السيد هاني فحص والتشيع الكوني

السيد هاني فحص
في الذكرى الثالثة على رحيله دعا المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وأكاديمية هاني فحص للحوار والسلام أمس الخميس في 26 تشرين الأول، إلى حضور ندوة بعنوان: «السيد هاني فحص قراءة في محطاته السياسية الفكرية» شارك فيها الأستاذ انطوان طوق، الدكتور يقظان التقي والدكتور محمد علي مقلد. وقد أدار الندوة الأستاذ بهزاد جابر (عضو الهيئة الإدارية للمجلس). وفيما يلي كلمة الأستاذ انطوان طوق، وعنوانها: هاني فحص قراءة في محطّاته السّياسية والفكريّة.

يقول جبران في كتاب النبي في مقالته عن الدين:

“كل من يعتقد ان العبادة نافذة يفتحها ثم يغلقها، فهو لم يبلغ بعد هيكل نفسه المفتوحة نوافذه من الفجر الى الفجر.

وكل من يقيّد سلوكه وتصرّفه بقيود الفلسفة والتقليد انما يحبس طائر نفسه الغرّيد في قفص من حديد.

لأن انشودة الحرية لا يمكن ان تخرج من بين العوارض والقضبان”

إنه السيد هاني فحص الواحد مع ذاته، له قلب واحد في جوف واحد، هذا المناضل الواهب ذاته في سبيل الآخرين والذي لا يتقن فنّ إمساك العصا من الوسط، البالغ كمال يقظته في خطابه والسائر الى محجّته ثابت الخطى، كله خير والخير الذي فيه هو في حنينه الى ذاته الجبّارة المؤتلفة مع كل اختلاف.

هذا الفلّاح الجنوبي العاملي الآتي من حقول التبغ، من حقول التعب، هذا المثقف والمناضل الثوري واليساري والسياسي والخطيب والشاعر والكاتب والناقد الذي صار رجل دين. فالتديّن في عرفه روحي، أمّا رجل الدّين فوظيفي.

السيد هاني فحص هذا المتديّن الحالم بالجنة والساعي الى الحرية والعدالة منذ سبارتاكوس وحتى اليوم، المفتوحة نوافذ هيكل نفسه من الفجر الى الفجر، والفالت من كل العوارض والقضبان الفقهية والسياسية ومن كل سلطة، هذا المشاغب الهاوي للخراب الجميل في المؤسسات الدينية والفقهيّة، الثّائر الغاضب لكل مظلومية والمشتبك دائماً مع نفسه والمتصالح مع الآخرين، انه مشغول باعتداله رافضاً أي اختزال لشخصيته، يشتغل في منطقة المباح متسامحاً مع الكفر شرط العدل، ومنشغل بتأهيل ذاته لتصبح شرطاً للآخر المختلف، هذا الآخر الذي لم يعبر سريعاً في وعيه وتكوينه وانما يقيم في عقله وقلبه على

صورة سؤال يلزمه يومياً بالتعرف الى ذاته. فهو الداعية للحوار بين الذات والذات وبين الذات والآخر لان البعد الواحد قاتل للفرد وللجماعة والقطيعة انتحار بالجهل، فالتعدد قانون كوني والعيب ليس فيه وانما في ادارته والآخر هو كل انسان كتابياً كان ام مؤمناً ام ملحداً ام امرأة.

السيد هاني فحص هذا الحائم كما النّحل والجامع شهي أطايب المكتبات في النجف وقم وفي بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وتونس وفاس وباريس.

هو عاشق للجدل بين الثابت والمتحوّل ، يهزّ باستمرار شجرة الثوابت بقوة لتجديد المعرفة بها ولتحديث النص التاريخيّ والنّص الديني مشترطاً التجدّد بالمتغيّر لتجديد الثوابت قائلاً بالهوية المركبة ورافضاً الهوية الحصرية المهجوسة بالسلطة وبقمع الآخر والغائه ونفيه.

السيد هاني فحص باحث مقيم في السؤال عاملاً على تقليص مساحات العتمة ومتلذذاً بالنور وسط الظلام، ورافضاً العيش في مسارح الماضي، فالماضي يعيش عليه وليس فيه، مقدماً عليه الحاضر والمستقبل.

فهذا السيّد طبيب شجاع لا يهاب تهييج الألم الذي تحدّثه الأدوية الناجعة والعمليات الجراحية فهوينبذ كل العقاقير والمسكنات دون أن يحتشم في إظهار الحق كل الحق والشهادة له متخطياً وبجرأة نادرة الخوف من ظنون الناس واقاويلهم واي تهديد بالتهميش والعقاب. فهو قلق في سعيه الى المعرفة وفي نفس الوقت لا يراها ملزمة.

نوافذ السيد مفتوحة من الفجر الى الفجر، يخرج الدين من عتمة الأصوليات الى الشمس، صعب وعميق وقوي في اعتداله وهذا الاعتدال لا قيمة له في رأيه إن لم يكن مشروعاً وطنياً تتم مأسسته على الاختلاف، لان الآخر هو الذي يعلم الاعتدال دون البناء على النوايا وانما على الوقائع، وكل مختلف عليه ان يأتلف. ففي السيد بعض من طائر الفينيق يحبط ليكمل، وييأس ليرجو، متنقلاً من جديد الى آخر وكلما خرج من تجربة تزداد قامته شموخاً من جديد، ظريف، ساخر، لمّاح ساحر البديهة وحاضر النكتة التي قد تختصر ساعات من البحث والحوار والجدل.

إقرأ أيضاً: هاني فحص مثقف ثائر رسخ علامات الشيعة العرب

دينه فضاء كوني متعدد ورحب، ففي اسلامه وتشيعه مطارح للجميع للشيعي والسني والدرزي والمسيحي واليهودي والمتصوفة. “حفظ القرآن وتفاسير الأئمة والانجيل واعمال الرسل واخرجها كتاباً واحداً” مخالفاً صورة رجل الدين الحاكم والمتجهّم والمتزمّت مالك الحقيقة المطلقة مع قليل من الفقه والكثير من الايمان “ليكن كل منا إمام نفسه ومأمومها”. فقد ربط الدين بالحياة بدلاً من ربط الحياة بالدين ناقداً بقوة الطائفيات الحزبية المتذرعة بالإمامة والولاية والسلفية والخلافة.

في اسلامه وتشيعه مطارح للجميع للبناني والفلسطيني والعربي والفارسي والأوروبي ولكل إنسان.

فيه مطارح للفلاحين ومزارعي التبغ والمناضلين الثوريين والفقراء والرجال والنساء.

فيه مطارح للمسرح وللسينما، للكتاب والشعراء والمغنيين والموسيقيين والمثقفين، فيه مطارح لجبران والمعري وابي تمام والمتنبي ويوسف ادريس ونجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد ومارون عبود وبيرم التونيسي واحمد فؤاد نجم.

في اسلامه وتشيعه مطارح لغيفارا وكاميليو توريس وطانيوس شاهين وعامية انطلياس، فيه مطارح لدوستويفسكي وتولستوي وكافكا واغار الن بو وسارتر وبابلو نيرودا وناظم حكمت واليندي وماركس ولنين وغرامشي وغارودي.

في اسلامه مطارح لفيروز وعبد الوهاب وام كلثوم ومنير بشير والشيخ امام والصوفيين.

فيه مطارح لعبد الناصر والخميني وياسر عرفات وفؤاد شهاب وكمال جنبلاط ونسيب لحود.

السيد هاني فحص هو متدين، رجل دين من هؤلاء الذين يقربون الله من الانسان ويقصرون المسافة بين الارض والسماء، انه تدين لذيذ يرفع الكلفة بين الله والانسان ويفتح الآفاق على كل جديد وخلّاق، هو من هؤلاء الذين لا يتحدثون عن الله بفوقية وسلطوية، هذه هي حال البطريرك عريضة الذي رهن صليبه ليطعم الجياع من كل المشارب ابّان الحرب العالمية الأولى، وهذه حال المطران

غريغوار حداد مؤسس الحركة الاجتماعية المشتغل في النص الديني على ضوء العصر وهي حال البابا فرنسيس الذي لم تُغرَه أبهة روما والجالسين على كرسي بطرس، السيد هو شريك الذين يؤمّهم لا حاكمهم، شريك الكادحين في حقول الجنوب، شريك الذين يترقّبون إنبلاج الفجر.

والسيّد مسكون بهاجس الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان. الحوار الاسلامي الاسلامي والاسلامي المسيحي. وهو مسكون بهاجس الدولة المدنيّة والمواطنة وبقضية العيش معاً والسلام المبني على الحوار والعدالة والمساواة وحق وحرية الاختلاف. وفي اعتقاده انه لا دولة دينية في الاسلام، ففي الدولة الدينية لا وجود للآخر كتابيّاً أو امرأةً وصولاً الى المختلف السياسي.

وهو يناشد المرجعيات الدينية الاسلامية والمسيحية العمل على ادخال العلوم الحديثة في دراسة النصوص التاريخية والدينية وعدم الانسياق وراء الجمهور لأن هذا الاخير بحاجة الى من يأخذ بيده الى مجالات معرفية جديدة، فالمستجدات المعرفية والحياتية في فهم النص والدين هي بحاجةٍ الى مساحات واسعة من الحرية.

لا دولة مدنيّة دون تمكين المرأة والمساواة بينها وبين الرجل اذ انّ الموروث الدينيّ قد ألقى الشهوة على المرأة والمعرفة على الرجل، وعليه فالمرأة حسب السيّد يجب أن تشارك في انتاج المعرفة ولا يتمّ ذلك دون الشغل على النصّ التاريخي، لأن الدين واحد ولكن التجليات التاريخية مختلفة.

هو يتشبّث بشيعيّته لا على حساب الآخر بل لحسابه، فبالشراكة والتكافؤ يتمّ تجنّب الخسائر الكبيرة.

إقرأ أيضاً: في الذكرى الثالثة لرحيله: قراءة في محطات العلامة هاني فحص السياسية والفكرية

بدأ السيد هاني فحص كوزموبوليتيّاً عابراً للأوطان وحسب قوله كان “وطنه خرافيّاً بلا حدود ولا مكان معيّن”، لكنّه في ايران قد انتبه أن هناك أحلاماً امبراطورية ووطنية ايرانية، فايران لا تبحث عن دور وانّما عن “إمساكٍ بالرقبة والقرار”، فأحسّ بالغيرة وتساءل لماذا لا ينتبه الى وطنيّته، فعاد الى لبنان لبنانيّاً عربيّاً ومصرّاً على التمايز مجدّداً قراءته لنشأة الكيان اللبناني ودور لبنان ومعنى لبنان، فوجد أن لا دور للبنان دون المسلمين ولا لزوم ولا طعم للبنان دون الوجود المسيحي السياسي، وفي الوقت نفسه هو خائف من السلوك التاريخي

لبعض الأطراف العربية وبالتحديد للسلوك السوري الذي يعتبر الكيان اللبناني مؤقتاً فلا يعترف به الا شكليّاً أو مجاملةً، وفي الوقت نفسه يتطلّع السيد الى علاقات تبادلية سيادية متكافئة مع تركيا وايران والسعودية ومصر وسوريا طالباً من حكامها تغليب سلامهم واستقرارهم الداخلي على النفوذ في الخارج بذرائع مذهبية أو اثنيّة مع تحقيق المصالح المشتركة والمشروعة للجميع بعدالة وفي طليعتها السيادة الوطنية.

وبدا خائفاً من “اندثار الأوطان والدول اذا ما استمرت الطوائف لا سيما المستقوية منها غالبةً على المواطنة ومفكّكةً للدولة بحيث يصبح الدين أدياناً، والمذهب مذاهب، فيسود الالغاء المتبادل بالتهميش أو القتل المتبادل، ويصبح الاستبداد الواحد، استبداد الحاكم الواحد والحزب الواحد، أو الطائفة الواحدة استبدادات متعددة متقاتلة بأجساد شعوبها ومن دون مانع أن تتفّق فيما بينها على حساب شعوبها”.

والسيد لا يخاف على الطوائف وانما منها على نفسها وعلى الآخرين، فاذا تحوّل الدين أو المذهب الى اطارٍ عصبيّ والغائيّ عندئذٍ تصبح المواطنة هي المهدّدة.

“والمواطنة في عرفه هي ايمان بالوطن على أساس دولة تضمن هذا الايمان وتضمن الوطن والمواطن على أساس العدل والمساواة والحرية. ومن دون دولة حقيقية جامعة وعادلة يبقى مفهوم المواطنة عرضة للاهتزاز والابتزاز.”

ويبقى السيّد هاني فحص علماً نهضوياً من الأعلام اللبنانيين رائداً من روّاد الحوار المبني على اكتشاف القيم المشتركة بين اللبنانيين أولاً ومن ثمّ بين الشعوب والاديان والثقافات متحملاً ايجابيات وسلبيات الحرية فاصلاً بين السياسي والديني وبين الثقافي والديني، انه رجل الدين الذي استطاع ممارسة دوره كمواطن، مارس نقداً ذاتياً جذرياً معتبراً تأهيل الذاكرة شرطاً من شروط الحلم، والحوار ضرورة وجودية منعاً للتكلّس، وطامحاً الى تشارك الآخرين في مشروعٍ حضاريّ انسانيّ دون الوقوف عند مظاهر العدد والقوة والثراء، لأن الحكّام في هذه الناحية من العالم لا يشكون من الثروة والسلاح وانما من نقصٍ في العقل وهم يربّون عضلاتهم على حساب عقولهم.

أيها البهيّ الطلعة، أيها الغائب الحاضر، وأنت تطلّ علينا من عليائك حيث لا موت ولا ألم نشكو اليك أمورنا التي زادها غيابك سوءاً، لقد:

أسلمنا قومنا الى نُوَبٍ أيسرها في القلب أقتلها

إنهم يا سيّد ينبشون قبور الموتى من جديد، ويستعيدون لغة القتل والتّخوين، إنهم يستعيدون لغة الحرب التي ما زالت كامنةً في نفوسهم.

في غيابك يا سيّد الفصاحة والبلاغة انحدرت لغة قومنا الى القاع.

في غيابك يا سيّد التّعقل والمعرفة عاد الإرتجال والتّهور والتّطرف.

في غيابك يا سيّد أحلامنا أصبحت الوطنية والعمالة وجهة نظر، وما زالت العواصم والرّهانات تتنازعنا !

في غيابك أيها البهيّ الشّامخ أفلتت الطوائف والمذاهب من عقالها.

ولكن لنا في ما تركته من حوارات وكتب وأبحاث خير زاد لمواجهة الإنغلاق والتقوقع وإلغاء الآخر في هذا الزمن الرديء.

إقرأ أيضاً: إلى السيّد هاني فحص

السابق
الذكرى المئوية لوعد بلفور الذي غيّر مجرى تاريخ الشرق الأوسط
التالي
الخلاف الإنتخابي يتسع: فشل في التوافق على البيومترية