المشترك حديقة الروح

هل تستطيع أن تحفظ ذاتك بالحفاظ على النسبية والوسطية والرغبة في التسوية؟ وفي لحظة سقوط الانقسام السياسي على رأس الاجتماع الوطني والثقافة الوطنية ودور الحضانة ومنابر الحوار ومجالات العيش المشترك وحركات الإعراب والأبنية الصرفية. مع سؤال يأتي من جهة الأجيال… عما إذا كانت دور العبادة قد أسهمت في إنتاج هذا الانقسام ونشره، أو أنها كانت ضحية له بعدما غزاها بإغراء من أبوابها المشرعة دائماً وفي لحظة من غفلة أو غفوة أو هفوة من حراسها؟
أنا أشكو من أصدقاء وأحباء ورفاق عمر وفكر ونضال وجهاد ودراسة، وهم لا يقلون شكوى مني عني… وقد استفزهم المشهد الانقسامي الذي يراود الجينات عسى أن يدخل في تركيبها، فذهبوا إلى حيث غمز لهم بعينه وأشار بإصبعه، منصتين لندائه مجذوبين بإغرائه، مستأنسين بما يوفره لهم من سهولة ومشاعر كسولة. ولفة ظننا أنها بائرة وبائدة فعادت مبيدة.
وألحوا على استفزازي، بعدما كنت قد أقسمت على الصمت، شأن ذوي الحجى، عندما يشتبه النور بالدجى، واليأس بالرجا… لكنهم دلقوا على رأسي وقلبي وعيني كل مفردات ومجازات النفي والإقصاء والإلغاء والتخوين والتكفير، ونعفوا في وجهي كل ما تبقى من تراب قبور دارسة، تقف أرواح أهلها على حوافيها ترد عنها طالبي الثارات والذهول، فيتخطونها متجاهلين لها ويمضون في النبش، ويضرب الأنبياء والأئمة وصالحو الأمة والقديسون والطوباويون كفاً بكف ويصرخون: ما لهذا جئنا! ويرد عليهم رجال مفتولو الألسن جاحظو الأعين: نحن الذين نعلمكم لماذا جئتم فابقوا على السمع… واعلموا أن ذاتنا هي المقدس وأن الآخر مدنس… حوّل… عُلم!

اقرأ أيضاً: الشيخ والحرب.. (مع الاعتذار من همنغواي)

يستفزني أهل ملتي وجلدتي ورحمي يريدون لي ومني، أن أهدم بيتي الواسع وأتلف اشجار حديقتي وألوث بيئتي بيدي ولساني وقلبي وحلمي وذاكرتي، وأن أنام ملء عيني في كهف أعددته للبالي من الأثاث والكتب والملابس… ويعز عليّ أن أقف على رأسي، أستمسك… وأعتصم بوسطيتي واعتدالي وذاكرتي الوفاقية ونزعتي الاندماجية وصورة العيش المشترك التي علقتها في صدري قبل بداية الحروب، ورغبتي في تكريس المواطنة جامعاً للجميع.. ولكنهم لا يكفون عن إغرائي مرة، وتهديدي بالنفي مرة أخرى… وهكذا اعترف بأني وقعت عن ظهر جوادي أكثر من مرة، ومرة انكسر ضلعي، ومرة قلمي، ومرة ظهري، ومرة خاطري ومرة عيني ولم يعالجني أحد، وقال لي حكيم الحي الذي تعلم الحكمة في بيت الحاكم: هذه العذابات تطهير لبدنك وروحك من رجس الحرية وكبائر الديموقراطية وأدخلني في ثقب الإبرة، أو أدخل الإبرة في بؤبؤ عيني، فصارت عيني مثقوبة يخرج من ثقبها أسراب من البعوض وسائل بلون الصدأ ورائحة مياه الصرف.. وخرجت وسطيتي من خاصرتي على إيقاع صوت يشبه فحيح الأفاعي ظهيرة يوم تموزي يشبه أيام جهنم أو مجزرة صبرا وشاتيلا أو السبت الأسود أو المعادلات التقدمية للمجازر الانعزالية.
وبدلاً من أن أمانع وأعظ الناس بضرورة التمييز بين الدين والسياسة وضرورة الولاء الوطني من دون قطيعة أو عداء مع الآخرين إلا إسرائيل وواشنطن إذا بقيت منحازة لإسرائيل ضدنا… وجدتني في لحظة ضعف وخوف.. قلت فلأجرب الولاء والبراء.. فذقت طعم النفاق.. كان مراً.. كدت اختنق.. قال لي زميل قديم لا يشكو من قلة علم أو تقوى.. لا يشكو إلا من الفقر وخوف الجوع.. قال: بعد قليل يصبح طعم النفاق حلواً.. فاصبر، وادخل حيث أدخلك النفري في ثقب الإبرة وإذا مر الخيط فقطّعه.. قطّع حبل المودة والمغفرة.. ولا تحاول أن تغير منكراً إلا بالسيف.. أطلق لسانك مع سيفك أو وراءه وإياك واستعمال القلب.. أو العقل.
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا رجل اتبع المرسلين، لا تطلب العدل بالجور، ثق بأن من وثق بماء لم يظمأ.. أنسيت نهج البلاغة! والله لم أنس ولن أنسى.. ولتنسني يميني إن نسيت أني منذ بلغت سن التكليف الشرعي بالحلم وشرعت أصلي وأصوم تبين لي أن من تكاليفي الشرعية العبادية أن أكون في جماعتي حامياً لها محمياً بها.. ولكن الجماعة ليست معطى جامداً، إنها حقيقة سائلة، مرة تكون بحجم الطائفة ومرة بحجم العشيرة ومرة بحجم العائلة ومرة بحجم الحزب ومرة بحجم الحاكم.. وأوسع وأحلى ما تكون عندما تكون بحجم الوطن فيكون بإمكانها أن تحمي الفرادة من دون إلغاء الجماعة الأدنى.. ليس هناك خطر أبداً من الجماعة الواسعة على الجماعة الضيقة.. بل الخطر على الجماعة الضيقة والواسعة، إنما يأتي من ميل الجماعة الضيقة إلى المزيد من الضيق والتضييق.
هكذا عاودتني وسطيتي كما تعود العافية إلى المريض، أو كما يعود المسافر إلى الوطن، أو السجين إلى الحرية، او الخاطئ إلى التوبة، أو الموظف أو الحاكم الفاسد إلى الأمانة، أو الوطن من الفتنة إلى الوحدة. أو كما يعود رجل الدين من الدنيا إلى الدين.
-2-
ماذا كانت النتيجة؟ إني أكاد أفقد أعصابي وصوابي.. «لا في الشام عيدنا، ولا في دمر لحقنا العيد» وعلى الطريقة العراقية «لا حظيت برجيلها ولا خذت سيد علي».. لقد خسرت الغريب.. ولم أنفع الحبيب.. أي الآخر المختلف الذي إن أحببته كان لك الفضل في ذلك.. أما أن تحب قريبك.. ولدك أو والدك أو ابن ضيعتك.. فهذا أمر مفروغ منه.. علماً بأن الذي نشاهده من مظاهر الحب الديني أو المذهبي أو الحزبي ليس حباً.. ليس ديناً ولا وطنية.. إنه السياسة في لحظة اندكاكها في العصبية التي تصبح هي السياسة، فتسوس السياسي، ولا يسوسها السياسي.. بل يتغذى ويعيش على (سوسها) ولا أدري كيف أنفع الحبيب؟ أي المختلف الذي أحببته إذا قطعت مع القريب… ولا أدري كيف أفي القريب حقه إذا ما عاديت الذين يختلف معهم! عندما اعتراني شعور حاد بضرورة تقصير المسافة بيني وبين جماعتي حتى لا أختنق، وجدت أن المطلوب مني، أن لا أكون أنا، ما يعني أن الغيرية صارت مشروطة بإعدام الأنية! وكيف أكون فاعلاً وجودياً في الغير إذا ما كنت عدماً!! هكذا تحولنا العصبية إلى أشباح، إلىأصفار، إلى خشب مسندة!!
جماعتك إذا استبدت بها عصبيتها.. لا تقبل منك توبة إلا عن الصواب.. والجماعة الاخرى لا تقبلك لصوابك بل لخطئك.. إذنفمعنى وسطيتك أن تحتار.. وموتاً تموت.. تصبح حجراً يهمله البناؤون. ولكنك لن تكون حجر الزاوية.. لأن الزوايا حادة وأنت مدوّر! يا ربي… ماذا أفعل حتى أحافظ على وسطيتي وعشيرتي وجيراني من العشائر التي لي فيها أحباب ورفاق وأصهار وكنائن إلخ.. وكل يريدني أن أتعرى!! ها أنا قد تعريت.. ووقفت في ساحة الوطن عارياً.
فلماذا لا أرى أحداً ينظر إليّ! لا أحد يغريه عريي بالاستمتاع!! سألني ولدي الشقي: لماذا؟ ضحكت من أم رأسي إلى أخمص قدمي، فاحمرت عيناه ولمعتا بشرّ، ظناً بأني أسخر منه، فقلت له: لأنهم كلهم عراة وأنا آخر من نزعت ملابسي! قال: كلهم؟ قلت بلى، قال وأنا؟.. أرخيت عيني في صدري وقلت له: قم إلى المكتبة وابحث لك ولي.. عن كتب من الحجم الكبير لنغطي عوراتنا.. وبكى ولدي بكاء مراً… عندما اكتشف أن ثيابه لا تستره.
فقلت له: لا بأس.. صبرك علينا، لعل الجهود العربية الهادفة إلى التهدئة تنجح ولا نعود مضطرين للتعري والسفر عراة إلى بلاد عارية..
«هدأت صيحة الرجوعْ
ليس في عينيّ شيء من حياتي
غير أشباح حزينةْ
غير أن الشجر الباكي على أرض المدينةْ
عاشق يسكن قلبي ويغني أغنياتي: يا مرايا الضياع الطويلْ، غيري صورة القمرْ
أمس كنا على القمرْ، فرأيناه عارياً،
ورأيناه في الثيابْ.. وصعقنا من النظرْ»
أدونيس.
عاد ولدي موارياًسوءته بكتاب.. فقلت له: إن الكتاب هو الحل، فإما أن تقرأ أو تكتب وإلا فلا وطن ولا دولة ولا خبز ولا حرية ولا دنيا ولا آخرة. واقترح عليّ أن نوزع الفائض من مكتبتي على المواطنين الذين لا كتب لديهم، لنساعدهم على الستر وتجنب الفضيحة، وما يورث البذاءة وقلة الحياء.. فوافقت وقضيت أسبوعاً وأنا أفرز كتبي بين الضروري الذي قد لا يكون ضرورياً، وغير الضروري، فتوفر لي من غير الضروري ألف كتاب! هذا رقم كبير.. مع العلم أن علمي لم يزدد خلال عقدين من الزمان أكثر من عقدتين من عقد خنصر ابن سينا الذي بلغ ذروة المعرفة في السادسة عشرة من عمره، من دون انترنت، أو صفحات ثقافية في الجرائد اليومية، أو وزارات ثقافة تكافئ البطالة والضحالة. غير أن زوجتي، كان لها رأي آخر، قررت أن نحتفظ بالكتب للأولاد والأحفاد ونوزعها عليهم بالسوية بين البنات والصبيان الذين يستخدمون الأقراص المجمدة، وقد انبسطت كثيراً لأن هذا الحرص خفف من عداوة زوجتي للكتب التي لا تعاديها إلا عندما أستعملها ضدها.. ضد زوجتي.. فتمقتها وتمقتني.. إلىان ييسر الله الأمور وتعود المياه إلى مجاريها.. إن كان هناك مجار للماء بين الناس، على أساس أن التجزئة عندما تبدأ في مكان ديني أو سياسي لا تتوقف عنده ولا تجففه وحده، ينقسم حتى الواحد على ذاته، وينشف. ولا يغترَّن أحد ببعض الرطوبة ومظاهر الوحدة الذاتية أو الدينية أو المذهبية أو الحزبية… إنها خداعة وسرعان ما تتحول إلى تفكك وصراع دام.. ولو.. ألا نتذكر ما حصل بعد البوسطة.. حتى الآن!! ألم يجف ماء الحياء من الوجوه! غير أن نصري الصايغ طمع بالكتب لمكتبة مشغرة بلدته التي يتخيل أنها عاصمة بديلة.. بعدما كفت بيروت عن عصمتها وعاصميتها، هل كفت؟ أم نحن الذين كففنا عنها؟ يا عيب الشوم!! وأنا أعرف أن التعدد الجميل في مشغرة قد أصبح فصالاً.

اقرأ أيضاً: نفوذ إيران استيلائي بلا شراكة

أما الحاج حامد فعرض عليّ أمرين فإما التبرع وإما البيع بالثمن الذي أحدده، وشعرت أنه ليس بحاجة إلى الكتب، بل ربما كان بحاجة إليّ بالمعنى الروحي والعاطفي، بعد قطيعة نسبية ناعمة بيننا أعقبت سنوات من التعاون الحميم والكريم في شأن العراق. الذي كنت آمل أن يحل مشكلتي بوحدته ودولته فأصبح أحد مشاكلي.. وجعلني أصرخ: إذن أين اذهب؟ هذه المرة لن أذهب إلى أي مكان ولا حتى البحرين. لأن للبنان الآمن والمضطرب معنى لا تجده في بلاد الله الواسعة، التي تضيق عليك وعنك ويبدو لك فيها لبنان واسعاً كجنة عرضها كعرض السموات والأرض، ولكنها مقبرة للأخيار والأشرار معاً وأخشى ما أخشاه أن يصبح معنى العيش المشترك هو العيش المشترك بين الأشرار والأخيار ولصالح الأشرار فقط.. وإذا سلم الأخيار ولو جسدياً مع ذلك فإنه يكفي، وعلى هذا الأساس سوف أبقى ناشطاً في مجالات الحوار الذي كلما تقدمنا فيه وجدنا أن الشقاق قد سبقنا.. ومع ذلك فإننا نشعر بأننا ضرورة وطنية.. احتياطي ذهبي.. وسنبقى نحلم بالعيش المشترك.. وكلما ارتكبت جماعة حماقة ضد جماعة أخرى، فلن ندينها، خوفاً، ولكننا سوف نتنصل منها، ولسوف نتنصل كثيراً وإلى آخر العمر. لأن تاريخنا الحديث حافل وواعد بتبادل الحماقات. سأصلي لله شكراً على التعدد والهوية المركبة والاختلاف وضرورته للمعرفة والإبداع والحب وتوسيع المشترك الجامع فضاء للروح وحديقة خضراء للحوار والهواء النقي وأرجوه أن لا يأخذني إلى الجنة وحدي.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
لقاء تشاوري في جمعية ايليا حول الإنتخابات النيابية
التالي
فضيحة تلاحق جيم كاري: هل انتحرت وايت لأجله؟