مقتدى الصدر في السعودية: اختراق محفوف بالمخاطر

زيارة زعيم «التيار الصدري» في العراق السيد مقتدى الصدر إلى المملكة العربية السعودية لا تأتي من فراغ. قد تكون الزيارة شكلت مفاجأة وربما صدمة لكثير من خصومه العراقيين ولطهران تحديداً، لكنها خطوة منتظرة لمن يعرف الرجل جيداً، تُعبّر عن رفع منسوب المواجهة إلى حدها الأقصى في معركة استعادة العراق من الهيمنة الإيرانية أو بتعبير ألطف إعادة التوازن إلى العراق.
قد يكون من الصعب بمكان النظر إلى مقتدى الصدر من زاوية مغايرة لإنضواء القيادات الشيعية الرئيسية في العراق في كنف العباءة الإيرانية. غير أن نخباً عراقية خَبِرَته لسنوات يسودها اليقين بعراقيته الخالصة وبعروبته الحقة، لا بل تراه الشخصية التي يمكن الرهان عليها لـ «تغيير ما» في العراق.
الدخول إلى مكنونات الرجل ليست بالأمر السهل. لكن من رافق حركته السياسية والشعبية ولاسيما منذ بدء مسار الاحتجاجات، خرج باستتناج أن هناك تياراً يريد إيصال رسالة واضحة بأنه يرفض الوصاية الإيرانية واستيلائها على الدولة وتغلغلها في جسد المؤسسات العراقية. وثمة حقيقة أبعد من ذلك يريد ترسيخها، وهي أن التشيّع ليس إيرانيا، إنما عربيا في الأساس وُلد في الكوفة ثم انتقل إلى إيران. هذا التيار لا يجسده الصدر وحيداً، فالمرجع الديني السيد علي السيستاني يُشكّل ركيزة أساسية فيه، بتأكيده الدؤوب على عراقية التشيّع وعراقية الحوزة العلمية وضرورة أخذ مسافة عن طهران الطامحة إلى نقل مرجعية النجف إلى قم.
في رأي أحد الناشطين العراقيين أن أهمية الصدر تكمن في امتداده الجماهيري وفاعليته السياسية والشعبية على الأرض وسطوته على جمهوره الواسع المطيع الذي ينظر اليه على أنه الرمز و«الأيقونة»، ما يوفر له مظلة لخطوات كبيرة ساهمت في وضع ضوابط صارمة لعلاقته مع إيران أدت إلى أزمات فعلية معها، بحيث أن ما هو غير مكشوف فيها أكثر بكثير مما هو مكشوف، ذلك أن العلاقة وصلت في فترات سابقة إلى حد القطيعة التامة.
ذاك التمايز للصدر كزعامة شيعية رئيسية ومؤثرة في إبراز الانتماء العراقي على ما عداه من انتماءات شكّل عاملاً أساسياً في إحداث الاختراق مع السعودية. غير أن هذا الاختراق ما كان ليحصل لولا المقاربة المختلفة للرياض للملف العراقي في ضوء الاستراتيجية السعودية لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة وكيفية التعامل مع مرحلة ما بعد دحر تنظيم «الدولة الإسلامية» من المحافظات السنية العراقية، والأهم التعامل اليوم بواقعية مع التحولات السياسية التي أفضى إليها الغزو الأمريكي في عام 2003.
صحيح أن العلاقات على المستوى الرسمي بين البلدين شهدت خطوات على طريق الإنفراج، كان من ثمارها زيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى المملكة والاتفاق على إنشاء مجلس تنسيق بين البلدين بعد زيارة لوزير الخارجية عادل الجبير إلى بغداد، إضافة إلى زيارة لوزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي في إطار الترتيبات الأمنية والاستخباراتية وفتح الحدود، حيث سيعاد فتح منفد عرعر بشكل دائم، المنفذ الحدودي الوحيد بين البلدين. إلا أن لزيارة الصدر وقْعاً أكبر وبُعْداً أخر، ما يجعلها إختراقاً فعلياً في الوجدان الشعبي على الضفتين.
وقراءة المشهد السعودي تشي بأن الواقعية السياسية في التعامل مع العراق ناتجة من حقيقة لا يمكن القفز فوقها، وهي أن الشيعة يشكلون الأكثرية، وبأن مقاليد الحكم أضحت في يدهم. حقيقة لا يمكن تجاوزها، غير أن ثمة حقيقة أخرى تكمن في أن شيعة العراق مكون عربي، وأن الهيمنة الإيرانية على العراق أسهمت في ابتعاده عن محيطه العربي، ما يعني أن إعادة تصويب المشهد تحتاج إلى شراكة مع الشيعة العرب في الانتماء والنهج والبعد القِيمي من أجل إستعادة العراق إلى عمقه العربي أو على الأقل إعادة نوع من التوازن إليه.
الإنكفاء لم يكن سعوديا أو خليجياً فحسب، بل كان أيضاً عراقياً، حيث جرى تغذية شعور التقوقع الطائفي واستعداء ليس فقط السعودية والخليج بل كل ما هو عربي في تعميم الربط بالإرهاب والإرهاب بالسنة. السلاح المذهبي الذي استخدم منذ غزو بغداد عمّق الشرخ بين المكونات العراقية، ولاسيما بين الشيعة الذين كانوا يشعرون بالغبن من نظام صدام حسين، وبين السنة الذي أحجموا عن الانخراط في حكم ما بعد صدام مع شعورهم بالهزيمة، وساهمت حكومة نوري المالكي في تعزيز هذا الشرخ وفي تهميش المكون السني الذي دفع فاتورة سياسية واجتماعية واقتصادية وحضارية باهظة في مدنه ومحافظاته مع سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» عليهاً ويدفعه راهناً بعد دحره.
لكن السؤال البديهي يكمن في فَهْم ما الذي يمكن أن تحققه هذه الزيارة من نتائج؟ وهل يمكن لخطوة كهذه أن تمحو العداء بين شيعة العراق والمملكة والإرث الثقيل بين السنة والشيعة في غير مكان؟
في رأي مقربين من «التيار الصدري» أن الزيارة «كسرت الجليد على المستوى الشعبي في البيئة الصدرية وحتى في بيئات أخرى. ومن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي يرى أن الصدريين بدأوا يعبّرون عن حال من عدم الرضى عن الإجماع الشيعي على عداء السعودية، ويبدون نوعاً من التعاطف معها ربما امتعاضاً من إيران. المهم أن الصورة النمطية الموجودة لدى الجانبين يجب أن تتغير. وهذه هي البداية. السعودية مقبلة على تغيير في الخطاب وتنحو نحو خطاب أكثر اعتدالاً بمقدار ما العراق مقبل هو الآخر على ذلك وربما بوتيرة أكثر وأكبر. فالمنطقة كلها تبحث عن صوت شيعي في العراق معتدل ووازن ومؤثر شعبياً. لقد فتشوا، فلم يجدوا إلا صوت هذا الرجل».
على أن التحدي اليوم يكمن في كيفية العمل على تعزيز الخطوة الأولى. التحدي على الضفة العراقية أكبر مما هو على الضفة السعودية، ذلك أن المتضررين ضمن القيادات والأحزاب الشيعية المتحالفة والمتناغمة مع سياسة طهران هم كثر، وهؤلاء بمقدورهم أن يعرقلوا، وأغلب الظن أنهم لن يسمحوا بترجمة نتائج الزيارة. فمن النتائج الأولية لزيارة الصدر، الاتفاق على تمويل السعودية لمشاريع انمائية في جنوب العراق، وستكون البداية ببناء مجموعة من المستشفيات الضخمة في محافظات الجنوب، ما يضع مسؤولية على حكومة حيدر العبادي في هذا الأطار، التي يؤكد مطلعون أن خطوة الصدر تتلاءم مع توجهاته.

إقرأ أيضاً: مقتدى الصدر يهزّ الشباك العراقية

والرهان الأكبر أن تتعزز الخطوات المقبلة بما يُسهم في رأب الصدع الداخلي، فحجم الضغائن والأحقاد والكراهية كبير. وما يدعو إليه الصدر هو مصالحة مجتمعية وليس مصالحة سياسية، ذلك أن المصالحة السياسية لن تتعدى توزيع المغانم والحصص بين أركانها، فيما المطلوب العمل على تنقية الذاكرة الجماعية وإعادة اللحمة بين الناس. وعلى الرغم من الحدث المهم الذي شكلته زيارة وفد من أهالي الموصل إلى النجف مؤخراً ولقائه الصدر، إلا أن ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي كشفت عمق الهوة. غير أن الصدر القادر على التأثير في جموع جماهيره يبقى هو الأقدر على مهمة كهذه، في رأي عارفيه، لاقتناعهم انه اليوم الشخصية الشيعية السياسية الأكثر قبولاً في الشارع السني.
ما يؤكده الصدر وسط بيئته أنه عازم على خوض الانتخابات البرلمانية بكتلة عابرة للطوائف من وجوه جديدة تغلب عليها سمة التكنوقراط والمستقلين لمواجهة نظام المحاصصة القائم، وأنه عازم على تغيير قواعد اللعبة السياسية. هدف تتلاقى معه السعودية دون شك، ومن شأنه أن يؤول إلى تجيير مكامن قوتها في الوسط السني لصالح هكذا كتلة، إذا قُدّر لها أن تبصر النور. فقبل خطوته في اتجاه السعودية والخليج، كان حجم الخطر عليه كبيرا جداً، وقد كشف مرات عدة خلال الأشهر الماضية عن تعرّضه لمحاولات إغتيال، متوقعا عدم بقائه حياً إلى وقت الانتخابات. وهو يبدي اليوم خشية أكبر من اغتياله، خصوصاً أن خصومه في السياسة يرون في الزيارة «إعلان حرب»!.

إقرأ أيضاً: مقتدى الصدر

يجنح كثيرون إلى المغالاة في التوصيف والاستنتاجات والتوقعات والتمنيات لأي حدث، وهو ما يمكن إسقاطه على هذه الزيارة. الأكيد أنها خطوة جريئة تأتي في توقيت بالغ الأهمية، لكنها بداية لا يمكن التهكن بما ستؤول إليه من نتائج لدى الطرفين، وبما ستتعرض له من نكسات. والأكيد أن علاقة الصدر بإيران متوترة نتيجة اختلاف حول سياستها تجاه بلده، إنما القول إنه قادر على قلب الطاولة عليها وتجاوزها وإدارة الظهر لها ليس واقعياً ولا متوقعاً، فقد نراه غداً في طهران. والأكيد أيضاً أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم يطلب من ضيفه أي وساطة مع إيران التي يعرفها حق المعرفة. الاثنان قالا ما لديهما… وافترقا على اتفاق مفتوح على كل الاحتمالات.

السابق
الأسد يسأل :أين بري؟
التالي
لبنانيون يستهجنون الأساليب الترهيبية وكمّ الأفواه وإسكات الأحرار