شيعة العراق… عملاء أم أصدقاء أم أعداء لإيران؟ (3-3)

لم يغادر العراق «عيْن الحدث» في الشرق الأوسط منذ عقودٍ، ويستمرّ الصراع فيه وعليه في الصدارة. فبالرغم من اشتعال ساحاتٍ أخرى منذ أعوام، كما هو الحال في سورية واليمن وليبيا، فإن بلاد الرافدين لم تذهب الى «التقاعد» بل مضتْ الى أزماتٍ وحروبٍ لن تستريح قريباً.

واحدة من أكثر القضايا الملتبسة في الواقع العراقي الصاخب هي طبيعة العلاقة بين بغداد وطهران، إذ يستحيل الحديث عن العراق من دون ذكر دور إيران وتأثيرها على السكان والسياسيين، او «المرجعية» التي تشكل القيادة الروحية للشيعة، والموجودة في النجف الأشرف.

وأقلّ ما يمكن قوله في وصْف هذه العلاقة بين إيران والعراق انها معقّدة للغاية، ما يجعل من الصعوبة بمكان تبسيطها من خلال إطلاق أحكام حاسمة ترى في سكان بلاد الرافدين مجرّد مؤيدين لإيران او معادين لها، فالمسألة لا تحتمل هذا النوع من التبسيط في مقاربة واقعٍ معقّد ومتحرّك.

ثمة خفايا وأسرار كثيرة تَطبع الثابت والمتحرّك في مسار العلاقة بين الجمهورية الإسلامية في ايران و… عراق، الدولة والحكومات والأحزاب والتشكيلات العسكرية والمكوِّنات الطائفية والمذهبية والعرقية، إضافة الى مكانة النجف الأشرف كمرجعية وتراث ودور غالباً ما يكون عن بُعد وقلّما يكون بـ… المباشر.

ثلاث حلقات تنشرها «الراي» تباعاً عن الحقائق المتّصلة بطبيعة العلاقة بين العراق وإيران، هي حصيلة تجربة شخصية في متابعة مجريات هذه العلاقة وأحداثها عن قُرب بل من «قلبها»… تجربةٌ بـ «العين المجرّدة» في الكواليس وعلى الأرض، في السياسة ومع صنّاعها.

المرجعية ومكانتها وأدوارها، صنْع الحكومات وخفايا صراعاتها، مقتدى الصدر، الظاهرة ومفارقاتها، عناوين لتلك الحلقات التي تَختزل «السيرة الذاتية» لعلاقةِ بغداد وطهران التي يحتاج فكُّ تعقيداتها الى إلمامٍ بما هو أبعد من «البروباغندا» الرائجة.

يَصْرُخ العديد من العراقيين والغربيين المتخصّصين في شؤون العراق، شاكين النفوذ الإيراني في بلاد ما بين النهرين. هؤلاء يتمنّون رؤية نفوذ طهران يتقلّص او ينتهي تماماً في دوائر الأجهزة الأمنية العراقية وبين السياسيين في الحكم وحَوْله.

ولم يتساءل أحد من هؤلاء، لماذا يَسمح العراقيون أنفسُهم بتمدُّد النفوذ الإيراني اذا كان باعتقادهم يشكل خطراً كبيراً على البلاد؟ وهل يستطيع قائد الحرس الثوري الإيراني فرْض نفوذه شخصياً بالقوة على العراقيين اذا لم يريدوا ذلك وضدّ إرادتهم؟ لماذا عند تشكيل كل حكومة يتوجه السياسيون العراقيون الى بيروت وطهران لإيجاد ائتلافٍ مناسب ومَقاعد لهم في السلطة؟… واذا تمتّعت إيران بكل هذا النفوذ، لماذا يَسمح العراقيون بذلك؟

هناك في بلاد ما بين النهرين مَن يعتقد ان إيران تمثّل جسراً لهم للوصول الى السلطة، وبالتالي يصبح لهؤلاء وللأحزاب التي يمثلونها نفوذاً قوياً ومالاً وسلطة. إلا أن هناك مَن ابتعد عن إيران، مثل السيد مقتدى الصدر، رغم انه تمتّع لسنواتٍ بدعمها وقُدمت له كل تسهيلات الإقامة لسنوات طوال كان يخشى فيها على حياته من الأميركيين.

لم يكن يوماً لمقتدى استراتيجية طويلة او قصيرة الأمد، ولكنه يعمل حسب تطوّر الأحداث وموجة تفاعلات التطورات ويَستمع الى نصائح محيطه الشاب. ولقد التقيتُ في مناسبات عدة بالسيد الصدر وبأعوانه المحيطين به داخل الحلقة الضيّقة لسنوات طويلة منذ الاحتلال الأميركي للعراق وحتى يومنا هذا. وكذلك التقيتُ مع قادة «جيش المهدي» السابقين حتى ولو كان لدى هؤلاء «مدة صلاحية» تنتهي عادة بعد نحو 6 – 8 اشهر من استلامهم ايّ موقع قرب مقتدى.

إطلالة سريعة على الصدر

كل شيء بدأ العام 2004 عندما دعا الصدر الى تظاهرة ابتداءً من مدينة النجف الأشرف وحتى مدينة الكوفة سيراً على الأقدام حيث كان والده السيد محمد صادق الصدر يَخطب في جامعها.

ولا يمكن بدء الحديث عن السيد مقتدى من دون التطرّق الى والده الذي وضع خريطة طريق لابنه. بدايةَ، لقد تمتّع آية الله العظمى السيد محمد صادق الصدر بامتيازٍ الموافقة على إعطاء أي عالِمٍ او طالِبِ علمٍ في النجف حقّ او منْع الاقامة، بما في ذلك آيات الله العظمى الموجودين في المدينة. وتمتّع السيد محمد الصدر بروحٍ ثورية، وهو طالَب صدام بالإفراج عن المعتقلين عشوائياً وتحدّى سلطته في خطبه الأسبوعية. ولكنه تحدّى أيضاً المرجعية العليا في النجف واتّهمها – من دون تسميات – بأنها تقود «المرجعية الصامتة»، بينما هو يقود «المرجعية الناطقة». وهكذا جذب الآلاف من العراقيين، ولا سيما الفقراء منهم من بغداد وجنوب العراق، ما جعل من السيد محمد صادق الصدر شخصيةً قوية وبارزة وأصبح مؤثّراً في السياسة العراقية.

ونسَخَ الشاب مقتدى خطاب والده بعد اغتياله مع اثنين من اولاده من قبل مخابرات صدام العام 1999 (كان مقتدى يبلغ حينها الـ 16 من العمر). وقد قلّد والده بخطبته عن التمييز بين المرجعية «الناطقة والصامتة»، وارتدى الكفن الأبيض مثل والده أيام خطبه الأخيرة (وهو لباس أبيض يغلّف به المسلمون الجثة قبل دفْنها، ولكنها إشارة رمزية تقول: انا مستعد لمواجهة الموت في أي وقت ولكن سأقول الحقيقة).

وتُرك مقتدى حين اغتيال والده تحت الإقامة الجبرية من قبل أعوان صدام ومخابراته من دون التضييق المالي عليه. ومن الناحية الدينية، لم يكن لمقتدى البالغ من العمر 16 عاماً الحقّ بالتصرف من بيت المال ولذلك احتاج لإذنِ مرجعٍ معتمدٍ وإجازة لم يكن يستحقّها.

وكان للسيد محمد صادق الصدر اثنين من أبرز طلابه المتصدّرين: الشيخ علي سميسم والشيخ محمد اليعقوبي. وطرق باب آية الله العظمى الشيخ اسحاق الفياض الذي أصرَّ على إعطاء الشيخ علي سميسم الإذن (أعطاها لمقتدى ليوم واحد وسحبها وكذلك فعل بعده السيد كاظم حسين الحائري) التي رفضها، على عكس اليعقوبي الذي تلقّفها ومن ثم أعلن نفسه بعد فترة آية الله ومرجعاً لينقسم عن مقتدى وينشئ «حزب الفضيلة» ويَدخل في دوامة السياسة والمال. أما الدكتور سميسم فحظي باحترام المرجعية والنجف لموقفه الصادق الذي تخلّى فيه عن السلطة التي أُعطيت له ورفَضَها.

لقد حاول العديد من السياسيين العراقيين، وليس فقط الشيخ اليعقوبي، «سرقة» جمهور الصدر الذي ورثه الشاب مقتدى لظنّهم (الخاطئ) انه يمكن التلاعب به. فبعد اليعقوبي حاول أحمد الشلبي، ابراهيم الجعفري، نوري المالكي وغيرهم استمالة التيار كبير العدد إليهم من دون النجاح في ذلك، إلا جزئياً.

وأحاط مقتدى نفسه بالكثير من «المستشارين الشباب» والعدد القليل من «الشياب». وهكذا، بعد إعلان الولايات المتحدة احتلالها للعراق العام 2003، كان من السهل ان يؤثّر الشباب واندفاعهم وطبْع السيد مقتدى العفوي والمتحمّس على مجرى الأحداث بعد هذا التاريخ.

وحاول مقتدى تقليد الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في السنوات الأولى بعد الاحتلال من خلال إعلاناتٍ ملأتْ شوارع النجف ليقدّم الصدر نفسه كزعيمٍ أفضل من السيد نصرالله وانه يملك شعبية أكبر وأوسع ويتمتّع بزاد ترَكه والده له، المرجع المعروف السيد محمد صادق. وكذلك تبنّى مقتدى نفس خط الامين العام لـ «حزب الله» الذي حارب احتلال اسرائيل للبنان مستخدماً شعار مقاومة احتلال أميركا للعراق.

واعتبرتْ أميركا ان مقتدى يشكل «صُداعاً» لها يجب التعامل معه، لتقف ضدّ الزعيم الشاب الذي رفض الاحتلال الذي أذعن له الكثير من العراقيين. فبدأتْ باعتقال السيد مصطفى اليعقوبي في مايو 2004 لانه كان المسؤول عن الخزْنة. ولأن اليعقوبي يُعتبر من أقدم تلامذة السيد محمد صادق والمقرّب من مقتدى (ولا يزال لغاية اليوم)، أنتج اعتقالُه دعوة السيد مقتدى لمسيرة احتجاج تبدأ من النجف وتصل الى جامع الكوفة (نحو 6 كلم).

هبطتُ في بغداد العام 2003 عن طريق بيروت – دمشق – التنف – بغداد بسبب توقف المطار عن العمل بعد سقوط صدام حسين. وكانت رؤية سرايا القوات الأميركية في شوارع بغداد راجلةً شيئاً عادياً لاطمئنانهم الى أن العراق رحّب بالقوات الغازية. وكذلك كانت ممارسة رياضة الركض يومياً في شوارع بغداد من الشورجة وحتى الكاظمية مروراً بالأعظمية حيث كان الناس يرمقون الأجانب بنظرات الريبة مولّدين لدى هؤلاء شعوراً بعدم الارتياح. بضعة أشهر كانت كافية لإدراك أن مركز القرار ليس في بغداد بل في النجف الأشرف حيث تُصنع السياسة بصمت.

وكان فندق السدير – الملاصق لوادي السلام، ثاني أكبر مقبرة في العالم بعد تلك الموجودة في الفاتيكان – أفضل ما كان متوافراً حينها، يديره رجلٌ قصير القامة ولطيف، اضطر للمغادرة لأنه كان عضو فرقة سابقاً في حزب البعث. إلا أن هذا الفندق كان يعادل أي فندق أقلّ من نجمة واحدة في أي مكان في الشرق الأوسط.

لم يكن من السهل إقامة علاقة تواصل مع أحد في المدينة، إلا أنه، وعلى مرّ الأيام والأشهر والسنوات أدركتُ أن الخيار كان في مكانه: لقد سمح لي البقاء هناك الوصول الى مركز صانعي القرار وفهم الدينامية الحوزوية وهو يحلم به كل باحث أو مراسل صحافي.

في أبريل 2004 انضممتُ الى تظاهرة دعا إليها الصدر في النجف، وفي الحال أتى نحوي رجال بلباس أسود (عرفتُ لاحقاً أنهم من «جيش المهدي») لأنني كنتُ الأجنبي الوحيد بينهم. وعند الوصول الى ساحة العشرين، كنت قد أُعطيت الأمان للمشاركة بالتظاهرة والانضمام الى الجموع. إلا أن المسافة بين النجف والكوفة (5 – 6 كيلومترات) بدت للوهلة الأولى قريبة، إلا أنها كانت البداية للشرارة الأولى.

بمجرّد أن وصل الجميع الى مسافة قريبة من مدينة الكوفة وعلى مستوى الحيّ الصناعي، تعالى الصراخ داخل التظاهرة لرؤية قوات من التحالف السلفادوريين على شمال الطريق. وبما أن التظاهرة نُظمت بسبب اعتقال المسؤول الصدري المالي السيد مصطفى اليعقوبي من أميركا، فقد كانت رؤية قوات تحالف كافية لإشعال النفوس. وقد بقيتْ سيارة «فان» وحيدة تحترق في وسط الشارع وهرب الجميع الى الطرق المحاذية لإكمال المشوار نحو جامع الكوفة. كانت هذه مغامرة مقتدى العلنية الأولى.

وعند وصول الجميع الى الكوفة كان جميع الحضور والمنظّمين بحالة تشنج واضح وإرباك إذ لم يحصل أي شيء مخطّط له سابقاً. وكان حينها الشيخ فؤاد الطرفي يدّعي بقيادة «جيش المهدي» في جامع الكوفة ويتحدّث باسم التيار. إلا أن قرب الشيخ قيس الخزعلي وطموحه أَقنع مقتدى بإعطائه منصب الناطق الرسمي.

على بعد أمتار قليلة، كانت الخيبة ظاهرة على الطرفي والانتصار كان واضحا على الخزعلي. وبعدها أزيح الطرفي من مسجد الكوفة ليُعيَّن مكانه السيد رياض النوري الذي اغتاله «جيش المهدي» لاحقاً.

لم يخطّط مقتدى لأي شيء كالعادة، إلا أنه يتلقف أي فكرة تبدو له جيدة يقترحها مساعدوه الشباب من حوله إذا كانت تحوي القليل من التشويق. واقعاً، عندما قرر السيطرة على النجف العام 2004، وضع نقاط تفتيش في وسط المدينة القديمة و«حاجزاً» في شارع الرسول أمام منزل السيد السيستاني، من ستة أشخاص كان أكبرهم في سنّ السادسة عشرة.

وفرض مقتدى حينها على كل شخص من خارج النجف تصريحاً خاصاً. وفي أحد الأيام في شارع الرسول، أخذني الحرس الى المحكمة الشرعية لأنني رفضتُ إبراز «تصريح مرور». وفي المحكمة الشرعية استقبلني «القاضي» السيد هشام أبو رغيف الذي سألتُه لماذا أحتاج الى تصريح في مدينة الإمام علي. «من الممكن أن تكون جاسوساً، سأعطيك الوثيقة المناسبة للتحرك في المدينة»، أجابني أبو رغيف.

«إذا كنتُ جاسوساً، لماذا تعطيني التصريح إذاً»؟ أجبتُه وهو يكتب الورقة السحرية. فطلب مني أبو رغيف المغادرة فوراً وعدم التكلم أكثر من ذلك. وهكذا أصبح لديّ تصريحان من القاضي نفسه الذي نسي أنه أعطاني التصريح نفسه قبل أسبوع فقط. إلا أن التجربة للتعرف على «المحكمة الإسلامية» التي سمعتُ الكثير عن المجازر التي ترتكب فيها (كذباً)، كانت أقوى من عدم الذهاب مع الفتيان المسلّحين الذين هم أيضاً كانوا من خارج مدينة النجف.

وخلال حرب المدينة العام 2004 بين الشاب مقتدى وأميركا، كان الصدر يجلس دائماً في مكتبه «البراني» في الطابق الأول المجهز بخط الإنترنت النادر آنذاك. دخلت حينها إلى المكان الذي ورثه عن والده ويقع مقابل باب مقام الإمام علي لأقابل مقتدى، فقيل لي إنه تلقى لعبة برنامج كمبيوتر جديداً يحتوي على أخبار ومنصات تواصل والعاب، وهو يجرب البرنامج. ومنذ ذلك الوقت، يطلق على الزعيم الصدري تسميات طريفة تتعلق بالكمبيوتر مع العام أنه رجل لا يحبّ المزاح.

ولكنه رجل شجاع… فخلال المفاوضات مع الأميركيين أثناء المعركة، كان يجلس في السيارة التي كان يقودها الوسيط السيد عماد كلنتر، وحده من دون مرافق أو حماية ويرفض خلع عمامته السوداء رغم تواجد القوات العراقية المؤازِرة للقوات الأميركية في أحياء النجف الداخلية، إلا أن هذا الجزء يحتاج لموضوع آخر.

منذ حرب النجف، اضطررتُ لمغادرة فندق السدير الذي قصفتْه القوات الأميركية بعد أن بقيت بداخله وقد دُمرت طوابقه العليا وبقي الطابق الأول فقط. عندها كنتُ الزبون الوحيد مع موظف مسلّح يطلق النار أثناء الليل على أشباح من شدّة خوفه، الى أن أقنعتُه بأن ينام في الغرفة المجاورة لي لأتجنّب البقاء مستيقظاً طوال الليل بسبب إطلاق النار المتواصل.

أما مقتدى فاختبأ داخل مقام الإمام علي حيث التقيتُ به في أكثر من مناسبة. كان حينها معادياً للسيد السيستاني متّهماً إياه بقيادة «المرجعية الصامتة». حينها ألقي القبض على أفراد من «جيش المهدي» على سطوح المنازل الملاصقة لمنزل المرجع الأعلى (وكذلك حصل مع الشيخ بشير النجفي). وقد سألتُ مقتدى شخصياً: «لماذا تقول إنك تؤيد المرجعية وهي لا تؤيدك ولا أفعالك»؟ أجاب مستاءً: «أتبع مرجعية السيد الوالد» (المتوفى).

كان الشيخ قيس الخزعلي الناطق الرسمي باسم التيار وكان يؤشّر لي بالسكوت. وكان السيد مقتدى عنيداً حامي الطبع ولا يتصرّف كما اليوم لأنه يتشاور في كل صغيرة وكبيرة مع السيد السيستاني الذي يحترمه، كما قال لي أحد مدراء مكتب الصدر الأسبوع الماضي. وقد شاهدتُ بأم عيني كيف صفع مقتدى يوماً صديقه ومساعده السابق الشيخ الخزعلي أمام مقام أمير المؤمنين، يوم ضرب المقام بقذيفة هاون صغيرة أثناء الحرب (أطلقها «جيش المهدي» خطأ وليس القوات الأميركية كما أشيع حينها).

لن أطيل الحديث عن هذه المرحلة التأسيسية للتيار الصدري وكيف ألقى التيار القبض على مواطن كندي – يهودي وكيف كان يهتمّ السيد حسام الحسيني بجلب الفلافل للسيد أثناء غيبته الصغرى داخل الحرم.

عاد السيد السيستاني من لندن التي ذهب إليها للعلاج الطبي، لينقذ الصدر من الموت المؤكد، فيفرض على رئيس الوزراء حينها إياد علاوي مخرجاً له ولأعوانه من النجف أثناء تظاهرة شبهت بفيلم مصري تتشابه أحداثه باسم «إرهاب وكباب». ووصل الصدر الى بغداد بأمان ومعه ثلاثة من أقرب معاونيه: الشيخ قيس الخزعلي، السيد مصطفى اليعقوبي، والسيد حيدر الموسوي.

في تلك الفترة من الزمن، كان أبو مصعب الزرقاوي (أمير القاعدة في العراق) قد تمكّن من إشعال فتيل الفتنة بين السنّة والشيعة للمرة الأولى بعد تفجيره مقام الإمام العسكري في سامراء. وكنت في لقاء مع الشيخ جلال الدين الصغير في مسجد براثا في بغداد. وحينها كان الشيخ يتعرّض لمحاولات إغتيال متعددة وكان متهَماً بقيادة «فرق سوداء» تقتل «القاعدة» والضباط البعثيين السابقين. ولم يعجِب الشيخ جلال فحوى المقابلة فتركني عند منتصف الليل أمام المسجد في منطقة الكرخ لأسير لمسافة 10 كلم في وضع مدينةٍ تعيش حال منع تجول بعد الساعة السابعة مساءً فقط لأنني قلتُ للشيخ إنه وقع في فخ «القاعدة». ولحسن الحظ أن القوات العراقية كانت رخوة حينها: رجل أجنبي يسير في طرق بغداد بعد منتصف الليل من دون جواز سفر في بلدٍ يعيش حالة حرب ولم يتعرّض أحد لي. لا عجب أن رجال الزرقاوي كانوا يتنقلون بسهولة.

خلال معركة النجف الثانية، أرسلتْ إيران ممثّلها في العراق السيد أبو مهدي المهندس لتبدأ علاقة طويلة مع التيار الصدري الذي أمرَ زعيمه السيد مقتدى، بأن يكون الشيخ قيس هو المسؤول والوسيط، ومعه الشيخ أكرم الكعبي وأبو محمد شبل قائد جيش المهدي حينها. إلا أن مقتدى أٌقصى شبل بعد المعركة لإتهامه بإدارتها بشكل خاطئ.

في الواقع، كلّفت معركة النجف العديد من القتلى بين صفوف «جيش المهدي» وكانت غير ضرورية وغير متوازنة ولم تسفر عن أي نتيجة إستراتيجية، وكان مقاتلٌ من «جيش المهدي» العديم الخبرة يقف بسلاحه أمام الدبابة الأميركية ليطلق النار من سلاحه الكلاشنيكوف ليدغدغ الدبابة، بينما القنّاص الأميركي يقتله برصاصة واحدة في حي السعد والأحياء النجفية الأخرى.

قاد الشيخ قيس «عصائب أهل الحق»، وهو تشكيل أنشأه السيد مقتدى واختبأ وراءه، وهو فرع من «جيش المهدي»، حتى تم القبض عليه في مارس 2007 مع شقيقه وقيادي في «حزب الله» اللبناني علي موسى دقدوق الذي كان يسافر بجواز سفر عراقي والذي حاول إخفاء هويته لمدة شهر على الأقل مدّعياً أنه أصمّ وأبكم قبل أن يتمّ التعرّف عليه من خلال السجلّات الإسرائيلية.

وكان دقدوق يقود مجموعة مهاجِمة في جنوب لبنان اصطدمت مع إسرائيل على جبهات عدة في الجنوب. أما عملية ما قبل اعتقاله وإطلاقه فستبقى للسرد في مرحلة أخرى مستقبلية.

وبعد إعتقال قيس، حاول السيد مقتدى السيطرة على الثروة التي وضعتْها إيران بتصرّف الأعمال القتالية ضدّ الاحتلال الأميركي (إمتلك التيار حينها العديد من المؤسسات ومحطات الوقود والأبنية)، إلا أن نائب قيس، الشيخ أكرم الكعبي، رفض الإنصياع لأوامر قائده السيد مقتدى. «كل المؤسسات تحمل إسم الصدر وهذا يعني أنا»، قال مقتدى مهاجماً الشيخ أكرم الذي أجاب: «السيد محمد الصدر حالة وليست حكراً على أحد ولستَ زعيم جميع الصدريين».

إقرأ أيضاً: شيعة العراق.. عملاء أم أصدقاء أم أعداء لإيران؟ (1-3)

ظل أكرم وفياً لقيس ولكن ليس لمقتدى وهذا ما تسبّب بتحول في ولاء وموقف مقتدى من مؤيِّد لإيران ليصبح معادياً لها، نسبياً.

وقد عانى الصدر من انشقاق ثلاثة من مساعديه الرئيسيين الذين شكلوا عصائب أهل الحق (بقيادة الشيخ الخزعلي) وحركة النجباء (بقيادة الشيخ أكرم الكعبي الذي ارتأت إيران أن يكون وحده) وكتائب الإمام علي (بقيادة شبل الزيدي – أبو محمد شبل الذي رفض مقتدى بقاءه داخل جيش المهدي). إلا أن مقتدى يعتبر اليوم كل هذه الانشقاقات جيدة ولا يتذمّر منها لأن لديه فائضاً من المتابعين (مئات الآلاف واقعاً).

وهكذا كان الصدر يسافر من إيران إلى دول خليجية على الرغم من غضب ورفض الجنرال قاسم سليماني. وحافظ على استقلاله النسبي وكان يلتقي هو شخصياً وكذلك أعوانه بـ «حزب الله» اللبناني وأمينه العام السيد حسن نصرالله الذي كان يرسل في السابق حماية خاصة له، من دون أن تكون هناك علاقة مميزة بين الرجلين.

ورفض مقتدى إرسال رجاله الى سورية في بداية الحرب، لأنه اعتقد أن على بشار الأسد التنازل عن الرئاسة، ضارباً بعرض الحائط «خط الممانعة». إلا أنه عاد وأرسل بضعة آلاف ليسحبهم بعد وقت قليل.

لم يندمج مقتدى أبداً (سرايا السلام) داخل الحشد الشعبي مع أنه قاتَل ضدّ «داعش» وحمى مدينة سامراء التي وُلد فيها أبو بكر البغدادي السامرائي زعيم «داعش»، ليمنع تقدُّم هؤلاء نحو ضريح الإمام حسن بن علي بن محمد العسكري.

ويتطلّع مقتدى اليوم للتخلص من مجموعته المسلّحة «سرايا السلام»، لأنه يعلم أن وقت تواجد الميليشيات سينتهي في العراق، بمباركة السيد السيستاني وإرادة رئيس الوزراء حيدر العبادي. لذلك طلب من جميع أفراد ميليشياته المسلحة (مع العلم أنه يستطيع تجنيد الآلاف بسهولة وبسرعة حينما يريد) ترْك السلاح، وهو يبحث اليوم عن تحالفات سياسية جديدة وعن رئيس وزراء جديد وقوي. ويودّ مقتدى أن يدعم العبادي ضدّ المالكي المدعوم من إيران والذي يودّ العودة الى الساحة السياسية بقوّة كمرشح لمركز رئيس الوزراء المستقبلي. إلا أن مقتدى يبقي خياراته مفتوحة على مصراعيها من دون أن ينفي البحث عن شخصية عسكرية قوية أو تكنوقراط يدعمها من خلف الكواليس، وحتى دعم رئيس الوزراء السابق أياد علاوي، الاسم المفضّل لتولي رئاسة الوزراء لدول المنطقة. وهو علاوي نفسه الذي أراد قتل أو اعتقال مقتدى العام 2004.

إقرأ أيضاً: شيعة العراق.. عملاء أم أصدقاء أم أعداء لإيران؟ (2 -3)

لقد اكتسب الصدر، احترام السيد السيستاني، وأخذ يطلب رأيه في أكثر المسائل المهمة، ولذلك من المستبعد ألا يطلب الاستشارة قبل جولته الأخيرة على دول المنطقة. وينوي مقتدى زيارة أوروبا وكذلك الفاتيكان ليقدّم نفسه كـ «زعيم شيعي عراقي معتدل يعمل للسلام» مقابل الزعيم الشيعي اللبناني السيد حسن نصرالله. ومن الطبيعي أن يُسرّ العالم ويتلقف مقتدى وأفكارَه ويدعمها من دون رهانات، حتى ولو حمل معه لواء مواجهة مشروع إيران في العراق ومواجهة ضباط مقتدى القدامى الذين ينخرطون اليوم ضمن تشكيلات عراقية موالية لإيران.

إن شيعة العراق منقسمون سياسياً اليوم، والانتخابات المقبلة ستكون حاسمة ومن دون رحمة، ومن المؤكد أن هناك جانباً ستدعمه طهران وجانباً آخر سيلقى الدعم من دول المنطقة ومن الولايات المتحدة على أمل هزيمة إيران في بلاد ما بين النهرين على يد الشيعة أنفسهم تحت عباءة مقتدى الصدر.

السابق
محامو الأسير: رأينا حزب الله وهو يستهدف الجيش اللبناني فهل تتحرك المحكمة العسكرية؟
التالي
بعد انتشار فيديو الاستعباد الجنسي مكتب حماية الأداب في جبل لبنان يتحرك