الإسقاطات الكبرى في زمن التحولات الكبرى!

رضوان السيد

تكاثرت الإسقاطات والسقوطات في سياسات لبنان الداخلية والخارجية، في زمن التحولات الكبرى في المنطقة. وكان آخِرها قبل أيام مسألة الانتخابات في اليونيسكو. كان لدى لبنان مرشح بل مرشحة، لكنها انسحبت بعد الدورة الثالثة وبقيت ثلاثة خيارات: المرشح القطري، والمرشحة المصرية، والمرشحة الفرنسية. انسحبت الصين بأصواتها الخمسة لصالح مصر وشردت أصوات لبنان الأربعة إلى أن وجدت نفسها في تقديري ومعلوماتي في حضن المرشح القطري في الدورة الرابعة. لكنْ في الدورة الأخيرة ما بقي غير القطري والفرنسية. فلمن صوَّت لبنان؟ الوزير المشنوق لامَ وزير الخارجية اللبناني واعتذر من مصر. وهذا يعني أنه حتى في الدورتين الثالثة والرابعة صوَّت لبنان لقطر. الوزير باسيل هجم على المشنوق وزعم أن قراره (السري) بالتصويت كان بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ورئيس الجمهورية. أما أوساط رئيس الحكومة فتمسّكت بسرّية القرار، واعتبرت أنّ المشنوق أخطأ في الكشف والاتهام، وللمجتهد المخطئ أجرٌ واحد!

كل مرة يحصل فيه سقوطٌ متعمد، يجري الاحتيال عليه بالغمغمات، والتسترات اللفظية؛ وإن لم ينفع ذلك يقال لنا إن رئيس الحكومة كان موافقاً!

وباستثناء تذمرات الوزير المشنوق، وأحياناً الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان، في الشهور الأخيرة؛ فإنّ أحداً لا يسأل عن مصلحة لبنان في هذا القرار أو ذاك، أو في هذا الموقف أو ذاك. كان رئيس الحكومة قبل أيام بفرنسا، واتفق مع الفرنسيين على مؤتمرات واجتماعات اقتصادية لصالح دعم لبنان في مسائل اقتصادية، وأُخرى تتعلق باللاجئين. والآن صوَّت لبنان في الدورة الرابعة ضد المرشحة الفرنسية والتي صارت أمينة عامة لليونيسكو؛ فماذا سيقول الفرنسيون، ولماذا سيتحمسون لتنظيم ما لا يُنظَّم من دون استعداداتٍ كثيرة.

إقرأ أيضاً: قبور اللبنانيين و«مناماتهم الوِحْشَة»
عندما كان رفيق الحريري، رحمه الله، يُجري بالاتفاق مع شيراك باريس – 1، 2، 3 كان العالم كلُّه – وفي الطليعة المملكة – مُقْبلاً على مساعدة لبنان، وإعادة إعماره، فأين هم العرب؟ بل وأين هم الفرنسيون في السياق الذي نتحدث عنه؟!

ولندع مسألة اليونيسكو، ولنذهب باتجاه المسائل والإسقاطات الكبرى بالفعل. لنذهب إلى موقف رئيس الجمهورية خلال زيارته لمصر، وهو الموقف الذي تكرر بصيغة أُخرى في كلامه أمام الأمم المتحدة. قال الرئيس إنّ لبنان محتاج إلى الحزب (حزب الله) وقواته في جنوب لبنان، لأنّ الجيش لا يزال ضعيفاً. وهذا مُناقضٌ تماماً لتعهد لبنان بمقتضى القرار الدولي 1701، الذي أنهى الحرب عام 2006 بأن لا تكون هناك قوات في جنوب الليطاني غير الجيش والقوات الدولية. وهي التي حفظت سلام الجنوب منذ العام 2006 وحتى الآن. وقد كان الدوليون يشْكون من اختراقات الطيران الإسرائيلي، فصار عليهم أن يردُّوا على رئيس الجمهورية أيضاً، لأنه خالف القرار الدولي، ولأنه اعترف عملياً بوجود ميليشيا «حزب الله» في الجنوب. وقد بادر الدوليون إلى معاقبة لبنان بسبب عدم حرصه على تنفيذ القرارات الدولية مع أنها مصلحة رئيسية له، فخفّضوا الإنفاق والعديد بمقدار 30 في المائة دون أن يردع ذلك المسؤولين اللبنانيين، الذين يخطبون كل الوقت بشأن الحرص على الإنفاذ، دون أن يذكر أحدٌ بالطبع أنّ الإخلال من الجانب اللبناني بالقرار الدولي لا يقتصر على «حزب الله»، بل ويصل إلى أكبر رجالات الدولة فيه!

أما الفضيحة الأُخرى والأكبر فهي ما جرى فيما صار يُعرف بحرب الجرود. فقد اعتبر «حزب الله» أنه انتصر فيما بين القلمون وحمص، وأنه يريد تتويج أعماله المجيدة (ومن ضمنها احتلال بيروت عام 2008)، بإظهار أنه هو الذي انتصر على الإرهاب، ليس في سوريا فقط؛ بل وفي لبنان أيضاً. وقد أراد من الجيش أن يساعده أو أن تجري العملية من جانب الجيش تحت إشرافه كالعادة، وهو الذي حصل مراراً من قبل، وسواء في الشمال أو في صيدا والجنوب. المهم لم يقبل الجيش بضغط من الأميركيين.

وما استمر القتال مع «النصرة» في جبال عرسال غير ساعات، ثم أُعلن عن استسلام «النصرة»، وترحيل المسلَّحين وعائلاتهم إلى إدلب بالباصات المكيَّفة. عندها تقدمت قيادة الجيش، واجتمع مجلس الدفاع الأعلى برئاسة رئيس الجمهورية، وأُعلن أنّ لبنان جزء من التحالف الدولي ضد الإرهاب، وأنّ الجيش سيخوض معركة لإخراج «داعش» الذي قتل جنوداً لبنانيين – من أرض لبنان. إنما بعد قصوفات لبنانية وطيران مقاتل، لكي يتقدم الجيش بعد ذلك، خطب نصر الله وأمر بوقف إطلاق النار، وإجراء اتفاق مع «داعش» والحزب والجيش السوري ولبنان ليجري بمقتضاه سحب المسلحين، وإرشاد الجيش إلى مكان دفن العسكريين الشهداء! وهكذا وبعد ساعات على خطاب حسن نصر الله، أمر رئيس الجمهورية الجيش بوقف النار، وتكليف مدير الأمن العام بالتفاوُض عن لبنان، ولكي يُثبتَ رئيس الحكومة أنه موافق، استدعى مدير الأمن العام، وحياه وكلَّفه تكليفاً متأخراً بالمضي في المهمة الجليلة، والتي اقتصرت في الحقيقة على سحب أشلاء الجنود المقتولين، دون أن يُشاك مسلحو «داعش» بشوكة، ولله الحمد!

وعلى هول ما حدث، هناك أمرٌ هائلٌ يجري منذ شهور. ويتمثل في الحملة الشعواء على اللاجئين السوريين من جانب رئيس الجمهورية وصهره. والمقصود: ضرورة استعادة العلاقات مع النظام السوري بحجة الفوائد الكثيرة وفي مقدمتها التفاوض على اللاجئين! ومنذ أكثر من شهرين يمضي وزراء عونيون وأمليون ونصراويون وقوميون سوريون إلى سوريا للحديث حصراً مع مدير المخابرات السورية، وليس عن اللاجئين، بالتأكيد. وتأخر رد رئيس الحكومة كثيراً إلى أن قال أخيراً إنه لا يريد علاقات مع نظام بشار لا من قريب ولا من بعيد!

وقد كان التدخل المتأخر بعد إخراج «سيئ» لزيارة وزيري «حزب الله» وحركة أمل واعتراض «خجول» على لقاء المعلّم – باسيل في نيويورك.
ولأن فوق كل ذي علم عليماً أبلغتنا مرة أخرى أوساط لرئيس الحكومة أنّ القضاة الأربعة الذين التزموا الحق والشجاعة والعدل في محكمة اغتيال الحريري الوالد قد تمّ استيداعهم في التشكيلات القضائية الأخيرة بحجة أنهم مسيحيون ولا ينتمون إلى تيار المستقبل. وأنا أراهن أن وزير العدل أعفى القضاة الشجعان انتقاماً لوقوفهم مع المحكمة وقد كان الوزير نفسه منهمكاً طوال سنوات في إلغاء المحكمة الدولية، وهو وكيل الدفاع عن المتهمين من الحزب!

إقرأ أيضاً: روائح كريهة في لبنان
لذلك ليس غريباً أن تقتصر فضائل وزير الخارجية اللبناني على دفع اللبنانيين إلى الكراهية والعنف ضد اللاجئين. بل هو سائرٌ منذ سنوات في سياسات فصل المسيحيين اللبنانيين عن المسلمين اللبنانيين من خلال اتهام السنة على وجه الخصوص بالعنف والإرهاب، ثم من خلال تشريع قانون للانتخاب مثاله الأعلى أن لا يصوِّت للمرشح المسيحي غير مسيحيين، ليكون تمثيله حقيقياً! وقد تنبأ قبل أسابيع بنبوءة للمسيحيين المهاجرين بالولايات المتحدة، قال إنه أمَّنَ مستقبلهم حتى العام 2053، نعم: 2053، من خلال قانون الانتخاب الجديد، وهو لا يدري ماذا يحصل بعد ذلك!

يمكن أن يقال الرجل غير سليم العقل، أو إنه ليس سياسياً تصالحياً أو ما شابه. لكننا من سنوات نسمع ونشهد من طيفٍ من السياسيين المسيحيين من حول الجنرال ثم الرئيس عون كلاماً عن تحالف الأقليات، وعن الحماية الإيرانية للمسيحيين من خلال الحزب والأسد (!). وحمايتهم ممن؟ من المسلمين السنة بالطبع!

إنّ الإسقاطات الكبرى في السياسات الكبرى بالداخل وتجاه الخارج، ليست مصادفة. وهي تستهدف بنى الدولة ودستورها وسياساتها تجاه المواطنين، والانتماء العربي للبنان، وتارة باسم الخصوصية المسيحية، وتارة أخرى باسم المقاومة والممانعة! ويا للعرب!

السابق
قبور اللبنانيين و«مناماتهم الوِحْشَة»
التالي
لبنان «غير المحبط»