عرسال 2014: مفاوضات واستدراج عن طريق الخداع

فداء عيتاني

في منتصف شهر تموز من العام ٢٠١٤ كانت الشائعات تملأ عرسال ومخيماتها: ستحصل معركة، سيقع الهجوم على الجيش اللبناني. الجيش اللبناني استقدم اسلحة متطورة الى مقاره في عرسال، سيتم الاستيلاء على اسلحة حديثة من الجيش اللبناني“.

كان هذا جزء من الاشاعات الذي اثار عدد من الوجهاء في عرسال ودفعهم الى الطلب من المجالس المحلية في المخيمات لتخفيف التوتر وتوضيح الموقف، كان اعضاء اللجان المحلية المشرفين على ضبط الامور في المخيمات يؤكدون انهم سمعوا الاشاعات كما غيرهم، وانهم لا يرضون بوقوع معركة في المنطقة.

من جهة اخرى كانت تصل الى الجرود حيث يتمركز مقاتلون متعددو المشارب ما بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية (داعش) والجيش السوري الحر، اشاعات مقابلة: الجيش اللبناني يعتدي على اللاجئين المارين على حواجزه، الجيش اللبناني يهتك حرمات نساء في بعض اطراف المخيمات، الجيش اللبناني يمنع وصول ادوية او مواد اغاثية الى المخيمات.

اقرأ أيضاً: عرسال ٢٠١٤: بانتظار دعم لم يأت

لم يكن من السهل تهدئة نفوس الطرفين، وقطع الاشاعات بيقين المعلومات، خاصة ان الاشاعات بقيت تتكثف في تلك الفترة.

في نهاية شهر تموز ٢٠١٤ ينشر قائد لواء فجر الاسلام عماد جمعة مقطع فيديو يعلن فيه مبايعته لتنظيم داعش، يأتيه الرد الفوري من التنظيم ان المبايعات لا تتم بالفيديو، بل بالمبايعة المباشرة لامير قاطع حمص، كونه يتبع من موقعه في القلمون الغربي لولاية حمص.

عدة مصادر تؤكد ان داعش رفضت مبايعة جمعة، وان جمعة لجأ الى نشر المقطع المصور لحماية نفسه من تنظيم جبهة النصرة وابو مالك التلة، ومجموعات الجيش الحر التي ضاقت ذرعا بممارسات جمعة ومجموعته قليلة العدد.

معركة واسرى

الثاني من آب ٢٠١٤، ظهرا يمر عماد جمعة دون سلاح، قائد لواء فجر الاسلام، للمرة الثانية عبر حاجز الجيش في المصيدة مغادرا عرسال بعد ان دخلها قبل يومين للقاء زوجته. هذه المرة لم يترك جمعة ليمر، وتم توقيفه، ونقله مباشرة الى ثكنة ابلح للتحقيق معه.

شهود مباشرون يقولون ان عناصرا من الجيش اللبناني، تختلف بالزي والسلاح عن المعتادة، انضمت الى عناصر وادي حميد، وهذه العناصر هي من تولى التدقيق ظهر يوم الثلاثاء بهويات المارين، حتى وصل عماد جمعة وتم ايقافه، وعندها اتصل احدهم هاتفيا وقال: ”سيدي عماد جمعة معنا“، ونقلت هذه العناصر جمعة معها وغادرت المنطقة.

وقعت المعركة، اسر احد قادة الجيش الحر – حركة حزم اربعة من جنود الجيش اللبناني، واحتفظ بهم، بينما اسر عناصر داعش سبعة اخرين، وانطلقوا بهم مباشرة الى مواقعهم خارج لبنان، واسرت جبهة النصرة من كان موجودا في داخل عرسال، خاصة عناصر الدرك اللبناني من المخفر.

اسرى حركة حزم استقروا في النهاية بين ايدي تنظيم داعش، في البداية ابدت حركة حزم بلسان قائدها ”المقنع“ رغبتها باعادتهم الى ذويهم، الا ان مقتل ”المقنع“ لاحقا اوقع هؤلاء بين ايدي تنظيم داعش. (كان يتردد بانه قتل في غارة للطيران السوري في اليومين الاولين للاشتباك، الا ان تسجيلا للامير الشرعي لداعش في القلمون الغربي ابو الوليد المقدسي صدر في صيف العام ٢٠١٥، تحدث عن تصفية ”المقنع“ على ايدي عناصر من التنظيم في القلمون، قبل ان يأخدوا منه عناصر الجيش اللبناني).

في اليوم الثاني من اب كانت هيئة علماء المسلمين التي يرأسها الشيخ سالم الرافعي لا تزال خارج الاحداث، كانت الهيئة تعمل في الاغاثة، كما ان بعض اعضائها من المشايخ هم من اهل المنطقة والبقاع، وبعضهم الاخر ينتمي الى شبكة منظمات اغاثية.

مع انطلاق المعركة في عرسال يتلقى العديد من مشايخ الهيئة اتصالات من عرسال، كان اهل عرسال يطالبونها بالعمل على اطلاق سراح جمعة مع بدء الاشتباكات، والوصول الى حل للمعركة. ومما يتوضح للهيئة ان قائد تنظيم داعش في المنطقة ”ابو حسن الفلسطيني“ والذي لا يملك اكثر من ٤٠ مقاتلا، اضافة الى نائب عماد جمعة، يحيى الحمد الملقب بـ”ابو طلال“ وفصيله، يبدأن بالزحف نحو عرسال، ويلحق بهما جبهة النصرة وفصائل الجيش الحر في المنطقة.

يوم الرابع من اب صباحا يتصل الامين العام للهيئة العليا للاغاثة اللواء محمد الخير بالشيخ سالم الرافعي، ويطلب منه الحضور فورا الى السراي الحكومي في بيروت.

عند دخول الرافعي الى مكتب رئيس الحكومة يجد بانتظاره الرئيس تمام سلام ومعه اعضاء خلية الازمة، يتحدث سلام عن عرسال والوضع الصعب، وموقف الحكومة وعناصر الجيش المخطوفين، ويضيف ملمحا الى ان هناك امكانية لحصول معركة، ولكن هل يتحمل لبنان معركة تؤدي الى مقتل ١٠ الاف انسان؟ ويطالب الهيئة بالقيام بمبادرة هناك. يسأله الرافعي: وما الذي سنتفاوض عليه؟ يقول سلام: وقف لاطلاق النار واطلاق العسكريين اللبنانيين، وخروج المقاتلين من عرسال. في النهاية اتفق على ان ينسق الرافعي مباشرة مع قيادة الجيش، وطلبت خلية الازمة الحكومية منه التوجه مباشرة الى اليرزة للقاء قائد الجيش اللبناني حينها العماد جان قهوجي.

حين التقى الرافعي بقهوجي في وزارة الدفاع حضر اضافة الى مدير المخابرات في الجيش اللبناني النائب جمال الجراح، وتحدث قائلا بان سعد الحريري يرفض وقوع معركة، وان وقفا لاطلاق النار لمدة ٤٨ ساعة يمكنه ان يكون مدخلا جيدا للوصول الى نتائج تفاوضية. وافق قائد الجيش على تجنب المعركة، وطلب من الرافعي التوجه فورا الى عرسال من اجل التفاوض.

سذاجة وجرحى

جمع الرافعي عددا من المشايخ، ووضعهم في جو اللقائين، مؤكدا انه لا بد من التدخل والمساعدة، وطلب ممن لديه رغبة بمرافقته، وتوجه وفد كبير من العلماء نحو عرسال، وحين وصلوا الساعة ١١:٠٠ ليلا.

احد اعضاء الوفد يقول: حين وصلنا كان المشهد مخيفا، القصف واصوات الاشتباكات تأتي من بعيد الى حيث وقفنا على طريق اللبوة – عرسال، كان حاجز الجيش قد اوقفنا هناك، وكانت القذائف تضيء المحيط واصواتها تتوالى.

كان الوفد يضم اكثر من ٣٠ شيخا، اضافة الى عدد من الشخصيات، ومنهم نبيل الحلبي، الذي طلب منه ايضا المشاركة في المفاوضات.

رفض ضابط على حاجز الجيش السماح للوفد بالدخول مباشرة، وطلب منهم اختيار عدد للدخول كدفعة اولى في سيارة واحدة، وقال الضابط: حين نتبلغ بوصول السيارة الاولى نرسل التالية.

صعد الى السيارة الاولى الرافعي ونبيل الحلبي واحمد القصير، وغيرهم من المشايخ اضافة الى السائق. وقف ضاط قرب نافذة سائق السيارة بعد ان جلس الجميع فيها، وسأل كل شخص جالس عن اسمه، واتصل هاتفيا على مرأى من الجالسين دون ان يتمكنوا من سماعه، وسمح للسيارة بعدها بالانطلاق.

مرت دقائق طويلة وثقيلة على الوفد المنتظر في اللبوة قبل ان يسمع اعضاؤه اطلاقا كثيفا للنيران اقرب من المعتاد، اطلاق متواصل، ومن اسلحة متعددة، صدر من الجنود المنتشرين اصوات تنم عن حصول امر مفاجئ، تحرك الجنود يمينا ويسارا، وانتشروا بمواقع قتالية، اتصل اعضاء من الوفد بهواتف الموجودين في السيارة، لا اجابة من نبيل الحلبي، او من سالم الرافعي، لا احد يجيب على الهاتف.

ثم سمع جنود يصرخون بشخص مطالبينه بالتعريف عن اسمه واظهار نفسه، ركض احد اعضاء الوفد بعد ان تعرف على صوت سائق السيارة، وتجاوز الجنود، وطلب من السائق اظهار نفسه، واخذه جانبا.

السائق لحظة وصوله وتحت وقع الصدمة: لقد اطلقوا النار علينا مباشرة، انا تركت السيارة ترجع الى الخلف وقفزت منها، ولا بد ان الكل قد قتل فيها“.

اتصل بعض اعضاء الوفد بالمقاتلين السوريين، وطلبوا منهم تفسيرا عن اطلاق النار على السيارة، فرد هؤلاء بعدم علمهم بما حصل، واكدوا انهم سيتقدمون نحو موقع السيارة ويرون بانفسهم ما حصل.

كانت السيارة قد تعرضت لاطلاق النار في المنقطة المتوسطة بين الطرفين، ويروي مقاتلون سوريون انهم اضطروا لخوض معركة للوصول الى مكان السيارة، التي كانت انوارها لا تزال مضاءة في الليل، الا ان ترك السائق لها جعلها تنحدر الى الخلف، وتستقر وسط غرفة اسمنتية حمتها، بينما تواصل اطلاق النار نحو من المصدر وخاصة ان انوارها تدل على مكانها.

قتل مسلح سوري، واصيب اخرون خلال عملية الوصول الى سيارة الوفد، وتمكن المقاتلون السورين من تحطيم اضواء السيارة بعقب البنادق حتى يخفوا حركتهم، ولاحقا سحبوا الجرحى نحو مناطق اكثر امنا.

لاحقا وبعد سحب السيارة سيفيد التقرير التقني حول اطلاق النار بان في السيارة ٣٠ طلقة من اعيرة مختلفة، بعضها رصاص عيار ٥.٥ ملم (من بنادق ام ١٦ او ام ٤) وطلقات اخرى من عيارات متوسطة، ويقول خبير عسكري لاحد المعنيين بان اطلاق النار تم من مسافة قريبة باسلحة خفيفة، ومن منقطة ابعد قليلا باسلحة متوسطة.

فشلت المفاوضات..لم تفشل

اتجهت سيارة اسعاف الى المنقطة، وتعرضت ايضا لاطلاق نار ولكن غير مكثف، وتمكنت من الوصول، وسحبت عددا من المصابين، واصر الرافعي على الوصول الى عرسال للتفاوض، وهو مصاب بساقه.

في عرسال التقى الرافعي بابو مالك التلة، ومعه عدد اخر من قادة المقاتلين سواء المتطرفين او من الجيش الحر. سمع الرافعي كلاما من ابو مالك بانه ”تم الايقاع“ بهم وزجهم في معركة لا يريدونها، وكذلك قال بعض قادة الجيش الحر انهم لا يريدون القتال في عرسال او في اي منطقة من لبنان، ووافق ابو مالك على استمرار الوساطة ومتابعة التفاوض مع الرافعي وهيئة العلماء، وتم الاتفاق ايضا على وقف اطلاق النار، ولكن جبهة النصرة طلبت ايصال مساعدات غذائية لمخيمات اللاجئين السوريين، ضمان المخيمات وامنها، والسماح بعلاج الجرحى في لبنان.

بالمقابل كانت داعش خارج المفاوضات، وحده نائب عماد جمعة ابو طلال كان يشارك بالجلسة، ويطل احيانا ابو حسن الفلسطيني.

الخامس من اب:

فجر اليوم التالي وصلت سيارة مصفحة مملوكة للنائب جمال الجراح الى عرسال واخرجت سالم الرافعي من داخل عرسال لعلاج قدمه المصابة. ورافق سالم ٣ اسرى لبنانيين اصر الرافعي ان يكونوا من طوائف مختلفة، وليس سنة، وسلمهم الرافعي على مدخل اللبوة لشامل روكز، قائد فوج المغاوير هناك.

صباحا التقى عدد من وفد الهيئة والحلبي بتمام سلام في السرايا الحكومي، وحضر عدد من المسؤولين اللبنانين اللقاء، قال سلام ان هناك من يريد تدمير المنطقة واشعال معركة، ودوركم الا تدعوا الامر يحصل، على الرغم من ان حجم المشكلة كبير جدا، الا انه وفي مقابل من يريد تدمير عرسال فانكم انتم وحدكم من يقدر على القيام بمبادرة هناك.

المفاوضون كانوا محبطين بعد تعرضهم لاطلاق النار، وساد التشاؤم بينهم بالقدرة على الوصول الى حل.

في زاوية ما يسر مصدر لدى تمام سلام لاحد اعضاء الوفد بان: ”من ترككم تمرون هو من اطلق النار نحوكم“.

السادس من اب:

صباحا يصل الوفد المتشكل من الصف الثاني من هيئة علماء المسلمين الى طريق اللبوة عرسال، يستقبلهم قائد فوج المغاوير شامل روكز، يطلب منهم التريث لتأمين الطريق، ويدخلهم الى مكتبه، طوال الوقت يجري حوارات سياسية بوجود مصور فيديو، بينما صوت القصف في الخارج يشتد، تمر الساعة الاولى ولا جديد، يردد روكز: لا بد من تأمين الطريق حتى لا يتكرر معكم ما حصل مع الوفد الاول.

تمر الساعات، وبعد حوالي الساعات الاربع يتم الاتصال بعرسال، حيث يتحدث ابو مالك التلة مع احد اعضاء الوفد قائلا: هذا اسمه غدر، لقد غدرتم بنا انتم والجيش اللبناني، امنا لكم الطريق، وتركنا مواقع مكشوفة لتجنب اي اشتباك وتأخرتم لتتركوا الجيش اللبناني يتقدم على وقع القصف، لم يتوقف اطلاق النار علينا والقصف دائر، كنا اتفقنا على وقف اطلاق النار وانتم تأمرتم علينا.

قام اعضاء الوفد لحظتها وكانت الوقت قد اصبح بعد الظهر، وطلبوا من روكز السماح لهم بالتوجه الى عرسال، او العودة الى بيروت وانهاء المفاوضات.

اتصل روكز هاتفيا وقال: ”اوقف كل شيء“. ثم اذن للوفد بالتوجه نحو عرسال برفقة سيارات اسعاف، حيث كان بانتظارهم مئات المقاتلين والمتطرفين وهم يكبرون غضبا امام سياراتهم، ويرفعون اسلحتهم ويرفضون رد التحية على وفد المشايخ.

السابق
«أستانة 6» وإعلان نصر «الممانعة» فوق «ركام سوريا» المفخخ
التالي
الشيخ ياسر عودة:لست أحمد الأسير الشيعي ويريدون إقصائي لأنني أبقيت المرجع فضل الله حياً