مبالغات قرّاء العزاء وآفة تصدير الجهل

ينتقل المجلس العاشورائي في لبنان من حالة الانضباط في منهج قراءه السيرة الحسينية الى حالة من الفوضى بفعل المبالغات التي ترد من قبل قرّاء العزاء. فكيف يفسر الدكتور الشيخ محمد عباس دهيني هذه الظاهرة الآخذة في التزايد؟

من قارئ للسيرة الحسينية الى عالم فلك وعالم كيمياء وعالم نفس وعالم تاريخ، الى قارئ بعلم الغيب!

حول اعتماد قرّاء العزاء للمبالغات في قراءة السيرة الحسينية، يقول الباحث والشيخ الدكتور محمد عباس دهيني لـ”جنوبية”: “لا اعتقد أن جميع قرّاء العزاء يتعمدون طرح الروايات والأخبار المشتملة على مبالغة وخرافة وغلو وغيرها، وإنما هو ضعف ثقافتهم وقلة خبرتهم العلميّة والتحقيقية تقودهم للاعتماد على مصادر مشهورة ومعروفة، ولكنها ليست بالمصادر الموثوقة التي يمكن الاعتماد على جميع ما ورد فيها من اخبار وروايات”.

اقرأ أيضاً: تجارة مجالس العزاء: مبالغات السيرة.. والبدل المالي

و”من هنا يسقطون في فخ التراث الحديثي والأخباري الموضوع والمكذوب من حيث لا يشعرون ولا يعرفون، ويسقطون أمام هالة أسماء المؤلفين لهذه الكتب، بينما القاعدة الصحيحة التي لا ينبغي إهمالها هي انظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى من قال، فكائناً من كان القائل لا بد من عرض أقواله على كتاب الله، وما جاء فيه من معتقدات وأحكام ومفاهيم، وعلى السنّة الشريفة القطعية للنبي(ص) والأئمة الأطهار من أهل بيته (ع)، وعلى مقررات العقل القطعية والحقائق العلمية التي لا مجال للنقاش فيها”.

إذن، “أغلبهم لا يتعمّد ذكر المبالغات والخرافات وأخبار الغلو وغيرها، وإنما يقعون فيها لأسباب موضوعية تتعلق بجهلهم وضعف ثقافتهم وقلة اطلاعهم على حقائق العلم ومجريات التاريخ وقلة خبرتهم وعلمهم بعلوم القرآن وتفسيره وعلوم الحديث ومسائله”.

ويضيف سماحة الشيخ بالقول: “وعليه فالمشكلة في تصديّ هؤلاء الجهلة والضعاف بحجة أن لهم صوتاً شجيّاً، ونبرة حنونة، وحنجرة عزائية، ولساناً فصيحاً وأسلوباً سلساً ونحو ذلك، وهذه كلها أمور مهمة ولكنها ثانوية أمام العلم والعقل والفكر الذي ينبغي أن يتحلّى به خطباء المنبر، فهي كالزينة للجسم ولا تظهر جماليتها إلا عليه فإذا لم يكن جسم وبدن فما هي قيمة الزينة، وهكذا لا قيمة لكل هذه الشكليات من صوت وطلاقة وفصاحة وسلاسة ما لم تكن مرتكزة ومعتمدة على علم وفير وثقافة واسعة وفكر حر طليق لا يجد غضاضة في انتقاد حكاية هنا ورواية هناك إذا لم تتوافق مع مسلمات العقيدة والشريعة والأخلاق”.

وعمن هو الضامن للسيرة الحسينية العقلانية حاليّا من المراجع؟، يؤكد الشيخ دهيني “للأسف الشديد، إن الهيمنة اليوم للمرجعيات الصامتة التي تعيش التقية من أهل الباطل فهي حتى لو لم تكن راضية عن أفعالهم لا تجرؤ على التصريح بذلك، وهي أصلاً معتزلة عن الناس، ولم تدرك حتى اللحظة ما لحضورها الشخصي والإعلامي من تأثير على المؤمنين والمتدينين الذين يرجعون إليه في التقليد، مع ذلك نجد كثيراً من المرجعيات المؤثرة تنأى بنفسها عن التصديّ لما يطرح من قضايا خاطئة في ساحة المتدينين، وإذا طرحت قضية كبيرة نوعاً ما فإنهم قد يتصدون لها من خلال مكاتبهم أو وكلائهم أو الاستفتاءات المعدة داخلياً، ولكن الجواب هو من صناعة المكتب ومن يتواجد فيه من الوكلاء والمتنفذين وهؤلاء لم يعودوا محل ثقة الناس لأسباب عديدة، ليس هاهنا محل عرضها ونقاشها، كما نجد أحياناً تعارضاً وتناقضاً في نقل وبيان رأي المرجع وهو ما يصرف الناس عن الأخذ بكلا البيانين والنقلين فيظهرون بمظهر المخالف للمرجع، ولكن الحقيقة أنهم لم يعرفوا رأيه حقيقةً. كالتطبير مثلا. بعض المراجع يرون جوازه بل استحبابه وكونه من الشعائر الحسينية بل لعله في نظرهم من أهم هذه الشعائر، وبعض المراجع يرون حرمته، والمشكلة في قسم ثالث له حضوره الجماهيري وتقليده الواسع ومع ذلك تتعارض النقولات المبينة لرأيه في هذه المسألة”.

الباحث والشيخ الدكتور محمد عباس دهيني

ويشدد سماحته على اننا “بحاجة إلى حالة من الوعي الكامل للمخاطر المحدقة وإرادة جادة للتصدي والمواجهة وعزم صادق على الصبر والتحمل والتضحية في سبيل بيان الحق والحقيقة ولو على حساب الهيبة المصطنعة والقداسة الزائفة. في اعتقادي لا يوجد اليوم مَنْ يمتلك ذلك بالمستوى المطلوب. نعم، هناك بعض المواقف وبعض الجهود هنا وهناك ولكنها لا تفي بالغرض المطلوب والهدف المنشود”.

وردا على سؤال هل ان العدد الهائل من الجمهور يبرر اللجوء الى الاهوال في قراءة السيرة؟ يرى الدكتور الشيخ محمد دهيني انه “لا شك أن العلاقة التفاعلية بين الخطيب والجمهور الحسيني مهمة وضرورية وتنعكس تأثراً بالمصاب وحزناً وبكاء ولطماً وكله مطلوب مرغوب إليه في عزاء سيد الشهداء(ع). لكن لا ينبغي أن يكون القربان هو العقلانية والتفكر والتدبر من قبل الخطيب بحيث يكون جلّ همه تحشيد الناس في مجلسه وإثارة مشاعرهم وعواطفهم بما يرغبون ويحبون سماعه، ولو على حساب الوقائع التاريخية والحقائق الاعتقادية والأحكام الشرعية. فنراهم يستعرضون أحداثاً لم تحصل كزواج القاسم وعرسه، ويعتقدون بما لم يكن كوجود بنات عديدات للحسين(ع) كخولة وغيرها، وينسبون إلى الحسين(ع) ما لم يفعله لأنه على خلاف المقررات الشرعية، فنجد بعض الخطباء يفتتح محاضرته بما ينسبه إلى الحسين من القول: شاء الله أن يراني شهيداً وشاء الله أن يراهنّ سبايا ويحشد ما شاء من الروايات الضعيفة التي تذكر أن النبي أخبر عما سيجري على الحسين وأقام عليه العزاء و… لينتهي في المصيبة إلى القول بأن الحسين ترك ابنة له في المدينة اسمها فاطمة وكانت عليلة لا تطيق السفر ووعدها بأنه متى استقر بهم المقام سيرسل إليها عمها العباس أو أخاها علياً ليحملها إليهم فيا عزيزي الخطيب قل لي بربك ما الذي تعتقده حقيقةً؟ هل كان الحسين(ع) يعرف بمصيره ومصير أهل بيته؟ إذن كيف يعد ابنته بذلك الوعد؟ أيكذب عليها-والعياذ بالله-؟ أي تهمة تسوقونها للحسين(ع)؟! أم هل وعدها حقاً وصدقاً؟ إذن هو لم يكن عالماً بمصيره”.

اقرأ أيضاً: هذا ما يبقى بعد مراسم عاشوراء

ويختم سماحته “على أي حال هذا واقع قائم في كثير من المجالس الحسينية وعلى الخطيب الورع التقي والفطن الذكي صاحب البصيرة والفكر والوعي والعلم أن يتجنّب طرح مثل هذه الأمور ولو كان سيخسر بعضاً من الجمهور، فقليل من أهل الوعي والبصيرة والعقل والفكر خير من كثير كغثاء السيل، يكثرون، يبكون يندبون يلطمون، فإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوه قائماً.

السابق
1701 يمنع صيادي جنوب الليطاني من ممارسة هوايتهم
التالي
لبنان ينجو من الإضرابات بعد اقرار السلسلة… فماذا عن قانون الضرائب؟