محنة الدولة الوطنية العربية

تواجه الدولة الوطنية العربية منذ استقلالها فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين أخطر تحديات تهدد وجودها واستقلالها ووحدتها والتعايش بين أبنائها. فقد أفرزت حالة ما بعد ثورات الربيع العربى فى عام 2011 خمسة تحديات كبرى أمام الدولة الوطنية فى العالم العربى, تمثلت فى:

أولا: تحدى بروز الفاعلين من غير الدول من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية فى العديد من الدول العربية كالعراق وسوريا واليمن وليبيا, كداعش وجبهة النصرة(هيئة فتح الشام) وميليشيا الحوثيين وجماعة أنصار الشريعة والقاعدة وغيرها, والتى باتت تمثل ندا مناوئا لسلطات الدولة المركزية وتبسط سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضى العربية وتقيم فيها أيديولوجيتها الخاصة، ونظامها السياسى والقانونى والاقتصادى, وهو ما أدى إلى انجراف تلك الدول إلى حالة من الصراع المسلح والحروب الأهلية بين الدولة الوطنية الشرعية، وبين تلك الفواعل غير الشرعية فى إطار من الصراع المفتوح وحروب المدن التى تسود فيها حالة اللاحسم مما فاقم من تداعياتها الخطيرة أمنيا واقتصاديا وإنسانيا مع تفاقم مشكلة اللاجئين والمهاجرين, إضافة إلى تدمير بنيتها الأساسية التى تحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات لإعادة إعمارها.

اقرأ أيضاً: ثلاثة ملفات تقرر موقع الرياض

ثانيا: تحدى الحفاظ على وحدتها وسيادتها وسلامة أراضيها, مع تزايد مخاطر تعرضها للتفتيت والتقسيم وإعادة رسم خرائط تلك الدول على اعتبارات عرقية وطائفية ومذهبية, هو ما تجسده الحالة العراقية مع توجه أكراد العراق إلى إجراء الاستفتاء على الاستقلال الأسبوع المقبل والإصرار عليه رغم المعارضة العراقية والإقليمية، وعدم التأييد الدولى, وهو ما ينذر بتداعيات خطيرة على العراق وعلى المنطقة. وفى الحالة السورية تتشكل الخريطة الجديدة وفقا لمناطق النفوذ والسيطرة المختلفة مع تصاعد سيطرة الأكراد على شمال سوريا بدعم من الولايات المتحدة, وذات الحال فى الحالة اليمنية حيث يتقاسم الانقلابيون من ميليشيات الحوثى وقوات صالح السيطرة والنفوذ على أجزاء من الدولة اليمنية مع الحكومة الشرعية التى تدعمها قوات التحالف العربى, وكذلك فى الحالة، الليبية مع استمرار حالة الاستقطاب والانقسام بين حكومتى الشرق والغرب وتعثر كل محاولات الحل السياسى وتوحيد الدولة الليبية فى حكومة واحدة وجيش واحد ومؤسسات مركزية واحدة.

ثالثا: تحدى تزايد الدور الخارجى فى توجيه مسارات وتفاعلات الدول العربية, مع تراجع الدور العربى, وبدا واضحا تأثير العامل الخارجى فى الحالات العربية الأربع, العراق وليبيا وسوريا واليمن, حيث تتصارع القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا والقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين على التنافس والصراع فيما بينها داخل الساحة العربية لتعظيم مصالحها ونفوذها على حساب المصلحة العربية، وهو ما زاد من تعقيد الصراعات وإطالة أمدها, وفقدان هذه الدول استقلاليتها وسيادتها.

رابعا: أزمة الاندماج القومى بين مكونات المجتمع العربى, الذى يشهد تعددا عرقيا ودينيا ولغويا وطائفيا, فى ظل تراخى قبضة الدول العربية وضعف مشروعها الوطنى، وتفاقم الصراعات المسلحة وتزايد الدور الخارجى, حيث تحول هذا التنوع من عامل ثراء وتكامل, كما هو حال المجتمعات الأخرى فى العالم كله, إلى عامل صراع وتناحر وتوتر وتصاعد روح الكراهية والانتقام وغلبة النزعات الجهوية والإقليمية على حساب النزعة الوطنية الجامعة لكل أبناء الأمة.

خامسا: تحدى خطر الإرهاب الذى تمثله التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة، والتى توظف الدين لأراضيها السياسية وأجندتها, وسعيها لتقويض أسس الاستقرار فى المجتمعات العربية، وتهديد الدولة ووحدتها، واستهداف مؤسساتها الأمنية, وضرب اقتصادها عبر العمليات الإرهابية التى تقوم بها, مما شكل عائقا أمام تقدمها ونهضتها. الدولة الوطنية العربية تمر بمحنة خطيرة, كشف عنها استفتاء الأكراد, وتعاظم التحديات التى تحتاج إلى معالجتها لحماية الدولة العربية ووجودها, وذلك من خلال الحفاظ على تلك الدولة من الانهيار وتعزيز مؤسساتها الوطنية الشرعية الأمنية والسياسية والاقتصادية والإدارية, والحفاظ على وحدتها وسيادتها, وتكريس الديمقراطية الحقيقية القائمة على مبدأ المواطنة التى تساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات بغض النظر عن أي اختلافات عرقية أو طائفية أو لغوية, وتضمن التعايش فيما بينهما والتوحد خلف مشروع قومى وطنى يتكاتف فيه الجميع من أجل التنمية والتقدم والاستقرار, وتحويل التعددية إلى عامل قوة وإضافة, واستئصال سرطان الإرهاب فى العالم العربى, ووقف كل أشكال التدخل الخارجى السلبى, وإنجاز مشروع تنموى ونهضة اقتصادية تحقق الرفاهية لكل أبنائها, وتحقيق المصالحة المجتمعية والعدالة الانتقالية وإعادة التماسك مرة أخرى للنسيج المجتمعى بين كل المكونات السكانية, وإيجاد مشروع ثقافى جامع يعلى من الهوية الوطنية على حساب الهويات والانتماءات الفرعية الأخرى, وأهمية معالجة إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة والمجتمع وإيجاد حالة من المصالحة التى تجعل الدين عامل قوة وتقدم للمجتمعات العربية وليس عامل صراع وتناحر. الدولة الوطنية العربية اليوم أمام اختبار حقيقى لتجاوز هذه المرحلة الانتقالية الفارقة فى تاريخها, فإما أن يدرك الجميع أن تفتيت الدولة العربية وانهيارها سيقود للمستقبل المجهول والمظلم والعمل سريعا وإجراء مراجعة حقيقية للسياسات السابقة والتعلم من دروس الماضى لتلافى الأخطاء, وهنا تبرز أهمية دور النخبة العربية, أما استمرار الوضع الحالى فسوف يقود الدولة العربية إلى الانهيار الذى سيكون الجميع فيه خاسرا.

السابق
الأسباب اللوجستية التي حالت دون حضور الرئيس عون حفل استقبال ترامب
التالي
10 آلاف مقاتلاً للحزب يستعدون للمعركة ضدّ إسرائيل