دولة حزب الله تحت اسم الدولة اللبنانية

حزب الله
بين المرحلة التي شكلت فيها جماهير الطائفة الشيعية عماد جمهور الحركة الشعبية المنخرطة في نضالات تؤسس لا انقسامات وطنية تتجاوز الانتماء الطائفي والمذهبي ، وبين المرحلة التي سعى فيها الإمام السيد موسى الصدر لمشاركة الكتلة الشيعية في الصيغة اللبنانية واندماجها فيها ،وبين واقع الشيعية السياسية اليوم بقيادة حزب الله مسافة واسعة ، هي المسافة بين الاندماج الوطني تحت سقف الدولة ، وبين سياسات الخروج على الدولة لاكتساب عناصر القوة ومراكمتها وإلتحكم بالقرار الوطني الداخلي والخارجي من ناحية ،وربط الوضع اللبناني بعجلة المشروع الإيراني من ناحية ثانية .

مع انهيار المعادلة الداخلية التي كانت سائدة خلال حقبة الوصاية السورية بدت البلاد مقبلة على إعادة تكوين السلطة، وبدت الحشود في الساحات سبيلا للطوائف المتصارعة لتحسين حصصها في مقاليد هذه السلطة، وبدأ حزب الله – قبلها كان الحزب مطمئنا الى سلاحه وقوته على الأرض في ظل الوجود السوري الى استلحاق حركة امل – في اتباع سياسات للإمساك بالورقة الشيعية، واحتكار القرار السياسي الشيعي، واسخدامهما في مواجهة اي ترتيب دولتي او خيار استراتيجي لا يرضى الحزب عنهما.

وفي هذا السياق بدت ممارسته السيا سية تنفيذا دقيقا لسياسة استخدام حق “الفيتو”، وهي سياسة يمكن اعتبارها الملمح الرئيسي في برنامجه السياسي الجديد لفرض شروطه على الدولة، مع الحفاظ على سلاحه وعلى استمرار خيار المقاومة، كذلك اوحى من خلال السلوك السياسي لفكرة تعديل العقد الوطني المتمثل في اتفاق الطائف وبحيث ينتقل العقد من صيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين الى صيغة المثالثة.

اقرأ أيضاً: هل بات لبنان «دولة حزب الله»؟

ومنذ تدخله وانخراطه في الأزمة السورية، خصوصا بعد معركة حلب ووصولا إلى انتصاراته التي سجلها في معركة جرود عرسال، بنى الحزب كل سياساته على المراهنة على حسم معركة الإقليم لصالحه وحلفائه، وتوظيفها داخليا فبدأ يتخذ خطوات ذات سقوف سياسية عالية تعطيلا للاستحقاقات الدستورية ، ما لم تكن وفقا لشروطه وتصب في مصلحته ،بدءا من تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية لمدة سنتين ونصف وتشكيلا للحكومة ورهن بقائها وفق ارادته، ثم إقرارا لقانون جديد للانتخابات النيابية ،موحيا بأنه يسعى الى اقامة دولة حزب الله تحت اسم الدولة اللبنانية.

ذللك هو المسار الذي سلكه الحزب منذ الانسحاب السوري من لبنان وهو مسار يشكل المدخل الضروري لقراءة آفاق مشروع الهيمنة الذي يحمله والوجهة التي يسلكها .

الافق السياسي لمشروع هيمنة الحزب الناجزة على الدولة والقابلة للحياة والاستمرار، تبدو مسدودة لبنانيا وإقليميا، ولا تتضح هذه الحقيقة ما لم ننتقل من أسر يوميات اللحظة اللبنانية الراهنة، الى تلمس المستوى السياسي الفعلي الذي تستوي عليه إشكالية الموقع الشيعي في المعادلة اللبنانية.

لا شك أن حزب الله يمتلك نفوذا سياسيا داخل لبنان يفوق حصته الشعبية والانتخابية، وبما أعطاه منذ فترة دورا شبه مقرر في معادلة السلطة، ورغم أن لقدراته العسكرية وتحالفاته الإقليمية دورا في تحصيل هذا النفوذ، الا ان قسطا منه يتأتى من مفاوضات وتحالفات ومناورات سياسية، وليس أدل على ذلك من ان التسوية التي تم في ضوئها انتخاب العماد عون رئيسا للجمهورية ما كانت لتتم إلا بعد تحالف أساسي لعون مع القوات اللبنانية وأثر تفاهم أو اتفاق مع تيار المستقبل.
وهنا تحسن العودة الى واقع التوازنات الراهنة بين للطوائف اللبنانية الاساسية، واتجاهات مشاريعها السياسية، بعيدا عن تضخيم واقع أوضاعها، والايحاءات التي تلجا إليها عادة في سياق تعبئة الانصار والقواعد، ففي، حالة الموارنة، ورغم اضمحلال الكثير من عناصر الأساس المادي للموقع الماروني الممتاز، فإننا لا نزال أمام نسخة منقحة عن مشروع سابق، يتراوح بين حدين: حد السعي إلى استعادة صلا حيات رئاسة الجمهورية، عبر الممارسة العملية أو عبر إعادة تشريعها دستوريا، وحد التلويح بالتركيب الفدرالي، ما دامت شروط العودة إلى الماضي غير متوافرة.

اما في حالة الإسلام السياسي السني ممثلا بشكل اساسي بتيار المستقبل، فهو يحاول جاهدا وفي انتظار تعديلات مؤاتية في التوازنات الإقليمية والدولية، وانطلاقا من اتفاق الطائف للحفاظ على موقع محوري في اطار معادلة السلطة.

في موازاة ذلك فإن صعود التعبيرات السياسية الشيعية والسعي إلى تكريس طائفة ملكة، في اطار معادلة السلطة، فإن هذا الصعود يشكل جزءا من المأزق العام الذي لايزال الوضع اللبناني يدور في إطاره ، واذا كان لنا أن نثبت مدى وهمية مشاريع الطوائف المتصارعة فلا بد من تسجيل ونقاش المعطيات التالية:

لقد أثبتت التجربة اللبنانية الحية ان انعدام التمثيل المتوازن للطوائف في الدولة ومؤسساتها، هو من طبيعة النظام الساسي الطائفي في لبنان منذ تأسيسه، وليس أدل على ذلك ، من انتقال الوضع اللبناني في مختلف عهود الصيغة اللبنانية، من صيغة الهيمنة من ضمن الثنائية الطائفية التي كرستها تسوية العام ١٩٤٣ ، الى انهيار الصيغة المذكورة والانتقال إلى صيغة وحدانية الهيمنة المارونية ، معبرا عنها في وصول كتائبي الى سدة الرئاسة الاولى غداة الاجتياح الإسرائيلي في العام ١٩٨٢، ثم الانتقال بعد أقل من سنة إلى بداية انهيار المشروع الكتائبي بعد الهزائم المتتالية التي مني بها ،وإلغاء اتفاق السابع عشر من أيار، لتأتي بعدها غداة اتفاق الطائف محاولات استبدال هيمنة ماضية بغلبة سنية انطلاقا من اتفاق الطائف.

ولعل الخلاصة الأساسية التي يمكن استخلاصها من هذه التحولات، هي إن النظام السياسي الطائفي لم يحم سيطرة المارونية السياسية عندما كانت في موقع الا رجحية، ولم يحم مشروع الموقع الراجح للسنية السياسية، ولا هو في المقابل قادر على ارساء قاعدة للتوازن الطائفي بين الطوائف المتناحرة، لا بل ان مشروع التوازن الطائفي، هو مشروع وهمي يغذي عوامل الصراعات المستديمة حول حصص مفترضة لهذه الطوائف، في حين ان الحسم يرادف الاقتلاع، وهو مفتوح على التقسيم.

وإلى ذلك يمكن أن نضيف، خلاصة ثانية ملازمة للأولى، تشير إلى أن التوازنات داخل كل طائفة، وفي مابين الطوائف، يخضع على الدوام لنسبة قوى دائمة التبدل ، تبعا لجملة من الشروط التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية، المتبدلة هي الأخرى من ناحية، وتبعا لتغير التوازنات الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان من ناحية ثانية.

لقد صعدت المارونية السياسية بالاستناد إلى جملة شروط اقتصادية واجتماعية وسياسية تمثلت في تغلغل الرأسمالية الغربية منذ بدايات القرن التاسع عشر، وبالاستناد الى دور محدد للبنان في محيطه، وإذا كانت التحولات العميقة على المستوى الدولي والاتجاهات الفعلية لحركة رؤوس الأموال العالمية، فضلا عن التحولات التي طرأت على اقتصادات المنطقة خلال العقود الأخيرة، تنفي التصورات المبسطة لإمكانية تكرار دور الوساطة السابق، فهي تشير في الوقت عينه إلى اضمحلال الكثير من عناصر الأساس المادي الذي استندت إليه المارونية السياسية في مرحلة صعودها، والتي يمكن ان يستند إليها اي مشروع رديف أو بديل للمشروع الماروني.

إلى ذلك يمكن أن نضيف ان الفارق جوهري بين صعود المارونية السياسية بالأمس وصعود بقية الطوائف اليوم ، ذلك أن معادلة التوازن بين الاجنحة البورجوازية لهذه الطوائف والجناح الماروني، تشير إلى أن هذه الطوائف لما تزل في الموقع الأضعف، فيما الجناح الماروني يمسك بالمفاصل الأساسية للاقتصاد اللبناني .

في كل حال فإن صعود الحركات السياسية السنية والشيعية لا يقدم مشروعا توحيديا للبنان، يشبه أو يتناقض مع المشروع الذي قدمته المارونية السياسية ذات يوم، والتوحيد هنا هو التوحيد المستند الى الالحاق ،فلا الأكثرية العددية، ولا السلاح، ولا المعادلات الإقليمية المؤاتية، تشكل عوامل كافية لإعطاء طائفة ما أو مذهب ما القدرة التاريخية على التوحيد.

اقرأ أيضاً: هذه حالنا… نحن رعايا «دولة حزب الله»

باختصار نقول ان الطور الجديد من المأزق التاريخي للنظام الطائفي اللبناني، لا يزال يدور اليوم بين قوى ومشاريع طائفية لا تملك موضوعيا مشاريع توحيدية. لقد بات صعود الشيعية السياسية والمسار الذي يسلكه و واقع الهيمنة أكثر فأكثر على قرار الدولة اللبنانية، يشكل عامل حقن للوضع اللبناني بالمزيد من عوامل الانقسام الطائفي والمذهبي، وبدلا من ان تكون الغلبة وسيلة الحاق قسري لبقية الطوائف، فإنها مرشحة لان تولد نقائضها الطائفية والمذهبية المقابلة، وهي نقائض مفتوحة في كل حين على التناحر العبثي بين مشاريع لا تملك مقومات الحياة ، وهي مفتوحة إلى ذلك على احتمالات التركيب الفدرالي الصريح اوالمقنع ، المستند إلى واقع التشكل الطائفي على الأرض ، ولا يصعب طبعا إثبات أن مثل هذه الصيغ، لا يمكن أن تؤدي الا إلى تجديدعوامل الحرب الأهلية، فدويلات الأمر الواقع تربة خصبة للصراعات التي يثيرها اي تعديل أو اي ذبذبة في المعادلات الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان.

خلاصة المشهد اللبناني ، في ظل هذه البانوراما المتدحرجة، هي سؤال بمثابة خاتمة تفتتح النقاش ولا تقفله: حزب الله ومشروعه للغلبة، هل هو مشروع للهيمنة على الدولة، أم هو مشروع حروب عبثية مستديمة بين الطوائف والمذاهب اللبنانية المتصارعة؟

السابق
سرقة موصوفة للمواطنين في السجل العدلي: الطوابع بـ4000!
التالي
بعد ست سنوات على اندلاعها: المجتمع الدولي يتخلى عن الثورة السورية