تعويذة طي ملف الحرب الأهلية: لكن أين قطع الحساب؟

الحرب الاهلية
الحكم الصادر بحق حبيب الشرتوني أعاد تظهير الانقسام الطائفي - السياسي - الشعبي في حلة مكررة وصارخة.

مشهد التجمع الطائفي في ساحة ساسين في ا لأشرفية، والمشهد المقابل، عاصفة التعليقات والردود المقابلة على مواقع التواصل الاجتماعي، واستحضار ما في جعبة فريقي النزاع من لغة و مفردات الحرب والتراشق بمصطلحاتها، واستدعاء حججه، ومنطقه، اعاد الى الواجهة مشهد الحرب الاهلية المستوطنة في لبنان، والمقمية في وعي طوائفه والمذاهب.

وعلى هامش هذا المشهد، برزت دعوات متنامية تأتي في امتداد دعوات سابقة امتدت منذ فترة طويلة – ما خلا بعض الدعوات النقدية غير الكافية لتجربة الحرب الأهلية – وهي دعوات بعضها لا يخلو من البراءة وبعضها الآخر يبتعد عنها عبر السعي إلى تبرئة النفس وإلقاء الحرب واوزارها على الآخرين مستحضرا نظرية المؤامرة الخارجية على لبنان “حرب الآخرين على لبنان” أو في صيغة أقل حدة مع تدوير الزوايا “الحرب من أجل الآخرين”.

هذه الدعوات سعت على الدوام وبشكل حثيث الى طي ملف الحرب، حتى ولو كان ذلك عبر استئصالها ومحوها من الذاكرة، واسدال جدارالصمت عليها.

بعض هذه الدعوات يأتي مقرونا بشرح مستفيض يؤكد ان طي ملف الحرب قد حصل مع إقرار اتفاق الطائف الذي حسم مواضيع الخلافات ، من حصص الطوائف في اطار الصيغة الجديدة، الى النظام الاقتصادي، ومن رفض التوطين الى العداء لإسرائيل، من نهائية لبنان كوطن الى تأكيد انتمائه العربي.

لكن الحرب الأهلية التي قيل انها انتهت وتم دفن جثتها، سرعان ما تبين أن هذه الجثة ما زالت في صحة جيدة.

هل من مجال لدعوة ساذجة، أو هادفة تحث على النسيان، وتدعو إلى محاذرة إثارة الموضوع، وشطب ذاكرة الحرب، وتجاوز آثارها والنتائج في ظل استمرار العوامل التي تعيد انتاجها؟

واي تجاوز هو المطلوب مع افرقاء يعيدون الكرة من جديد؟

كيف يمكن طي ملف الحرب ومسار الصراع يتركز حول القضايا السياسية التي شكلت محور التقاتل الداخلي، مما يعني ان واقع الوفاق الذي حصل يؤسس لاستئناف الصراع، بدل ان يؤسس لحل متوازن للازمة اللبنانية المستمرة؟
وكيف يأتي النسيان وطي ملف الحرب في ظل بقاءالأزمة في عناصرها الداخلية، وفي جانبها الاقليمي بحكم المعلقة، ومحكومة بمفاعيل الصراع الداخلي المحتدم حول حصص الطوائف والمذاهب، ومرتبطة بتجاذبات وقوانين ا لتناقضات الاقليمية، مما يعني إبقاء كل انجاز على طريق السلم الاهلي ضمن دائرة الاهتزاز وعدم الرسوخ والثبات؟
يتوجب القول أن واقع الصراع المحتدم بين فريقي الانقسام اللبناني تحت عنوان المسالة الوطنية والقومية من ناحية، وبحجة السيادة والاستقلال من ناحية تانية، هو في جزء منه استمرار للخلاف على معنى الوطن، وهو يحمل لغة الحرب الأهلية، ان لم يكن يؤسس لفصل من فصولها الساخنة أين منها سابقاتها.
ويتوجب القول أن فريقي النزاع الداخلي يشتركان سواء بسواء في هدر موجبات السيادة الوطنية على حد سواء، ويشتركان في استدراج كل صنوف التدخل الخارجي شقيقا كان أم صديقا أم عدوا وبحيث كانا كلاهما جزءا عضويا من طبقة سياسية حكمت لبنان منذ الطائف وحتى اليوم، وفرطا بما فيه الكفاية بسيادة لبنان واستقلاله.

وفي السياق عينه فإن السياسة اللبنانية في عهد الجمهورية الثانية، وفي مرحلة السلم الوليد الذي طالما طمح إليه اللبنانيون، لم تشهد مراجعات نقدية للسياسات التي ساهمت في تغذية العوامل الداخلية للحرب، بقدر ما تشهد على ممارسات تعيد إنتاج هذه العوامل في سائر المجالات، فيما بقي تطبيق البنود الإصلاحية التي أقرها اتفاق الطائف محكومة بسياسات الطبقة الحاكمة ولعبة الصراع على السلطة بين القوى والمشاريع الطائفية والمذهبية المتصارعة.

ففي المجال السياسي يجري تمثيل الطوائف في السلطة الجديدة بالتداخل مع زعامات صاعدة بواسطة المال تبعا لمعايير الأمر الواقع – في مرحلة ما جرى استبعاد قوى سياسية ذات تمثيل شعبي وطائفي وازن – كما أن تمثيل الطوائف في السلطة في صيغة الرؤوس الثلاثة لا بل الأربعه، قد منح كلا منها حق الفيتو، بغض النظر عن الصلاحيات الدستورية، فباتت وحدة الدولة وحتى القرارالسياسي الداخلي رهنا بتوافق رؤوس الحكم الى حد بعيد.
وغني عن البيان أن مواضيع الخلافات بين هذه الرؤوس تدور حول حصصهم في الادارات العامة، وحول مخصصات مناطقهم من المشاريع واولويات هذه المشاريع والمصالح الانتخابية.
ولتثبيت سلطة زعماء الطوائف يتم اصطفاء قوانين انتخابية تؤمن تمثيل هؤلاء في المجلس النيابي ،أما الإصلاحات التي نص عليها اتفاق الطائف وأصبحت في صلب الدستور حول الكثير من ملفات الإصلاح السياسي وفي الأساس منها قضية اصلاح النظام الانتخابي، فما زال البحث في قانون الانتخاب يتحول اليوم كما بالأمس الى مجرد بحث تقني في صيغة الدوائر الانتخابية، مما يعكس سعي الطبقة الحاكمة بكل أجنحتها الى تأبيد المحاصصة الطائفية والمذهبية في التمثيل السياسي وفي الإدارة العامة وصولا الىالموازنة العامة للدولة.

وفي المجال الاقتصادي تضامنت قوى السلطة حول إحياء البنى الاقتصادية التقليدية للبنان، وعلى نحو يجسم بنيتها الريعية والطفيلية، وبحيث تقوم على تكريس اقتصاد الحرب ومصالح أمراء الطوائف والرأسمال الريعي. ليس هذا فحسب بل على إغفال خطير للدور الذي لعبته الاختلالات الاقتصادية، والفروقات الطبقية، والتفاوتات المناطقية من إشعال فتيل الحرب الأهلية.

كان لا بد لهذه السياسةالاقثصادية في ظل التركيبة المهيمنة ان تؤول الى تحولات أساسية في البنية الاقتصادية والاجتماعية، من أبرز مظاهرها تعميق الهوة بين طبقات الشعب اللبناني، ونمو الاستقطاب بين الأغنياء والفقراء، فيما تتوسع دائرة الفقر الى درجة دفعت شرائح من الطبقة الوسطى للانضمام إلى الفئات المفقرة من الشعب اللبناني التي تؤدي ضريبة الحرب والسلم من قوتها واجورها، كل ذلك مصحوبا بتفاقم مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة، ومن البلد الى الخارج.
هكذا انتهت الحرب الى خاسرين ورايحين، في السياسة وفي الاقتصاد، كما في السلطة والمال.
وفي مرحلة الجمهورية الثانية كما في مرحلة الحرب، ألاقلية من كل الطوائف تربح في السلم كم ربحت في الحرب، والأكثرية من كل الطوائف التي خسرت في الحرب، هي هي التي خسرت في السلم.
ورغم ذلك ، يريدون طي صفحة الحرب الأهلية على زغل.

اقرأ أيضاً: خذوا العبرة من التاريخ الفرنسي

ما من صوت في لبنان بدءا باليسار اللبناني مرورا بسائر القوى السياسية وصولا إلى الطبقة الحاكمة، وربما كل فرد في لبنان كله يعتبر أن التعايش غير ممكن بين اللبنانيين.

لكن كيف يتم ذلك من غير وضوح حيال الماضي القريب؟
ان السلوك المجدي الوحيد والعاصم من تجدد الحرب الأهلية هو استرجاع ما جرى، وعدم القفز فوقه “يمينا” و”يسارا” لأن هذا القفز هو المدخل النموذجي لاستئناف الحرب الأهلية عندما تلوح ظروف جديدة.

ان قصر الذاكرة على الدعوة الى مجرد استذكار الحرب، ورفض السجال حول مسؤولية فاعليها، ونصيب كل منهم من الخطأ والصواب، أو بالعفو عن البعض ومحاكمة الآخر، هو الذي يقود الى إلغاء وهمي للحرب الأهلية ولتاريخيتها، كما يقود الى قراءة للأحداث والأدوار يصبح معها النقد الذاتي الضروري براءة ذمة للآخرين جميعا.
اما البحث في اسباب الحرب ومحاولة الافادة من دروسها والنتائج حتى لا تتكرر في المستقبل، فتلك مسألة ينبغي أسدال جدار الصمت حولها كي لا ننكأ الجراح، وهو مايقود الى تكاذب متبادل طالما مارسته القوى السياسية اللبنانية في العلاقات فيما بينها.
وهو تكاذب غير جدير بقوى تريد فعلا تجاوز الحرب الأهلية وتجاوز العوامل التي تعيد إنتاجها.

خلاصة المشهد اللبناني منذ الطائف وحتى اليوم: ماتت الجمهورية الأولى… عاشت الجمهورية الثانية.
لكن أين قطع الحساب أيها السادة؟

 

السابق
وفاة المواطنة زينب العلي التي صدمتها سيارة يملكها الفنان جو اشقر
التالي
الفصل الرابع من رواية الشرق الأوسط الجديد