خطايا مسعود وكارليس التي قد لا تغتفر

أليست وظيفة الزعيم أن يحسن قراءة ما لا يدركه العامة؟ ألم يمتلك مسعود وكارليس المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية التي تتيح أو تمنع الذهاب بعيدا في خياراتهما؟

لا يمكن لأي مراقب إلا أن يرى في إصرار رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني على تنظيم الاستفتاء الأخير لاستقلال الإقليم خطوة مدروسة تتكئ على معطيات ذاتية ودولية قد لا يدركها الجميع. هكذا فهم البعض قفزة البارزاني واعتبروا أنها ليست مجرد قفز في فراغ، بل إن شبكة أمان ستظهر فجأة لتلتقط المغامرة الكردية الجديدة التي لطالما أفشلتها محارق التاريخ والجغرافيا.

ومع ذلك ظهر أن رجل كردستان القوي أفاض في التحاذق على قواعد عالم اليوم، وبدا أيضا أن أقرب المقربين للبارزاني لم يكن مقتنعا بأن استقلال الإقليم ليتحوّل إلى دولة بات إلى هذه الدرجة ممكنا، على الرغم من غياب صارخ لأي أعراض توحي بذلك.

قبل أسابيع نظّم إقليم كاتالونيا في إسبانيا استفتاء للاستقلال عن مدريد. خيّل لرئيس الإقليم، كارليس بوتشديمون، أن الظروف باتت سانحة لتمرير ما لم يمر تاريخيا منذ تشكل إسبانيا الحديثة. وقد يجوز أن البريكست البريطاني ورواج التيارات الأوروبية القومية والمخاض الذي يعاني منه الاتحاد الأوروبي عوامل أوحت للانفصاليين الكاتالونيبن بأن ساعتهم المنتظرة قد أينعت وحان قطافها.

إقرأ أيضاً: مأزق إقليم كردستان؟

ارتبك المراقبون في كاتالونيا، كما في كردستان، مما يُرتكب في الإقليمين من خارج أي سياق منطقي واعد. غير أنه بعد ذلك أعاد نفس المراقبين التموضع وفق قواعد الممكن والمقبول وعدم الوقوع بسهولة فريسة أحلام ليست إلا أوهاما. زيّن الاستفتاءان إمكانات تشكّل منظومات سياسية مستحدثة تنبت كالأورام على هامش علل خطيرة، إحداها يمثلها ظهور تنظيم داعش شرقا، والأخرى تشي بتصدع جدران البناء الغربي من خلال تشققات أكدها بريكست لندن وصعود دونالد ترامب إلى قمة الهرم في واشنطن.

كان يكفي لمدريد أن تتحلى بحكمة الهدوء بعد يوم استفتـاء كاتالونيا العاصف العنيف، فلا تكثر من الكلام وتتحصن بنصوص القانون والدستور وتترك للكاتالونيين هامش الجدل حول مصير إقليمهم، حتى يطفو الانقسام داخل المجتمع الكاتالوني بحيث أن الوحدويين أظهروا أنيابا تهدد بحرب أهلية داخلية. وفيما بدا أن عتاة الانفصال ممسكون بالموقف ومسيطرون على اندفاعتهم نحو إعلان الاستقلال، استعادت مدريد زمام المبادرة ملوّحة بتفعيل المادة 155 من الدستور التي تسقط عن كاتالونيا حكمها الذاتي دفاعا عن وحدة إسبانيا.

لم يحصل الأكراد على دولتهم في أي بقعة تواجدوا بها في المنطقة لأسباب عديدة. رفضت العواصم الكبرى تاريخيا تشريع قيام دول ودويلات على أساس العرق والدين والطائفة، حين راح رسامو الخرائط يعيدون ترتيب التـركة العثمانية. سقطت مشاريع قيـام دولة درزية أو علويـة في سوريا، أو قيام أخرى مسيحية في لبنان. وحتى حين نجح الأكراد بمهاباد في إعلان دولة لهم في إيران عام 1946، سرعان ما قرر العالم غير ذلك فأجهض الدولة بعد أشهر وأعدم زعيمها.

لكن أمر منع قيام كيان كردي مستقل لم يكن فقط بسبب غياب السقف الدولي، بل في ما بعد بسبب معارضة شرسة من حكومات العراق وسوريا وتركيا وإيران. وإذا ما اختلفت هذه الدول في ما بينها على نحو لم يخلُ من صدام، فإنها، في كل مرة، تواطأت بشكل عجائبي على اغتيال “الحلم الكردي” وتصويب السلوك الكردي بما يتناسب مع رؤى الدول الأربع ومصالحها.

لا شيء تغيّر في هذا العالم يتيح تحديثا لدفتر الشروط الذي قد يبيح إضافة كاتالونيا وكردستان كدولتين مستقلتين إلى منظمة الأمم المتحدة. صمتت أوروبا بخبثٍ فظن الكاتالونيون أنه رضى، حتى أيقنوا أن في الصمت سحبا لأي شرعية أممية لحراك انفصالي يُسيل لعاب انفصاليي فرنسا والدانمارك ورومانيا وبريطانيا وإيطاليا، إلخ. وها هو العالم يصفق بصمت لتدابير عقابية تتخذها بغداد وأنقرة وطهران ضد إقليم كردستان، مؤكدا نزوعا محافظا لا يحب انقلابا في النظام العالمي، خصوصا إذا ما أتى من خارج تفاهمات الدول الكبرى في العالم.

فشل استفتاء أسكتلندا قبل سنوات (2014) رغم أنه كان دستوريا ترعاه الحكومة المركزية في لندن. وفشل استفتاءا كردستان وكاتالونيا اللذان تم إجراؤهما من خارج الدستور متجاوزا لحكومتي بغداد ومدريد. وفيما عزز الاستفتاء الدستوري الأسكتلندي من مصداقية الحزب الوطني الحاكم بزعامة نيكولا ستيرجون، فإن المغامرة غير الدستورية سددت صفعة موجعة لفكرة الانفصال بصفة أنها “حلم قومي” جامع في كردستان وكاتالونيا.

لن يكون مسعود البارزاني وكارليس بوتشديمون زعيمين يدخلان التاريخ في ذاكرة شعبيهما. أظهر الاستفتاءان ركاكة فكرة الانفصال لدى الرأي العام، كما أظهرا وقعهما السلبي المدمر على وحدة الشعبين. لم يعد الاستقلال طموحا وطنيا بل أداة سياسية يستخدمها حزب السلطة من أجل أغراض تتعلق بالسياسة المحلية وعلاقة هذا الحزب أو ذاك، أو هذا الزعيم أو ذاك بشروط السلطة. على ذلك خرج الانقسام الكاتالوني إلى الشارع، فيما أظهر “سقوط كركوك” المدوي البون الشاسع، والشاسع جدا، الذي يفصل أهل أربيل عن أهل السليمانية، وبدا أن للأكراد مع بلدان المنطقة مصالح متعددة متناقضة لا تلتقي ولا تنتج وحدة ضرورية لأي استقلال.

ليس من السهل هذه الأيام استشراف مستقبل العالم. تعيش العواصم الكبرى صحوة متأخرة لروسيا تعيد محاسبة العالم أجمع على “إثم” سقوط الإمبراطورية السوفياتية.

فشل الاستفتاءان. قد يدفع بوتشديمون ثمن ذلك في كاتالونيا. ولا يبدو أن شيئا كبيرا قد يحدث في كردستان، فالأمر قد لا يعدو كونه يوما آخر يلي يوما آخر
بالمقابل تبدو الولايات المتحدة عاجزة عن قيادة هذا العالم الذي احتكرت بسهولة زعامته منذ انـدثار السوفيات وغياب موسكو عن المشهد الأول في تسعينات القرن الماضي، وتواري بكين خلف أجندات لا تحتاج إلى ضجيج. على هذا تتم إعادة إنتاج مشهد الشرق الأوسط على نحو دراماتيكي ودموي لا يظهر فيه بجلاء الخيط الأسود من الخيط الأبيض. وعلى هذا أيضا تتحسس أوروبا سبلها وهي التي ترتجل كل يوم وضعا جديدا يبعد الرعاية الأميركية التقليدية عنها، على الأقل بالنسخة التي يفتخر دونالد ترامب بها، فيما تواجه بارتباك عودة “فلاديمير الأحمر” ليدق حدائق عروشها.

إقرأ أيضاً: بعد كردستان وكاتالونيا.. هل تشهد اليمن انفصالاً جديداً؟

من داخل هذا المشهد تطل شراسة هذا العالم في رفض المغامرات الانفصالية التي تنبت، أو قد تنبت، في أي مكان في العالم.كانت تلك المحاولات تندرج في السابق ضمن سياق الحرب الباردة بصفتها أسلحة في النزال بين الجبارين، لكنها في هذا الزمن تفقد وظيفتها في صراع الأمم، وتتقدم بصفتها نشازا زائدا على قواعد يجتمع عليها الخصوم الكبار رغم خصومتهم.

لكن أسئلة ستدور حول مسؤولية زعماء الانفصال في الحالتين. أليست وظيفة الزعيم أن يحسن قراءة ما لا يدركه العامة؟ ألم يمتلك الرجلان المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية التي تتيح أو تمنع الذهاب بعيدا في خياراتهما؟ ثم ألن يعتبر العالم أن الشخصيتين باتتا تشكلان خطرا على الاستقرار في مناطق نفوذهما، وبالتالي على الفضاءات المحيطة والمرتبطة بكردستان شرقا وكاتالونيا غربا؟

هددت مدريد كاتالونيا بالتخلي عن مكتسبها المستقل كإقليم داخل المملكة الإسبانية. وبين ليلة وضحاها علّقت بغداد سيادة أربيل على المعابر، وأعادت الإمساك بكركوك ولمحت إلى تصدير نفط المحافظة مباشرة من دون المرور بإقليم كردستان، وربما قد تذهب، احترازيا، إلى إعادة النظر بالمكتسبات الاستقلالية التي أباحها دستور ما بعد غزو عام 2003. أطاحت أنقرة بتراكم من العلاقات مع كردستان، وأعادت تقزيم الإقليم إلى منطقة عراقية يحكمها الحاكم في بغداد.

فشل الاستفتاءان. قد يدفع بوتشديمون ثمن ذلك في كاتالونيا. ولا يبدو أن شيئا كبيرا قد يحدث في كردستان، فالأمر قد لا يعدو كونه يوما آخر يلي يوما آخر. دعا رئيس برلمان الإقليم البارزاني إلى التنحي، بيد أن لا مؤشرات كبرى توحي بتوقف البارزانية والطالبانية عن الإمساك بيوميات الأكراد ومستقبلهم.

السابق
ترامب يستثني «الحشد الشعبي» من الحملة على إيران
التالي
هزيمة كركوك لم تطو المشروع الكردي