أمتحُ لإيماني ماءً

بدل البحث المتخصص، ألجأني قصر الفرصة، إلى شهادة لا فرادة فيها، هي شهادة العامة من أهلنا.
إنني أعدّد مكوّناتي، فأرى الدين مضارعاً لكياني وكينونتي، هي إذن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومن دونه، الدين او الإيمان، أمسي كمّاً محايداً بارداً حتى العدم.
هذه الفطرة، يمكن ان تصون ذاتها بذاتها، لو أُتيح لي أن أبقى كائناً حيّاً طبيعيّاً، اما ان أحيا، متسامياً على معرفة وعناء وحلم، من بشريتي إلى إنسانيتي، ودوماً، فذلك يقتضي ان أفارق الطبيعة الأم نحواً من مفارقة، من غير هجر او قلىً، أبقى محكوماً بالرحم، مسكونا بذاكرة اللبن، لأعمّر هذا الكون، وأستقبل الآتين في الأجيال محمّلين بالسؤال، إذن عليّ ان أعرف ثم أعرف، ان أحوّل إكسير الإيمان الى معرفة، تصون الفطرة وترسّخ الإيمان، تجلوه إذا ما غبرته الأيام وجهالاتها والنفس الأمّارة بالسوء ونزعاتها… فإلى أين أذهب؟ من أي بئر غير معطّلة أمنح لإيماني ماء؟ من أي فضاء أغري سحابة أن تمطر لتروي عطشي؟
بتركيز شديد. أذهب الى اللغة، التي أتتني فيما أتتني شعراً، كان الإنشاد شرطه، أي الصوت، أي الإيقاع، أي الأذن، أي الجرس، أي النغمة والنأمة.. حتى قال ابن خلدون: بأن السمع هو «أب للملكات اللسانية». وأرى الخنساء تتزين وترمق أعطافها إذ تقول شعرها، تتوخى إيصاله بالحركة، تقول روحها في جسدها، وجسدها في روحها، كما يقول أو يقول لنا محمد رُفعت بالقرآن، يخشى فنخشى ويخشع فنخشع، والشاعر العربي، الذي أحسن الإسماع، يسمع ليُسمع ويُسمع ليَسمع، أعشى قيس، سُمّي صناجة العرب.

اقرأ أيضاً: هاني فحص مثقف ثائر رسخ علامات الشيعة العرب

ثم أتتني هذه اللغة قرآناً، سلاماً قولاً من رب رحيم، يقول الفكرة من دون أن يُصان المشهد، وحركة عناصره المتعددة المؤتلفة على نسق من الانسجام والعدل. ومن المشهد الى الفطرة، ومن الفطرة إلى المشهد، حتى يستوي النص القرآني، برسمه وجرسه، مثابة لأهل التوحيد، يتوحدون به وفيه ويوحّدون.
وأقرأ: {الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة، فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة، زيتونة، لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله نوره من يشاء} .
لماذا، المثل القرآني، والإنجيلي أيضاً، يأتي هكذا مركّباً، على إيقاع في النظم يحاكي أو يحكي حركة الداخل بالنص؟ وعندما تقوله تقول حالك، فإن تبدلت حالك، لم يفارقها وقالها قولاً جديداً، ومن حال إلى حال، تتجدد الأحوال، ويجري القرآن مجرى الشمس والقمر، والليل والنهار.
{واذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} بالاستماع أو السماع، تتحرر اللحظة القرآنية من المباشرة، وفي القران تقديم شبه دائم للسمع بصيغة الفرد على الأبصار بصيغة الجمع، كأن السمع مظنة وحدة، وكأن الأبصار مظنة تعدّد.. وإذا ما كانت البصيرة، لا البصر، هي المآل والمعيار، فإن البوابة الاولى والمثلى هي الأذن، والعيون نوافذ وكوىً، من هنا نحن معنيون ومأمورون بغض الأبصار عن بعض الجمال، ليذهب المشهد في البصيرة، ولا يقيم على سطح البصر، ومن هنا النظرة الأولى إلى المرأة الأخرى الجميلة لك، والثانية للشيطان، أما الأذن، فإنك لا تقفلها إلا على الفحش والهجر من القول والناشز من النغم، على الباطل، اي على القبيح.
أن تجوّد القرآن، يعني أن تجيد وتجدد وتجوّد وتجدد ذاتك به، نفْساً ونفَساً وروحاً وقلباً وعقلاً ولساناً ونُهىً وحجىً إلى جوارحك، إلى كل مساحات الجسد العامر بالروح، والروح المعنّاة بالجسد.. تستيقظ الروح على خصب التوحيد وحيوية الحوار، الذاتي والغيري معاً، ويطيع الجسد، يتروّح الجسد.. وتجوّد على معايير وقراءات، وقواعد منها الصارم كالقانون، حتى يستوي العام الفني ضابطا للخاص، ومنها المرن الذي يتيح إبداعاً وامتيازاً ومواكبة لحركة الواحد على المتكثر والمتكثر على الواحد، انتهاء الى الواحد، أحداً فرداً صمداً حياً قيوماً أبداً.

اقرأ أيضاً: أوصي الشباب بـ«الحب»

أليس إلا لأن التطلب الفني تكوين عضوي؟ مشتق من الإيمان، يجري إليه، يتواصلان تواصل الحرية بالضرورة، والثابت بالمتحول، والطبيعي بالروحاني؟ إذن فالحرية شرط الضرورة، فلندعْ أهل الإيمان والذوق، والرؤية والحق والحقيقة، يقيمون في الطريقة مشتاقين إلى الحقيقة، يراودون الحق والحقيقة تواقين إلى الطريقة، ولتقم الشريعة نهجاً لا قانوناً ضيق المسالك نهجاً يتيح حرية السلوك والوصول والإقامة على الحق والحركة بين الحقائق. على أننا جميعاً مشدودون إلى قطب الأقطاب، وإلى غاية الغايات ومنتهى النهايات، الذي كان عرشه على الماء، وللماء حركة أو حراك في خلال الهواء، فهل نسمع؟ وفي الماء موج موصول بالأعماق، وفيه زبد يذهب جفاء… ويبقى لنا من البحر أبحره ومقاماته، مقاماتنا فيه.. بين الحجاز ونهاوند.. للقلب بيان.. يبين القلب على صوان الأذن مبيت الوسنان، فان نام ذهب في المنام الى أقصى اليقظة.. الى الذي {لا تأخذه سنّة ولا نوم} قال الفرزدق للشاعر عبّاد العنبري: «إنشادك يزين الشعر في فهمي»إذن عندما تسمع إنشاداًتنشد حقّاً.. تنشد الحق.. «اللهم أرِنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه».

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
«إصلاح» العراق لمنع الانفصال
التالي
سبب إقالة المقدم سوزان الحاج لايك على تويتر!