكثر من نصفهم اعترف
بأنه تعرض للأوفردوز بمعدل ثلاث مرات خلال فترة إدمانه على المخدرات، وتقاعس عن الذهاب الى المستشفى خوفاً من أن يُلاحق جزائياً.
وبالإمكان تالياً القول إن إعلان المستشفيات بإبلاغ حالات الأوفردوز للشرطة يحدث ضرراً اجتماعياً كبيراً، إذ إنه يخلق حاجزاً مميتاً بوجه الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات لوصولهم الى الخدمة، وتالياً لخضوعهم للعلاج الأساسي، من دون أن يؤدي الى نتائج تذكر على مجال مكافحة المخدرات، ما دام عدد الإبلاغات يكاد يتراوح بين الحالة والاثنتين عن كل سنة. وهذا الأمر يتعارض بالطبع مع روح قانون المخدرات ذاته، الذي كرّس مبدأ “العلاج كبديل من الملاحقة والعقاب”. ومن هذا المنطلق، تصبح المسألة المطروحة بنتيجة هذه الممارسة هي الآتية: هل من شأن حرب الدولة على المخدرات أن تبرر تعريض حياة الأشخاص للخطر ومعه سرية العلاقة بين الطبيب ومريضه؟ وبالطبع، تصبح هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً أمام واقع، يفيد أن الهدف من إبقاء سيف العقوبات مسلطاً على الشخص المدمن، هو حثه على قبول العلاج من إدمانه لا إدانته.

مجلة شؤون جنوبية 165
ملاحظات واجبة
وفي هذا المضمار، تُسجل الملاحظات التالية:
– من الواضح بداية أن هذه الممارسات تتخطى تماماً، تعميم وزير الصحة السابق المذكور أعلاه، إذ إن التعميم استند الى المادة 400 من قانون العقوبات التي تعاقب من قام خلال مزاولته إحدى المهن الصحية، بإسعاف شخص يبدو أنه وقعت عليه جناية أو جنحة ولم يبلغ السلطة بها. غير أن الأشخاص الذين تعاطوا المخدرات والذين تعرضوا لأوفردوز ليسوا ضحايا جناية أو جنحة متأتية عن فعل الغير توجب الطبيب أو العامل الصحي الإبلاغ عنها، بل هم وقعوا ضحايا لفعل صادر عنهم (تعاطيهم جرعة زائدة من المخدرات). ولا يصح بالمقابل القول بأن التاجر أو المروّج، الذي يزوّد المدمن بالمادة المخدرة هو الذي تسبب بالأوفردوز، إذ إن التاجر أو المروّج يرتكب جريمة ضد الحق العام وليس ضد الشخص المتعاطي نفسه؛ وليس بوسع هذا الأخير أن يقاضيه أو أن يطالبه بتعويض عن الضرر الذي أسفر عنه بيعه للمخدرات.
– من ناحية أخرى، فإن تلك الممارسات تتعارض مع قانوني حقوق المرضى والموافقة المستنيرة والآداب الطبية. وبالفعل، يمنع قانون حقوق المرضى فريق العناية الطبية والطبيب المعالج من خرق السرية المهنية (مادة 12) فيما يمنع قانون الآداب الطبية صراحة الطبيب من الإبلاغ عن مريض اعترف له بارتكاب جرم (المادة 7 فقرة 5). هذا مع التذكير بأن فعل الإدمان على المخدرات بحد ذاته لا يشكل جرماً جزائياً، بل
يُفترض أن يكون الشخص المدمن قد رفض الإذعان للعلاج، وهو أمر ينتفي تماماً في حالة الشخص الذي يذهب من تلقاء نفسه الى المستشفى لتلقي العلاج. وبأية حال، تجدر الإشارة هنا، الى أن المشرّع ألغى في 2012 الفقرة 13 (القديمة) من المادة 7 من قانون الآداب الطبية والتي كانت تلزم الطبيب بإبلاغ السلطات الصحية عن كل مدمن على الكحول أو على المخدرات يرفض العلاج. ويُستشف من ذلك بوضوح نية المشرّع في تغليب السرية المهنية في قضايا الإدمان على ملاحقة الدولة للجرائم المتصلة بالمخدرات، وذلك بهدف تشجيع الشخص المدمن وحثه على السعي الى العلاج تلقائياً. وهو أمر يتطلب بالضرورة إفساح المجال لبناء ثقة قوية بينه وبين الطبيب الذي يلجأ إليه فلا يحتمل تحول هذا الأخير الى مخبر في حال فشل الشخص المدمن في إكمال برنامج علاجه أو انقطع عنه.
– أن من شأن هذه الممارسات أن تشكل جرماً تصل عقوبته حتى سنة حبس بمفهوم المادة 579 من قانون العقوبات، التي تعاقب أي شخص علم بسر بحكم وظيفته وأفشاه دون سبب شرعي. علماً أنه يجدر فهم الأسباب الشرعية التي تجيز خرق السرية المهنية حصرياً، على ضوء أحكام الآداب الطبية المشار اليها أعلاه. ومعاقبة الإخلال بالسرية الطبية ترتبط بالوظيفة الاجتماعية الفائقة للعمل الطبي، والتي تتخطى حماية خصوصية فرد معين لتصل الى ضمان الثقة العامة بالجسم الطبي، الذي يجدر النظر اليه على أنه منقذ لحياة الأشخاص وليس على أنه مخبر. وما يؤكد الطابع الاجتماعي للحماية هو تأكيد المادة 7 من قانون الآداب الطبية أن “السرية المهنية المفروضة على الطبيب هي من النظام العام”. فلا يكفي إعفاء المريض طبيبه من السرية المهنية لإسقاط هذا الموجب.
– أن هذه الممارسات تخل تماماً بمبدأ تخفيض المخاطر (Harm reduction)، والذي يفرض أحياناً غض الطرف عن أفعال، قد تشكل جرائم، رغم المخاطر الاجتماعية التي قد تنجم عنها، وذلك تجنباً لما تقود إليه ملاحقة هذه الأفعال من مخاطر أكبر. وهذا ما قد يحصل مثلاً من خلال تسبب التشدد في ملاحقة المصابين بالأوفردوز والأشخاص المدمنين عموماً بموتهم. وهذا المبدأ قاد عدداً من الدول مثلاً الى توزيع واقيات ذكرية أو إبر حقن نظيفة في السجون، تجنباً لانتقال بعض الفيروسات والأمراض بين المساجين (مثل فيروس نقص المناعة البشرية). وقد بررت هذه التصرفات التي قد تفسر على أنها تشجيع من قبل الدول لأفعال تعد جرائم في قوانينها، بأنها تهدف الى حماية حق السجناء بالحياة، وهو حق أسمى وأهم شأناً من المخاطر التي قد تنجم عن مخالفتهم لقواعد أخلاقية و/أو قانونية معينة.

اقرأ أيضاً: قرية جنوبية محافظة محاصرة بالمخدرات: الشباب يدخنون الحشيشة وأسماء المطلوبين

لكن، بمعزل عن مدى انتهاك المستشفيات أو الأطباء لموجب السرية، فقد كُشف خلال الندوة التي نظمتها جمعيتا “سكون” و”المفكرة القانونية” في 26/06/2014 عن ممارسات أكثر خطورة، من شأنها تفريغ موجب السرية من أي مضمون. فقد أوضح عدد من القيمين على أقسام الطوارئ في مستشفيات عدة، توغُّل مخبرين
في أقسام الطوارئ ومحيطها يبلغون قوى الأمن الداخلي المعلومات التي تود الحصول عليها، لا سيما تلك المتعلقة بتعاطي المخدرات. وبالطبع، على قوى الأمن الداخلي إعادة التفكير بشأن استراتيجيتها هذه لمكافحة المخدرات، لما ترشح عنه من انتهاك للقانون ومن مخاطر. أمام هذا الأمر، بات ضرورياً على النيابة العامة التمييزية أن تضع حداً فورياً لظاهرة المخبرين هذه داخل المستشفيات: فأيهما أبدى اجتماعياً؟ إسعاف حيوات من تعرضوا للأوفردوز أم سعي مميت الى ملاحقة كل إدمان قد نعرف به ولو تجسساً؟

(هذه المادة نشرت في مجلة “شؤون جنوبية” العدد 165 خريف 2017)

 

السابق
5 مطاعم تقدم مأكولات شهية عند اوتستراد السيد هادي في الضاحية الجنوبية!
التالي
مقتل الجندي الذي نفذ مجزرة كنيسة تكساس