شيعة العراق… عملاء أم أصدقاء أم أعداء لإيران؟ (2 – 3)

لم يغادر العراق «عيْن الحدث» في الشرق الأوسط منذ عقودٍ، ويستمرّ الصراع فيه وعليه في الصدارة. فبالرغم من اشتعال ساحاتٍ أخرى منذ أعوام، كما هو الحال في سورية واليمن وليبيا، فإن بلاد الرافدين لم تذهب الى «التقاعد» بل مضتْ الى أزماتٍ وحروبٍ لن تستريح قريباً.

واحدة من أكثر القضايا الملتبسة في الواقع العراقي الصاخب هي طبيعة العلاقة بين بغداد وطهران، إذ يستحيل الحديث عن العراق من دون ذكر دور إيران وتأثيرها على السكان والسياسيين، او «المرجعية» التي تشكل القيادة الروحية للشيعة، والموجودة في النجف الأشرف.

وأقلّ ما يمكن قوله في وصْف هذه العلاقة بين إيران والعراق انها معقّدة للغاية، ما يجعل من الصعوبة بمكان تبسيطها من خلال إطلاق أحكام حاسمة ترى في سكان بلاد الرافدين مجرّد مؤيدين لإيران او معادين لها، فالمسألة لا تحتمل هذا النوع من التبسيط في مقاربة واقعٍ معقّد ومتحرّك.

ثمة خفايا وأسرار كثيرة تَطبع الثابت والمتحرّك في مسار العلاقة بين الجمهورية الإسلامية في ايران و… عراق، الدولة والحكومات والأحزاب والتشكيلات العسكرية والمكوِّنات الطائفية والمذهبية والعرقية، إضافة الى مكانة النجف الأشرف كمرجعية وتراث ودور غالباً ما يكون عن بُعد وقلّما يكون بـ… المباشر.

ثلاث حلقات تنشرها «الراي» تباعاً عن الحقائق المتّصلة بطبيعة العلاقة بين العراق وإيران، هي حصيلة تجربة شخصية في متابعة مجريات هذه العلاقة وأحداثها عن قُرب بل من «قلبها»… تجربةٌ بـ «العين المجرّدة» في الكواليس وعلى الأرض، في السياسة ومع صنّاعها.

المرجعية ومكانتها وأدوارها، صنْع الحكومات وخفايا صراعاتها، مقتدى الصدر، الظاهرة ومفارقاتها، عناوين لتلك الحلقات التي تَختزل «السيرة الذاتية» لعلاقةِ بغداد وطهران التي يحتاج فكُّ تعقيداتها الى إلمامٍ بما هو أبعد من «البروباغندا» الرائجة.

يرى العديد من الباحثين والمحلّلين ان وحدات الحشد الشعبي العراقية هي جماعاتٌ مؤيّدة لطهران وتعمل تحت أجندة إيرانية مستقلّة عن حكومة بغداد. إلا أن «الحشد» ليس مجرّد تسمية بل ان وضعيّته أكثر تعقيداً من ذلك.

في يونيو 2014 كانت قوات «داعش» تتقدّم في المحافظات الشمالية في بلاد ما بين النهرين نزولاً الى الأنبار وحتى العاصمة بغداد. حينها، وأثناء انهيار القيادة العسكرية العراقية، خرَج السيد علي السيستاني بفتوى «الجهاد الكفائي» ليطلب من المتطوّعين القادرين على حمْل السلاح للدفاع عن بلادهم وأُسَرهم وأماكنهم المقدسة (العراق مليء بأماكن دفْن أنبياء ورجال صالحين، وكذلك تتواجد فيه مراقد الأئمة الشيعة من ذرية الرسول محمد في سامراء وبلد والدجيل وبغداد وكربلاء والنجف) بإنشاء قوة مسلّحة توقف تقدُّم «داعش». وبينما كانت قوات الأمن العراقية في حالة هلع وهروب غير منظّم («انسحاب كيفي») ومن دون قيادة سياسية وعسكرية بعد سقوط الموصل ومدن كثيرة أخرى، لم يكن السيد السيستاني يهتمّ بالتأثير الإيراني في العراق وعلى جماعات معيّنة لأن البلاد كلها كانت في خطر السقوط.

وكان رئيس الوزراء حينها نوري المالكي رَفَض نصائح متعدّدة قبل سقوط الموصل بإزاحة قيادات غير مؤهلة ومتآمرة. وكان المالكي لا يتمتّع بأيّ شعبيةٍ في غالبية الأحزاب الشيعية (والطوائف الأخرى ايضاً) خصوصاً لأنه رفض الالتزام باتفاقية من 19 بنداً كانت قد وُقّعت من جميع الأحزاب الشيعية (الصدريون، مجلس الاعلى، بدر، الفضيلة…) بمن فيهم موفد المالكي الشيخ عبدالحليم الزهيري. وكانت الاتفاقية تنصّ على شروطٍ صريحة على المالكي احترامها ليحظى بالتجديد له كرئيس وزراء لدورةٍ ثانية على ان يشارك الجميع في عملية صنع القرار. وكان هذا الدعم أساسياً ولا سيما ان خصمه اياد علاوي كان استطاع التغلب على المالكي بمقعديْن ما كان يعطيه الحق برئاسة الوزراء الذي أُبعد عنها على نحو غير قانوني. وبدل إشراك الآخرين، حَكَم المالكي لوحده وتجاهل الجميع وعلى رأس هؤلاء الأحزاب الشيعية ولم يعترف بتوقيع الشيخ الزهيري وشكّك بالجميع من حوله بمن فيهم السنّة والأكراد.

واقعاً، دعمتْ إيران المالكي رغم معرفتها بعناده، إلا أنها فعلت المستحيل لدعمه فقط لانه يتمتّع بالشخصية اللازمة والشجاعة للوقوف ضدّ خطط باراك أوباما الذي طلب إنشاء قواعد عسكرية في العراق، وكذلك دَعَم المالكي الجماعات غير الحكومية التي تموّلها إيران لوقوفها ضدّ الأميركيين. وكانت إيران – ولا تزال – تخشى الوجود العسكري الأميركي الدائم في بلاد ما بين النهرين وعلى حدودها، لأن من شأن واشنطن «العمل» ضدّ جمهورية ايران الاسلامية وتهديد حلفائها في المنطقة ولن تَطْمَئنّ طهران ابداً الى نيات الادارة الأميركية تجاه الشرق الاوسط.

وفي 2014 وبعد إنشائه، استطاع الحشد الشعبي تحرير وحماية سامراء وجرف الصخر وبلد والدجيل والضلوعية وحزام بغداد وكربلاء. ورغم تدريب متطوّعيه بشكل سطحي وعلى عجل والنقْص الحاد بالسلاح، حارَب «الحشد» بقوة – من دون اي قوات أمنية تُذكر في الفترات الأولى من التقهقر امام «داعش» – بعدما سيطرت القوات الارهابية على ثلثيْ العراق. واستطاع وقف تَقدُّمها بفضل إرادة أبنائه والتسليح السريع الذي وفّرتْه إيران للعراق ومعه قوات من «حزب الله» اللبناني لاستعادة العقيدة القتالية التي تمكّن العراقيين من هزيمة «داعش».

وفي الوقت عيْنه رفضتْ الإدارة الأميركية الالتزام بعقود السلاح الموقّعة مع بغداد ولم تسلّم أي سلاح لمدة 6 أشهر من احتلال «داعش» لأجزاء كبيرة من البلاد، وطلبت من الشركات الأميركية المعنية بالصيانة (ولا سيما دبابات «أبرامز») إغلاق أبوابها. كما امتنعتْ إدارة اوباما عن إمداد العراق بالسلاح من مستودعاتها القريبة. وهذا ما عرّض العراق لخطر حقيقي في ظلّ هجمات «داعش» الانتحارية ووضَع العراق في يد إيران وحدها التي هبّتْ لمساعدته (ومساعدة الأكراد في اربيل).

حينها زار قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، اربيل وبغداد والسيد السيستاني ليقدّم السلاح والدعم والخبرة العسكرية لأن العراق لديه الرجال. وقد سارعتْ إيران لهذا الدعم، أيضاً من باب مصلحتها لأن «داعش» يشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي ويريد – كما صرّح وفعل – تدمير كل المقدّسات الشيعية في العراق (وفي اي بلد آخر لأنه يَعتبر زيارة المراقد شركا) وقتْل كل الشيعة (ومَن يختلف معه حتى من السنّة). وأصدر الزعيم الروحي لإيران السيد علي خامنئي أوامر واضحة بمنْع العراق من السقوط في أيدي التكفيريين، ونقلتْ إيران المئات من «حزب الله» اللبناني وخبراته الى العراق (بقي منهم القلّة القليلة اليوم) وأنشأ هؤلاء معسكرات تدريب قرب بلد وسامراء وكذلك غرفة عمليات مشتركة في بغداد داخل المنطقة الخضراء بمشاركة ضباط عراقيين وإيرانيين مع «حزب الله» (انضمّت اليهم روسيا لاحقاً). وبعد 6 أشهر عندما استطاع الحشد وقْف تَقدُّم «داعش» بدماء أبنائه، تحرّكت أميركا لتبدأ بمحاربة «داعش» على وقع ووتيرة بطيئة جداً.

وقد تهكّم قياديون عسكريون أميركيون ومعهم محلّلون وباحثون غربيون على القوات العراقية وتوقّعوا أن العراق لن ينهض أبداً مجدداً وان البلاد ستُقسّم وان «داعش» سيحكم لعشرات السنين. وتضافرتْ الجهود الغربية للترويج بشدّة لمشروع تقسيم العراق الى ثلاث دويلات: كردستان سنّستان وشيعستان. وأصبح العراق الأمل للغرب ولدول المنطقة لإعادة ترسيم الحدود وتغيير خريطة الشرق الأوسط من جديد.

عندما أزيح المالكي بطريقة مفاجئة وتسلّم حيدر العبادي مكانه، قام سليماني بمبادرة اللحظة الأخيرة (حول مَن سيكون رئيس الوزراء المقبل باقتراحه المالكي من جديد ومن ثم ابراهيم الجعفري) خلال مفاوضاتٍ كانت تجري سراً مع الأحزاب العراقية ومع المرجعية. وقد علِم العبادي بذلك ما أوجد هوة بينه وبين سليماني منذ الأيام الأولى لتولي العبادي رئاسة الوزراء. وهذا ما جعل الأخير عدائياً تجاه القائد الايراني، يَطلب منه الانتظار مدة طويلة خارج مكتبه ويطالبه بدخول البلاد بسمة دخول عادية مثله مثل اي شخص آخر، وصولاً الى اتهام العبادي لسليماني بالتآمر لإزاحته خلال السنة الاولى من توليه منصب رئاسة الوزراء (وهو اتّهام غير باطل كما أكّدت مصادر عدة).

ولكن ما أحضره سليماني معه الى العراق، مكّن الحشد الشعبي من مجابهة «داعش» والحؤول دون سقوط مدن عدة ومنْع تقدم «داعش» نحو الحدود العراقية – الايرانية ونحو بغداد وكربلاء لينقل العراق من حالة الهروب والدفاع الى حالة الهجوم واستعادة المناطق. وتمّ تعيين النائب العراقي جمال جعفر ابراهيم (المعروف بأبو مهدي المهندس) نائب قائد الحشد الشعبي – هو الذي كان قبل احتلال «داعش» ثلثي العراق ممثل سليماني في بلاد الرافدين – ليقود المعارك. وكان لدخول «الحشد» الأثر الكبير في تغيير المعادلة: فقط مقاتلون ذات ايديولوجية متينة يستطيعون مجابهة أعداء يحاربون من خلال عقيدة صلبة: «داعش».

واستعاد «الحشد» بألويته الـ 19 وحلفائه وقوى عراقية أمنية أخرى مناطق ومدن جرف الصخر، طوزخرماتو، آمرلي، سلمان بك، اسحاقي، تكريت، بيجي، جبال حمرين، العلم، الدور، الفتح، بحيرة الثرثار، وأكثر من 250 قرية غرب الموصل وحول تلعفر ومعارك كثيرة أخرى. وقام بحماية سامراء جنباً الى جنب مع «سرايا السلام» (رفض مقتدى الصدر الذوبان داخل الحشد مثله مثل العديد من الجماعات الاخرى التي تعمل تحت راية الحشد ولكن بقيت على استقلالها وكياناتها). وكذلك ساعد «الحشد» بفصل الموصل عن تلعفر وأرسل رجاله الى بعض المناطق على الحدود العراقية – السورية مع اعتراض العبادي على هذه الخطوة بسبب ضغط الإدارة الأميركية التي لا تريد للحشد حماية الحدود اليوم (المزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع لاحقاً).

وأكثر من ذلك: عندما كانت الولايات المتّحدة تعترض على مشاركة «الحشد» وتطلق العنان لوسائل الاعلام والمحلّلين لديها ضده بوصْفه «الميليشيات الشيعية القذرة» والتركيز على الجانب الطائفي الأحادي والدعم الإيراني له، كان الآلاف من شيعة «الحشد» (هناك طوائف متعدّدة داخله) يُقتلون من أجل تحرير المدن السنية ويعملون على عودة أهلها الى ديارهم وكذلك الطوائف الاخرى ولا سيما في اقليم نينوى. ويتألف الحشد – مثل البرلمان العراقي – من 60 في المئة من الشيعة والباقي من الطوائف الاخرى، وبالتالي فلا أساس للاتهام الطائفي له الذي يعود مصدره الى التأثير الإيراني على بعض مكوّناته. علماً ان كثيرين في العراق يقولون انه، في نهاية المطاف اذا كان العراق أنهى معركته مع الارهاب ونأى بنفسه عن التأثير الأميركي ستكون إيران مُطْمَئنة الى حديقتها الخلفية وبالتالي تخفض من تأثيرها على السياسيين العراقيين الذين تربطهم علاقة طبيعية مع جيرانهم في ايران، وكذلك لوجود رابط ديني (للشيعة) بين البلدين من دون ان يكون هناك تدخل سياسي مباشر في شؤون البلاد.

«الحشد» ومجموعاته

يتكوّن الحشد الشعبي من متطوعين وكذلك من مجموعات تابعة لجهات متعددة. فهناك أكثر من كتيبة تتصل مباشرة بالمرجعية الدينية العليا في النجف، وقد مُوّلت وجهزت من قبل السيد السيستاني (فرقة العباس، فرقة الامام علي القتالية ولواء علي الأكبر).

وهناك أيضاً تجمعات ترفع شعار «الحشد» (لانه بدأ المسيرة كقوة غير نظامية) وتقاتل معه إلا انها لم تندمج ولم تذُب ابداً بداخله لدعمها الذي تتلقاه من ايران. ولنأخذ مثلاً قوات «سرايا السلام»، وهي مجموعة مستقلة تأتمر من زعيمها الصدر وتتلقى الدعم المادي من ميزانية «الحشد»، لكنها تقاتل «داعش» في مناطق معينة، وهذا الفصيل لن يندمج أبداً بقوات وزارة الدفاع او وزارة الداخلية، وهذا ينطبق على مجموعات مثل «كتائب حزب الله العراق» و«عصائب أهل الحق» و«كتائب الإمام علي» او «حركة النجباء»: كل هؤلاء مستقلون ولن يندمجوا في داخل القوى الرسمية بعد الانتهاء من «داعش». وهؤلاء سيشاركون في الانتخابات المقبلة – كمجموعات مستقلة – على عكس هيئة «الحشد» الذي لن يسمح لعناصره بالترشح بل فقط بالتصويت مثل جميع أفراد القوات المسلحة.

وقد فقد «الحشد» لغاية اليوم نحو 10 آلاف مقاتِل مقابل عشرات الآلاف من قتلى إرهابيي «داعش». ويقف «الحشد» اليوم كقوة رسمية تمنع الإرهاب وتقسيم البلاد (بما فيها كردستان)، وهة قوة مستعدّة لمقاتلة القوات التركية المتمرْكزة في بعشيقة وفي أماكن أخرى من شمال العراق اذا فشلت الطرق الديبلوماسية بتحقيق انسحاب القوات التركية من بلاد الرافدين. وهكذا لا توجد اي خطة لحلّ «الحشد» الذي أصبح ضمن المنظومة الدفاعية، وستبقى ألويته الـ 19 حتى تنتهي الحرب على «داعش» وتعيد القوى الأمنية ترتيب نفسها لتتوزّع الألوية بعدها بين وزارتيْ الدفاع والداخلية.

نعم هناك قادة داخل «الحشد» مؤيّدون لايران ومخلصون لما يمثّله سليماني من دون ان يكون هؤلاء ضدّ مصلحة العراق. فغالبية شيعة العالم يرتبطون بالايديولوجية نفسها من دون ان تكون الثقافة واحدة او الارتباط في ما بينهم أعمى، وكذلك لدى كل طرف سياسة مختلفة تجاه الولايات المتحدة. ويتمتع سليماني بنفوذ داخل كل طرف يعتبر نفسه ضمن «خط المقاومة» وضد نفوذ أميركا في الشرق الاوسط والتبعية لهذه الإدارة. وكان الجنرال الايراني سخياً مع جماعات متعدّدة منذ 2004 حاربتْ القوات التي أطلقت على نفسها قوات احتلال، لتحارب بعد ذلك «داعش» (الذي عُرف بالقاعدة في العراق قبلها).

وعندما قال أبو مهدي المهندس «أنا جندي عند قاسم سليماني»، كان يعبّر عن رأيه الشخصي ‏ومعتقده بخطّ «محور المقاومة» ولا يعبّر عن خط مؤسسة «الحشد الشعبي» ككلّ.

ففي 2004 كان الصدر أوّل مَن استفاد من التمويل والدعم ‏العسكري الإيراني (تفاصيل في الجزء الثالث) وأعطى برَكاته لتشكيل «عصائب أهل الحق» تحت قيادة أحد مساعديه الشيخ قيس الخزعلي. إلا أن مقتدى ‏توقّف عن أخْذ المساعدات الإيرانية لان الإنتاج والاتفاقيات التي كانت تجنيها الوزارات التي يسيطر عليها أتباعه كانت كافية له.

وخلال 2014 و2015 لم يستطِع العراق ‏مقاومة الكرَم المادي الذي كانت إيران تدفعه لبعض القوى والأحزاب المحلية والتنظيمات مثل «عصائب أهل الحق» و«حزب الله العراق» و«كتائب الإمام علي» و«حركة النجباء» ‏وغيرها من المجموعات التي كانت ولا تزال مدعومة من طهران. ولذلك دعمت المرجعية العليا في النجف قرار حيدر العبادي بدمج «الحشد» تحت قيادة القوات الأمنية، على ان يُعتبر كل من يخالف هذا القرار خارجاً عن القانون، بينما المجموعات التي ‏لم تنصهر بالحشد وتحارب تحت راية القضية نفسها (هزيمة داعش) فهذا شأن عراقي تتحمّله وتتعامل معه الحكومة المركزية.

إقرأ أيضاً: إيران والعراق.. عقدة المكان وعقيدته

ولكن المرجعية العليا في النجف مستاءة من عدم دمْج «الحشد» ضمن القوات الأمنية لان القرار اتُخذ ولم ينفذ، ‏وهذا يدل على ضعف رئيس الوزراء في نظر المرجعية وتَردُّده في تنفيذ القرارات لأسباب انتخابية او لتخاذُل في الشخصية، وهو اي رئيس الوزراء، يترك قيادة «الحشد» تحت سيطرة إيران ‏وهذا ما لا تحبّذه النجف.

‏ونستطيع ملاحظة قوة هذه الأحزاب: ففي أوساط «العصائب»، هناك مال وفير ظاهر ‏وأسلحة كثيرة وتغطية إعلامية. وكذلك توجد عند الأطراف التي تدعمها طهران حالة من الارتياح المادي الواضح. ويعتقد رئيس الوزراء أن الوقت لم يحِن لدمْج الحشد الشعبي الآن ‏والبلاد على أبواب انتخابات وخصوصاً أنه سيجابه قادة شاركوا في المعارك وكانوا من القادة الميدانيين الذين يحبّهم الشعب مثل أبو مهدي المهندس وأحمد الأسدي ‏(نائب في البرلمان وناطق باسم الحشد) وهادي العامري (زعيم منظمة بدر) الذين سيشاركون في الانتخابات، وهؤلاء يمثلون مع آخرين ‏تيار «محور المقاومة» ضدّ التيار الذي يمثله العبادي الذي يقف مع أميركا في العراق وضدّ إيران ونفوذها ومشروعها في المنطقة المعادي لأميركا وحلفائها.

‏ونجد العديد من أبناء «الحشد» الذين يدّعون أنهم جنود السيد السيستاني إلا انهم خارج إطار طاعة المرجعية. ولا تجد خطب الجمعة لممثلي المرجعية العليا آذاناً صاغية لدى الناس لحضّهم ‏على الوقوف ضدّ الفساد والسياسيين رغم التظاهرات الموسمية للناس خارج باب السيد السيستاني هاتفين: «تاج تاج على الرأس سيد علي السيستاني». ولهذا السبب فإن مرجعية النجف ‏تبقى صامتة وكل ما يصدر عنها موجود في خطبة الجمعة وخصوصاً على المنبر الحسيني في كربلاء مزار الإمام الحسين.

الحكومة المركزية لا تزال تحتاج الى «الحشد» لأن:

1 – المعركة ضد «داعش» لم تنته بعد، ولا تزال الحويجة وعانا وراوة والقائم وطول الحدود العراقية – السورية تحت احتلال «داعش». وتُعتبر صحراء الأنبار أفضل وأصعب ملاذ ‏للمجموعات الإرهابية التي ينبغي على العراق مواجهتها عاجلاً أم آجلاً.

2 – أن الانتخابات البرلمانية المتوقّعة السنة المقبلة اقترب موعدها وهي تسخن على الجبهات السياسية ‏العسكرية، ولذلك فإن العبادي لن يغامر بالتعرض للحشد ‏الذي يتمتع بدعم كبير بين العامة، بل سينتظر لما بعد الانتخابات لضربه إذا ما أعيد انتخابه مرة أخرى.

ان أكثر المتطوّعين في الحشد الشعبي ‏هم من أبناء العراق الفقراء الذين تركوا القليل مما يملكونه للدفاع عن عائلاتهم ونسائهم وأطفالهم استجابة لدعوة دحْر الإرهاب ومنْع السبي الذي يتغنّى به «داعش». ‏وأكثر هؤلاء من جنوب العراق الأميين الذين يتّهمهم الإعلام الغربي بالطائفية ويهاجمهم «الخبراء في شؤون العراق» الذين لم تطأ أقدامهم يوماً العراق (ليس فقط المنطقة الخضراء أو كردستان).

وعن هؤلاء قال لي السيد السيستاني متأثّراً: «هؤلاء المتطوّعون الفقراء الأغنياء عند ربّهم هم الذين يستحقون أن أقبّل أيديهم وأرجلهم، هم الذين قدّموا حياتهم ليعيش الآخرون، شباباً ومسنين، فقط لهزيمة داعش المجرمة واستعادة المناطق العراقية وأكثرها ‏السنية إلى أصحابها الشرعيين… وهم الذين منعوا سبي النساء العراقيات من داعش… إنهم هم الذين يدين لهم العالم أجمع بهزيمة الإرهاب».

إقرأ أيضاً: شيعة العراق.. عملاء أم أصدقاء أم أعداء لإيران؟ (1-3)

لقد تجنّب العراق التقسيم بجهدٍ مشترك من فتوى السيد السيستاني (الذي أصاب قلوب العراقيين ‏ودفَعهم للدفاع عن ديارهم وبلادهم) وإرادة العراقيين (الذين استجابوا للنداء رغم الموت الذي يتربّص بهم في كل مكان لدحْر «داعش») والدعم الإيراني بالتدريب والسلاح والقوة الدافِعة (لمواجهة المشروع التكفيري). هذه المعادلة كلّها ‏منعت سقوط المدن الأخرى بعد تلك التي سقطت منتصف 2014. ولو أكمل «داعش» لَوصَل العراق إلى طريق الـ «لا عودة» بعدما تآمَر عليه الجميع بمن فيهم كردستان التي تغنّى رئيسها المنتهية ولايته بـ «الثورة السنية» قبل أن ينقلب عليه «داعش».

أما الولايات المتّحدة ‏فقد تدخلتْ في وقت متأخر، وحصل ذلك فقط عندما أدركت أن العراق يقاوم ويتجاوب مع فتوى السيد السيستاني وينهض أبناؤه بالبلد من جديد، وبالتالي فإن الاستسلام لم يعد خياراً.

السابق
«السياسة الكويتية»نقلا عن مصادر نيابية: لا تقصير لولاية مجلس النواب
التالي
إعلاميون وصحفيون الى النيابة!