ركّز سماحة مفتي طرابلس والشمال الشيخ الدكتور مالك الشعار خلال وقوفه بين يدي أحمد الحريري الأمين العام لتيار المستقبل خلال زيارة الأخير إلى طرابلس على ضرورة الإلتزام بالولاء لنهج الرئيس الشهيد رفيق الحريري ، وبنقل الولاء لنجله سعد ، بإعتبار ذلك واجباً دينياً ووطنياً.
وفي هذا الإطار يجب التوقف عند جملة مسائل وإشكالات، أهمها:
• الإجماع على شهادة رفيق الحريري وليس على أدائه السياسي
لم يكن هناك إجماعٌ لبناني حول شخص رفيق الحريري قبل إستشهاده، وجاء الإجماع الوطني على مظلومية الإستشهاد وليس على تفاصيل السياسة التي كان الراحل يعتمدها.
بعبارة أخرى ، إن نصرة الرئيس سعد الحريري واجبةٌ في ما يتعلّق بقضية إستشهاد والده ، بكل أبعادها ، أما في السلوك السياسي ، فهذا خاضع للتقييم ، إن كان جيداً كان الدعم والتأييد واجباً ، وإن كان سيئاً ، باتت النصيحة والنقد والتسديد فرضاً لازماً.
اقرأ أيضاً: نقاش على ضفاف الضياع السياسي في ظل حكم سعد الحريري (1-3)
لم يترك الشهيد رفيق الحريري مدرسةً سياسية محدّدة بقدرِ ما ترك سلوكاً وطنياً عاماً، وكان في جزء منه محطّ خلاف، فهو لم يكن “إماماً” يقع عليه الإجماع في السياسة، بقدر ما كان رائداً صادقاً في الحفاظ على وحدة اللبنانيين وشفافاً في صيانة عيشهم المشترك.
ولهذا لا يمكن الحديث عن إرثٍ يحمله سعد الحريري سوى ما تركه رفيق الحريري من مآثر في العمل الوطني والتنمية ومظلومية الإستشهاد.. وهذا الأمر ليس محصوراً بورثته المباشرين، بل هو شأن اللبنانيين جميعاً، ولا يصح إستخدامه في المنافسة السياسية، بعد مضيّ سنواتٍ تخلى فيها الحريري الإبن عن خصوصية القضية، وأنهى عملياً مفاعيل المحكمة عندما خاض عملية تطبيع متدرجة مع “حزب الله” المتهم بالإغتيال، ويمهّد الآن للتحالف مع جهات عليها شُبهة كبرى مثل “الأحباش”، ثم أطاح بكل القضاة الذين عملوا في المحكمة الخاصة بوالده، وجاء إلى حكومته بوزيرِ عدلٍ مكلّف بالدفاع عن المتهمين بقتل والده.. في حين أنه يناصب العداء لمن عملوا على حماية من شكلوا النواة الصلبة لنشأة المحكمة، وتحديداً الرئيس نجيب ميقاتي، الذي حافظ على حصانة الشهيد وسام الحسن واللواء أشرف ريفي وإلتزم أيضاً بتمويل المحكمة وبإستمراريتها.
الآن تحوّل سعد الحريري إلى سياسي لبناني مثل غيره من الساسة، ولم يعد يحقّ له التقدّم عليهم بدعوى وراثة الشهادة ، بعد أن تعاطى سابقاً مع رئيس النظام السوري المتهم بقتل والده، وهو يتخندق اليوم في جبهة واحدة مع “حزب الله” في الحكومة وخارجها ، وبالتالي، فإن إلزامية الولاء التي طرحها المفتي الشعار هي إلزامية ساقطة، من حيث الشكل ومن حيث المضمون.
• من يداوي إنكسار السنة؟
تحوّل الإدعاء بأن الرئيس الحريري ليس زعيماً سنياً، بل هو زعيم وطني، إلى وسيلة للتهرّب من المسؤولية عن مجتمعه ومحيطه الذي أتى إلى السلطة بإسمه، وهو يمثـّله دستورياً في رئاسة الحكومة.
هناك قناعة واسعة بأن الضلع السنّي في الحكم مكسور، وبقية أطراف التسوية الحاكمة تتصرّف إنطلاقاً من حفظ مصالح طوائفها دونما إستحياء، والجميع يرى الخطابَ الطائفي والمذهبي المتصاعد على لسان الوزير جبران باسيل، ويشاهد مواقف “حزب الله” ويلمس هجمة هؤلاء على التوظيفات التي بات فيها السُنة كالأيتام على موائد اللئام.. ثم يأتي المفتي الشعار ليحدثنا بأن الحريري سيحفظ السنة والشيعة والدروز والمسيحيين!
نحن نقول وبكلّ صراحة:
في ظل إتفاق الطائف، وفي ظل النظام السياسي المنبثق عنه، فإن الرئيس الحريري يصل إلى السلطة ممثلاً السنـّة، وواجبُه تجاههم يأخذُ طابعَ الأولوية، وما يحدثُ أن التقصيرَ بحقهم هائل، فيحصلُ أن تلجأ آلته الإعلامية إلى إثارة الغبار لتبرير التقصير والعجز.
ليس مطلوباً أن يتضارب الإنتماءُ الوطنيّ مع الإنتماءِ الديني والتمثيلي، بل المطلوبُ بكلّ بساطة حفظُ حقوقِ السنة ضمن معادلة الدستور وما يعطيه لهم من مواقع، وتوفير التنمية المتوازنة لمناطقهم التي خسرت مئات الفرص خلال حكم تيار المستقبل، ولا تزال تعاني من كوارث كبرى على المستوى الإجتماعي والمعيشي والتنموي والتعليمي وفي مجال الحريات والعدالة.. وهذا الفعل ليس خروجاً على الوطنية، بل هو تكريس للسلم الأهلي.
• العمل للحقوق الدستورية لأهل السنة ليس خرقاً للوطنية
وإذا كنتَ يا سماحة المفتي الشعار تفتخر بأن الرئيس الحريري ليس زعيماً سنياً، وبما أنك تتجاهل أن الحريري إنما جاء إلى السلطة بإسم السنة، فنحن نتساءل: هل أنت مفتي السنـّة أم أنك مفتٍ مشترك للجميع؟!
سيقول سماحة المفتي الشعار: نعم إن المفتي يجب أن يكون وطنياً . ونحن نؤكد ذلك، لكنه أولاً وقبل أي إمتداد آخر، هو مفتي المسلمين، وإذا تخلّى عن واجبه تجاههم، فإنه يخسر مرجعيته الأولى ، ولا يعود مجدياً الحديث عن الوطنية هنا.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى رئاسة الوزراء. فرئيس الحكومة يجب أن يكون رجلَ دولة، وأن يتمتع بمواصفات الحكمة والشجاعة والصبر والحلم، ولكنه منتخب لتمثيل شريحة من اللبنانيين، وإذا شعرتْ هذه الشريحة بالغبن وهو في الحكم، فهذا يعني وجود خلل خطر، ويصبح الكلام عن الأداء الوطني غير ذي جدوى، قبل العودة إلى الجذور وإستدراك الحقوق الضائعة.
لقد وضع الآخرون معادلات القوّة على الطاولة: فرئيس الجمهورية يجب أن يكون قوياً في شارعه ولديه قوة التمثيل المسيحي، ورئيس مجلس النواب كذلك يفتح “حربا” على موقع يريده للشيعة، أما رئيس الحكومة، فهو “وطني” و”عينه شبعانة” من المناصب والمواقع!
هناك أداء وطني يُجمع عليه كل صاحب حرصٍ وضمير ، ونحن نتمسك به، لكن من دون التفريط بذرّة من الحقوق التي يختلّ ميزانُ الوطن إذا ما تعرّضت للإعتداء وإذا تنازل من يمثلنا بالسلطة عن الدفاع عنها.
اقرأ أيضاً: يا رجال الدين.. لوذوا بالصمت
• لا للتقديس!
أوحى المفتي الشعار للرأي العام أن الولاء للرئيس الحريري مسألة ملزِمة، وهو يتحدث من موقعه الديني والوطني، وفي هذا جنوحٌ إلى إلباس الحريري ثوب القداسة والعصمة، وهذان مفهومان لا يستقيمان لا شرعاً ولا مصلحة.
فالقداسة للرسل والأنبياء، وزمن الرسالات إنتهى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا قداسة ولا عِصمة لبشر يخطئ ويصيب، واللبنانيون عموماً وأهل السـُنّة خصوصاً قاموا الإحتلال الصهيوني والتسلّط والطغيان “السوري” رفضاً منهم لأي شكلٍ من أشكال الطغيان السياسي ولكل أنواع الديكتاتوريات المكشوفة والمقنّعة، ونعتقد أن مثل هذه الطروحات تؤذي الرئيس الحريري ولا تفيده، بقدر ما يفيدُه الرجوع إلى التشاور والتعاون والتكامل والإنفتاح، بدل الإنغلاق على مجموعة أثبتت الأيام أنها توردُه مهالك السياسة وتسقط عنه الحصانة المعنوية الكبرى التي منحته إياها شهادة رفيق الحريري.
• أمين عام التحالف المدني الإسلامي
