الصفقة مع «داعش» واحتمالاتها

وحدها أجهزة المخابرات تعرف تماماً ظروف (وتفاصيل) الصفقة المعقودة بين حسن نصر الله وبشار الأسد، والتي تم بموجها تحرير مئات من عناصر “داعش”، مع عائلاتهم، وإرسالهم بالباصات المكيّفة الخضراء نحو الشرق السوري، بعد إحراز “الانتصارات” عليهم، في معركة جُنّد فيها الإعلام والأقلام والجماهير، فالمعلومات والتصريحات الصادرة عن الجهات العاقدة للصفقة تصل متناقضة، غامضة، منقوصة. كل يوم تضاف إلى ظروفها معلومة جديدة، سخيفة، قيّمة، معقولة، غير معقولة. ولكن لا سردية موفَّقة حتى الآن، تقنع العقول النظيفة، غير المشوَّشة بالولاء المطلق، فنحن لسنا جهازاً مخابراتياً، لا نعرف إلا ما تقوله “المصادر الموثقة”؛ وقد دخلت هذه الأخيرة في لعبة الغموض هي أيضاً، داعية كلها، بمختلف اتجاهاتها، إلى طي “هذا الملف”، وإحالته إلى لجنة تحقيق، سوف تنجز السردية الكاملة، كما فعلت لجان تحقيق أخرى في قضايا مشابهة…
لذلك، لا طائل من محاولة إعادة سرد تفاصيل الصفقة، طالما أن الغموض والتضارب يلف أركانها. ولكن، بوسعنا أن نسأل، والسؤال قد يمنع إحالة الصفقة إلى الصمت: لماذا تمّت هذه الصفقة، التي نعرف القليل عن تفاصيلها، باستثناء أنها تمت باتفاق بين حسن نصر الله وبشار الأسد، بحسب اعتراف الأول؟ لا نملك “أسباباً”، إنما احتمالات:
الإحتمال الأول أن قلبَي نصر الله والأسد رقيقَان، لا يتحمّلان إيقاع الأذية بإنسان، وبعائلته، حتى لو كان من جماعة “داعش”.. وهذه القلوب الرقيقة أثتبت صدقها في المعارك التي خاضها الاثنان ضد الشعب السوري، برمته، ناهيك عن السجون الأسدية المعروفة بتصديرها الجثث المشوّهة من شّدة التعذيب، فباسم محاربة الإرهاب يقتل الأبرياء، ثم بعد ذلك، عندما تتحقّق “الانتصارات” عليه، يفْلت الإرهاب من الحساب.

اقرأ أيضاً: في منتهى الجد: نهاية إسرائيل بيد نصرالله؟

الاحتمال الثاني أن الصفقة كان من ثمراتها إيجاد مكانٍ دفنت فيه “داعش” الجنود اللبنانيين
“الاحتمال أن قلبَي نصر الله والأسد رقيقَان، لا يتحمّلان إيقاع الأذية بإنسان، وبعائلته، حتى لو كان من جماعة “داعش”” المختطفين في الجرود. يقابلها تحرير جثثٍ وأسير عائدين لحزب الله والحرس الثوري الإيراني. لكن حجة “الكشف” مقابل الإفلات في الباصات المكيّفة لا تصمد أمام وقائع غير محجوبة، عن حقيقة قتل أولئك الجنود ومكان دفنهم، فقط بعد أشهر من خطفهم. بين كشفٍ مزعومٍ عن الجثث و”تحرير” الأخرى، تبدو هذه “الاستراتيجية” هزيلةً لمن كان “التهديد الوجودي للتكفيريين” من صلب تبريراته بمشاركة بشار الأسد في قتل السوريين، ولمن “أذهل العالم بانتصاراته” (التعبير لرئيس مجلس تشخيص النظام في إيران، هاشمي شهرودي).
الاحتمال الثالث أن الصفقة أُبرمت مع “داعش”، بغية حشر عناصرها في أرضٍ واحدة ضيقة، في الشرق السوري: وضع هؤلاء العناصر مع عائلاتهم في هذا الشريط الحدودي الضيق بغية مقاتلتهم، أو قتلهم لاحقاً. وهذه حيثية، لو صدقت، لبانَ الجميع بُلهاء: “داعش” لأن عناصرها يبدو أنهم صدّقوا هذه المزاعم، فارتحلوا في الباصات الخضراء، مبتسمين فرحين. ثم المحور الإيراني، السوري، الحزبلهي، وقد بدت إستراتيجيته خرقاء، مرقّعة. وإذا كان حائك السجاد الإيراني الصبور، الماكر، يعتمدها، كما يفترض، إذ أن نصر الله وكيله الأشطر، فمبرّراته للصفقة تجعله طائشاً، وهذه، على كل حال، ليست من المواصفات المعروفة للإستراتيجية الإيرانية.
الاحتمال الرابع أن ذكاء هذا المحور الإيراني جعله يتصوّر أن القوات الدولية سوف تعترض الصفقة، وربما تقتل عناصر “داعش”. وقد تكون هذه فرصة لتأكيد هذا المحور على إنسانيته، ولطف مشاعره على العائلات والأطفال العالقين في جوف الصحراء، في طريقهم إلى الشرق. وقد أكد على ذلك حسن نصر الله في مواقفه المندّدة بهذا الاعتراض. ولكن دخول أميركا على خط القافلة الداعشية فرصة ثمينة لتجييش الجماهير المؤمنة ضد الولايات المتحدة، وقد نسيتها في أثناء “معركة” الحزب مع الإرهاب. والتحالف الغربي، أي الأميركيين، لا يقوم بأعمال مختلفة: يمنع الباصات الخضراء من متابعة طريقها، يوزّع الماء على راكبيها، ثم يحجزهم أو يتركهم يتبعثرون شرقاً وجنوباً، وأين؟ تحت السماء التي يسيطر عليها الطيران الروسي، منقذ بشار… والجميع، من دون استثناء، يخوض اليوم حرباً واحدة، ضد الإرهاب، لا حرب غيرها.
الاحتمال الخامس أن “داعش” واحد من حلفاء محور إيران، وهي لا تقتل عناصره هكذا، يميناً شمالاً، ففي المعارك السابقة، كانت جيوش هذا المحور ومليشياته تحارب الفصائل غير
“المحاكمة وحدها، لا القتل، سوف ترفد الأصوات المطالبة بدراسة ظاهرة الإرهاب وجذورها ومساراتها، ومعالجة أسبابها ومصادرها” الإرهابية، وتترك “داعش” طليقاً يقاتل هذه الأخيرة، هو أيضاً. قد يكون “داعش” وإيران حلفاء موضوعيين، يلتقيان حول قتل السوريين وتدمير سورية. وقد يكونوا حلفاء “ذاتيين”، تمّت بينهم اتصالات واتفاقيات سابقة على صفقة الباصات المكيَّفة. فإذا خسر هذا المحور “داعش”، ومن قبله جبهة النصرة، تضيع الذريعة التي تُخاض الحرب أو خيضت ضد الشعب السوري. من يقاتلون من بعدهما؟ هل يضطرون، ساعتئذ، للجهر صراحةً بأنهم بصدد قتل السوريين وتدمير بلادهم؟
الاحتمال السادس أنه بالامتناع عن القبض على عناصر “داعش”، وأصلاً بعدم وجود خطة، أو نيّة، لمحاكمتهم محاكمة علنية، لا أقل… قد يكون هذا الامتناع ناجماً عن طبيعة المحور نفسه وعن تجسيداته: لا محاكمة في حالٍ كهذا. بل لا محاكم علنية أصلاً. فهذه الأخيرة تكشف الخيوط، والحقائق، والتمويل، والصفقات.. فضلاً عن التواطؤ ضد سورية والشعب السوري. المحاكمة وحدها، لا القتل، سوف ترفد الأصوات المطالبة بدراسة ظاهرة الإرهاب وجذورها ومساراتها، ومعالجة أسبابها ومصادرها.. حتى وسط كتاب الممانعة أنفسهم، ففي إفلات الإرهابيين، أملاً بقتلهم بعد ذلك ربما، لن نعرف إلا أخبار “المصادر”، ذات العقول الخفية، المخابراتية، المعجونة بالخرافات.
ليس حزب الله وحده مسؤولاً عن ذاك الزلل. الشياطين الخرساء حوله أعلنوا عن مشاركتهم بالصفقة، عن علمهم بها: رؤساء الجمهورية، البرلمان، الوزراء.. وكلهم يريدون إغلاق هذا الملف. يحمّلون أنفسهم وزْر الصفقة، يسترون على حزب الله، يفلتونه، هو أيضاً، من الحساب؛ وكلهم شهية لأموال إعادة بناء سورية. بعضهم يضعف إيمانه بالشيطان، فيخرج بالتنديد والاستنكار، وهما صارا أبطال البلاغة المعادية لحزب الله.. لا أكثر. أما على الأرض، فلا حيلة ولا زغل؛ منضوون تحت لواء الإستراتيجية الإيرانية الفذّة، الطموحة، “المنتصرة” على طول الخط. وقد يخرجون في النهاية من المولد بلا حمص.

السابق
تساؤلات بعد فكّ قوات التحالف الحصار عن «قافلة داعش»
التالي
ترامب ينبذ «حلّ الدولتين» للقضيّة الفلسطينية