«إصلاح» العراق لمنع الانفصال

لم تمنع النداءات والمناشدات الإقليمية والدولية سلطات اقليم كردستان العراق من إجراء الاستفتاء في الاقليم في 25 سبتمبر الماضي، وهو ما أثار علامات استفهام حول المصدر، الذي يستمد منه الاقليم قوته في تحدّي كل هذه المواقف الاقليمية والدولية المؤثرة، في إشارة مبطّنة الى مساندة أميركية وغربية غير معلنة لهذا الاستفتاء. أمّا وقد تمّ الاستفتاء في جميع الاحوال، فانّ التساؤلات تذهب الان باتجاه ماهية الخطوة القادمة بالنسبة الى الإقليم بالإضافة الى رد فعل كل من تركيا وايران وحكومة بغداد المركزية.
ثمة ما يكفي من دلائل على انّ معركة ما بعد الاستفتاء لن تكون سهلة لأي من الأطراف. الجانب الكردي سيتسلّح بالنتائج لتعزيز موقفه في حين ستواصل الأطراف الأخرى اجراءاتها العقابية ولهجتها التصعيدية اذا لم يخضع الإقليم ويتراجع عن نيّته الانفصال لاحقا عن العراق.
الدافع الحقيقي لإجراء الاستفتاء في هذا التوقيت وسقف المطالب الكردية هو ما سيحسم الجدل ويرجح كفة التوجهات المقبلة باتجاه المعركة السياسية او ربما العسكرية.

اقرأ أيضاً: تحولات حماس ومصر في المصالحة الفلسطينية

اذا ما سلّمنا جدلاً بأنّ الدوافع الرئيسية لإجراء الاستفتاء تنبع من حاجة مسعود البرزاني الى تجديد شرعيته السياسية داخلياً والى تجاوز الاقليم بعض التحدّيات التي كانت تهدد وضعه السياسي والاقتصادي–وهذا هو الأرجح-، فان حل المشكل بالطرق الدبلوماسية ودون اللجوء الى استخدام القوة أو التصعيد العسكري قد يكون ممكناً.
هذا التشخيص يفترض انّ البرزاني يبحث عن مصلحة سياسية وليس رجلاً انتحارياً أو استعراضياً، إذ انّ مواجهة تركيا وإيران وحكومة بغداد المركزية في آنٍ معاً يعتبر بمنزلة انتحار، بغض النظر عن طبيعة الحسابات الكرديّة، خاصة انّ أنقرة وطهران مستعدّتان للمخاطرة بكل شيء اذا ما تعلّق الامر بمصيرهما ووحدة أراضيهما، ولا شك في انّ تداعيات مثل هذا الأمر لن تطول البرزاني في هذه الحالة، وإنما الإقليم الكردي برمّته.
في مثل هذا الوضع يصبح من المنطقي افتراض أنّ البرزاني سيسعى الى الحوار والتفاوض بدلاً من المواجهة والتحدي. وقد صدر عنه بالفعل ما يشي بذلك خلال الأيام القليلة الماضية، لكنّه سيسعى ـــ كذلك ـــ بالتأكيد الى التسلّح بنتائج الاستفتاء للدخول في مفاوضات من هذا النوع مع حكومة بغداد، من أجل تقوية موقعه والحصول على مزيد من المكاسب.

مسؤولية حكومة بغداد
من مصلحة جميع الاطراف داخل العراق وخارجه ان يتم الدفع باتجاه حصول مفاوضات حقيقية، مع الأخذ بعين الاعتبار انّ حكومة بغداد كانت ولا تزال مسؤولة عن كثير من الكوارث التي حلّت بالعراقيين بعد عام 2003، لا سيما حكومة نوري المالكي السابقة.
اذا ما ارادت الأطراف الاقليمية والمجتمع الدولي منع تفكك العراق وانهياره وإجبار الإقليم على البقاء داخل العراق الموحّد، فهذا يعني انّ على عاتقها مسؤوليات لناحية ضمان ان تقوم الحكومة العراقية المركزية بتنفيذ ما عليها من التزامات بموجب الدستور بالإضافة الى الالتزامات التي كانت قد قطعتها قبيل اطلاق الحملة الدولية ضد «داعش».
تنفيذ هذه التعهّدات من شأنه ان يحافظ على وحدة وتماسك العراق ليس جغرافيا فحسب، وإنما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، ومن دون تحقيقها يتعذّر على المكوّنات العراقية التعايش خاصّة بعد التهميش والاقصاء المتعمّد للسنّة لسنوات طويلة، والتدمير الممنهج لمناطقهم وزجّ أبنائهم في السجون او دفعهم للارهاب، ونهب ثروات العراق وانشاء الميليشيات الطائفية المسلحة والتطبيق الاستنسابي للدستور.
الدور الأساسي في هذا المضمار يقع على ايران والولايات المتّحدة بصفتيهما صاحبتي أكبر نفوذ على الحكومة المركزية في بغداد. لقد تنصّلت الحكومات العراقية السابقة لمدة طويلة من تنفيذ العديد من الوعود التي قطعتها، وقد آن الاوان لإنهاء ذلك. قد يشكّل الموضوع الكردي هنا فرصة ثمينة لممارسة الضغوط على الحكومة المركزية لتغيّر نهجها وسلوكها بشكل جذري، ومن المفيد في هذا السياق أن تفهم ايران أنّها اذا ارادت منع انفصال شمال العراق والا ينعكس ذلك على أكراد إيران فعليها ان تصلح ما افسدته داخل العراق وان يتم الاتفاق على منع صعود شخصيات طائفية لرئاسة الحكومة المقبلة.

المتاجرة بالمظلوميّة
في المقابل، يجب ألا ننسى انّ السياسيين الأكراد كانوا قد ساهموا في مرحلة من المراحل في خلق بعض المشاكل الحقيقية في عراق اليوم، لا سيما عندما تحالفوا مع القيادات الشيعية بعد الاحتلال الاميركي مباشرة قبل ان يعودوا ويصطدموا مع بعض لاحقاً إثر الخلاف بينهما على حجم «الكعكة»، التي تمّ تقاسمها. علينا ألا ننسى أنّ التحالف الكردي ـــ الشيعي حينها أدى الى ترسيخ مشروع المحاصصة في العراق والى تشريعه وعزل السنّة العرب، وقد كان ولا يزال لهذا الأمر تداعياته الكارثية على العراق.
من هذا المنطلق، على السياسيين الأكراد الاقلاع عن المتاجرة بالمظلوميّة التي تعرضوا لها سابقا في معرض التوظيف من أجل الحصول على مكاسب سياسية أو تبرير خطوات سياسية غير مبررة. وكما انّ هناك حاجة لحكومة بغداد للالتزام بتعهداتها وحل المشاكل مع الإقليم، هناك التزامات يجب على الاقليم ان يراعيها في حدود العراق الموحّد وضمن ما ينص عليه الدستور. لا يمكن للإقليم أن يختار ما يناسبه من الدستور العراقي ــــ الذي كان هو شريكا في إيجاده ــــ وأن يطبّقه باستنسابية خاصّة في ما يتعلق بكركوك. كما لا يمكن لسلطات إقليم كردستان ان تراهن على اقتناص الفرص لوضع الجميع امام الأمر الواقع من دون توقّع ان يحصل لها نفس الشيء لاحقاً، فحالة الفوضى في الشرق الأوسط لا تضمن اعطاء الفرص لطرف دون آخر، واستغلالها لحسابات ذاتية لا تعبّر عن سلوك شراكة حقيقية.
من المفترض ان تمارس ضغوط على الاقليم لكي لا تصيب حالة النشوة الناجمة عن الاستفتاء سياسييه وندخل في بازار مزايدات او في مطالب غير واقعية. الدور الأساسي في هذا السياق يقع على عاتق تركيا والولايات المتّحدة بما لهما من نفوذ وتأثير في إقليم كردستان العراق. سيكون من الجيد أن تخفف الحكومة التركية في هذه الاثناء من الحملة السياسية التي تشنّها ضد شخص البرزاني لكي تبقي العلاقات معه قائمة، خاصّة انّ دوافع هذه الحملة تبدو للاستهلاك المحلي، وهي لا تؤدي في نهاية المطاف الى النتيجة المتواخاة. في نهاية المطاف من قوّى دور البرزاني وموقع الاقليم خلال السنوات الماضية كان الجانب التركي، وليس أي أحد آخر، ومن غير المستساغ اللعب الآن في هذه المرحلة الحسّاسة على الورقة الاسرائيلية وحرق الجسور مع البرزاني.

الموقف الأميركي
أمّا في ما يتعلق بالجانب الأميركي، فعليه ان يظهر اتساقاً في مواقفه، اذ إنّ عدداً لا بأس به من السياسيين والمحللين يرى انّ الجانب الاميركي لم يكن حاسما في طريقه تعاطيه مع الاقليم. هناك من يشير الى انّ الاقليم استطاع المضي قدماً في اجراء الاستفتاء، لانّ بعض الدول؛ كالولايات المتّحدة، لم تعارض الاستفتاء بشكل حقيقي أو قوي، وإلاّ فمن غير المعقول أن يخاطر الاقليم بفقدان كل أصدقائه في الوقت الذي سيحتاج فيه إليهم لاحقا.
تفسير هذا الموقف يذهب باتجاه أنّ واشنطن تريد ــــ على ما يبدو ــــ ان تستثمر مستقبلاً في الطرفين (حكومة بغداد المركزية واقليم كردستان العراق) لكي تحفظ مصالحها في العراق في حال فقدت أحد الطرفين لسبب أو لآخر. لا يمكن لهذه السياسية ان تؤدي في نهاية المطاف الى ما يخدم وحدة وتماسك العراق وهذا بحد ذاته يتناقض مع الموقف المعلن على الاقل للجانب الأميركي، وعلى واشنطن ان تحسم أمرها فيه.

3 أولويات
إذا ما ذهبنا باتجاه المسار التفاوضي بعيدا عن موضوع الانفصال، هناك ثلاثة مواضيع أساسية، سيسعى الاقليم ــــ على الأرجح ــــ الى طرحها للتفاوض كأولوية هي: موضوع عائدات النفط، حيث تبلغ حصّة الإقليم %17 من عوائد بيع النفط وهذه لم تحوّل الى الاقليم منذ فترة، وموضوع قوات البشمركة، والسعي للحصول على وضعية خاصة بها شبيهة بوضعية الحشد الشعبي ضمن الجيش العراقي ربما، وموضوع كركوك.
أمّا اذا ذهب السياسيون الاكراد أبعد من ذلك في مطالبهم مع التركيز على حتمية الانفصال عن العراق فهذا يعني بالضرورة أنّ مطالبهم لم تتعلق يوماً بالحقوق المشروعة، وفي نهاية المطاف لا يوجد ما ينص على أحقّية انفصالهم في الدستور، ومثل هذا الأمر يفتح الباب أمام كل الاحتمالات الكارثيّة.
لقد أبدت كل من ايران وتركيا وحكومة بغداد المركزية استعدادهم للتصعيد، وأظهرت هذه الاطراف جدّيتها من خلال الاجراءات الرمزية التي تمّ اتخذتها حتى الان، والاجراءات التصعيدية السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية التي قد تتخذها ضد الاقليم اذا ما استمر السياسيون الاكراد في مشروع الانفصال.
من الخطأ بمكان التقليل من شأن هذه التهديدات او افتراض انّ هذه الاطراف تناور عندما يتعلق الامر بمصيرها ووحدة اراضيها. هناك بعض الأطراف الاقليمية والدولية التي تسعى ربما لإغواء الاكراد بالمضي قدماً في الانفصال، لكن ذلك سيكون خطأً جسيما، فهذه الاطراف لن تفعل شيئا للإقليم حينما يجد الجد. على السياسيين الأكراد أخذ التهديدات الصادرة عن تركيا وإيران بجديّة وإلا فإن الجميع سيقعون في خطأ قاتل في الحسابات، وقد يكلّف ذلك الاقليم والشعب الكردي داخل العراق وفي البلدان المجاورة القضاء على كل المكتسبات التي حصلوا عليها خلال السنوات الماضية، وهو ثمن سيكون باهظاً جدّاً للأكراد وللمنطقة.

السابق
أزمة النازحين السوريين: من رجال السياسة الى رجال الدين
التالي
أمتحُ لإيماني ماءً