«الروسفوبيا» لدى الشعوب تطلب حماية أميركا

خالد العزي
ما هي الروسفوبيا؟؟؟

في ظل التصعيد الجديد على الساحة الدولية واغراق دولها وشعوبها بلهيب الحرب الاهلية والازمات الاقتصادية، نرى المشهد يأخذ من جديد منحى الصراع بين القوتين العظميين (روسيا- أميركا) في العالم.

إقرأ ايضا: العلاقات الأميركيّة – الروسيّة الى تراجع… بانتظار أيلول القادم

يحاول الاعلام العالمي والاميركي تصوير المشهد المتصارع بعودة الوحش الروسي العائد للساحة الدولية بقوة، حيث يعمل على استعادة مواقع جغرافية كان قد فقدها في ذروة الانهيار الروسي عام1989.

امام هذا المشهد المرعب للتجربة الروس – سوفياتية، اضحى العالم كله يعاني من الخوف والعقدة الروسية والتي تسمى باللغة الادبية “روسفوبيا”.

هذه الصورة التي يستصدرها الاعلام السياسي بعد تعبيرات كثيرة  اطلقها سياسيون اميركيون والمخابرات الاميركية تمجيد بدور وقدرة المخابرات الروسية بعد عملية الاختراق الامني الالكتروني لشركة “كاسبرسكي الروسية” التي تشرف على شركات امنية واقتصادية اميركية كثيرة وظهرت مفاعيلها في عملية التدخل لنتائج انتخابات الرئيس دونالد ترامب، وبهذا ساعد واشنطن على اظهار قدرة المخابرات الروسية، لتخويف البشر من الوحش الروسي الذي تعرف اميريكا حجمه وقدراته الحالية.

الولايات المتحدة ترى مصلحتها الخاصة بإعادة وتفعيل الدور الروسي المحدود في العالم، كي يكون دورا مساعدا في تحقيق اهدافها الكامنة بالسيطرة الاقتصادية العالمية، وعدم الافساح لأي دور اوروبي اوعالمي بالنهوض المستقل، وتشكيل قطبية عالمية جديدة لإدارة المشاكل الدولية.

فعملية الصراع الروسي – الاميركي والذي تتجه الانظار حاليا نحوه يصب في مصلحة واشنطن، فان عملية الرد الروسي المفاجئ بطرد دبلوماسيين اميركيين ردا على عقوبات فرضتها الادارة السابقة قبل رحيلها بسبب تورط موسكو في عملية التلاعب والتزوير الانتخابي يمكن اميركا من نشر افكارها بتوسيع العداء بين روسيا وشعوب مستضعفة. واشنطن عبرت على عملية الطرد بلسان الرئيس ترامب نفسه: “الذي شكرا موسكو على طرد الدبلوماسيين والذي سيوفر علينا اعباء مالية كبيرة”.

روسيا تعلم بان رد واشنطن سيكون قاسي واصعب في ايلول القادم من رد موسكو، مما دفع بنائب رئيس الحكومة الروسية والمشرف على التصنيع الحربي “ديمتري رغوزن” بالتعليق لوكالة ايتارتاس الروسية بأن نامل “لا تتخطى العقوبات الاميركية الفضاء الذي نعمل على التنسيق بيننا لمصلحة البشرية وان تبقى في حدودها الارضية”.

تحاول واشنطن اعادة ابراز الدور الروسي الفاعل القوي وفقا لمصالحها الخاصة التي تتحكم بقرار روسيا من خلال اعادة التركيبة الجيوسياسية ورسم الخرائط الدولية وفقا لما يناسبها ويناسب مصالحها المالية والاقتصادية.

الدور الروسي بنظر الولايات المتحدة هو دور مقاول لأعمل تكلفه بها واشنطن يحاول القبول بها والعمل على تنفيذها بسرعة قبل تغيير مواقف الادارة منها.

تستند الولايات المتحدة على موقفها في التعامل مع روسيا الجديدة القائمة على إدارة اجهزة أمنية ومافيات اقتصادية تطرح مصالحها فوق كل اعتبار، بالرغم من محاولة موسكو دغدغت الشعورالروسي بنفس التوجه القومية لإحياء الإمبراطورية الروسية واعادة تفعيل الدور الروسي السوفياتي القديم.

روسيا الامبراطورية استطاعت تفعيل دورها القومي من خلال مفاهيم دينية متعلقة بأحياء الصراع المسيحي- المسيحي، المدافعة عن العباءة الأرثوذكسية، والتي اعطتها شرعية في حماية نفسها وتأمين الحاضنة الشعبية.

وهذا الحال تجدد مع روسيا السوفياتية التي منحتها الثورة البلشفية حق الدفاع عن العمال والفلاحين والطبقة العاملة، مما خولها قيادة نصف العالم والدخول في حرب عالمية ثانية جسدت انتصاراتها في السيطرة على الشعوب الفقيرة بعد انقسام العالم الى قطبين.

لكن الحال اختلف مع روسيا (البوتينية) الذي حمل سيفها الرئيس فلاديمير بوتين من خلال تقديم نفسها الوريث الشرعي للإمبراطورية القصرية وروسيا الشيوعية، واعاد دغدغت الشعور القومي الروسي بإحياء حلم الامبراطورية الروسية الجديدة من خلال مبادئ جديدة تقوم على المصالح الاقتصادية والمالية مبتعدا عن الافكار الدينية والأيديولوجية التي حكمت الحقبتين (القيصرية والشيوعية).

امام هذا الحلم الذي يعيش امجاده صقور الكرملين يعاني العالم كله من عقدة الخوف الروسية والتي تسمى “روسفوبيا”، التي تشكل مصدر نزاع وخوف مع كل الدول المحيطة بروسيا والتي عاشت بكنف الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.

فالروس الذين لا يعرفون سوى سيطرة المخابرات والاعتقالات واستخدام القوة العسكرية لا يمكن الثقة بهم وبإعطائهم دورا جديدا في ادارة المنطقة مجددا في اعادة العلاقات المفقودة بين هذه الشعوب والطموحات الروسية، فلا الحقبة الزمانية تسمح بذلك مع التطور التكنولوجي والمعلوماتي وانفتاح العالم بعضا على بعض بعد انهيار جيدا برلين وسيطرة العولمة الاقتصادية على العالم، ولا امكانية روسيا الاقتصادية تسمح بالسيطرة على العالم مجددا بظل انهيارالاتحاد السوفياتي الاقتصادي والاخلاقي والامني والاجتماعي، والازمات المالية والامنية الذي يعيشها العالم وروسيا من ضمنه.

فاذا حاولنا النظر تاريخيا بأزمة العلاقة الروسية مع الدول السلافية المجاورة فإنها  تطرح مساءلة اساسية في تعامل روسيا الفوقي مع هذه الدول التي تنتمي مذهبيا وعرقيا ولغويا اليها.

فهذه الدول التي وقفت تاريخيا مع الاخ الاكبر في صراعه الطويل مع الدول الطامعة به، روسيا كانت تنسى ذلك وتتركهم لوحدهم بعد تحقيق اهدافها والوصول الى غايتها، ففي حرب القرم مع الدولة العثمانية وقفت كل هذه الشعوب الشرقية الى جانب روسيا وحاربت معها وحتى غيرت اعلامها الى اعلام تشبه العلم الروسي، لكن روسيا تتركهم مجددا لمصيرهم.

ففي ثورة 1917 لم تنجح الثورة البلشفية لو مشاركة دول اوروبية شرقية وانضمامها لهذه الثورة كـ”اوكرانيا وروسيا البيضاء وملدوفيا وجورجيا” والقبول بالغة الروسية بديلة عن لغة الام والعيش في حضن وكنف الدولة السوفياتية الحديثة.

فاذا نظرنا الى العداء والكره الكامن في شعوب اوروبا الشرقية لروسيا فأننا نأخذ تجربة الدولة البولونية التي وقعت ضمن اطماع هتلر في العام 1939 الذي احتل بولونيا وحاول الشعب البولندي التصدي للاحتلال “الهتلري” والذهاب الى مناطق بولندا الشرقية القريبة من روسيا، لكن الروس وقتها سارعوا لتوقيع اتفاق (هتلر- ستالين في ايلول 1939) حيت تم التوافق بينهما على تقاسم بولندا “شرقية لروسيا وشمالية لألمانيا”. وهذا التصرف ساهم بتشنج العلاقات لاحقا، ورفع مستوى العداء الدائم مع روسيا التي باعت بولونيا، وفيما بعد احتلالها من جديد لتوضع طويلا تحت رعاية روسيا.

هذا العداء والخوف الذي سببته الهمجية الروسية في دول حليفة وقريبة روسيا تجسد بالخوف الدائم التي اطلق عليها “روسفوبيا”.

العداء لم يكون وليد الصدفة، بل نتيجة تصرفات عدائية استكباريه مارستها سلطة المخابرات ضد شعوب هذا المنطقة، حيث تم تصنيف شعوبها بين مؤيد للثورة وبين معادي للثورة الاشتراكية المفروضة من قبل اجهزة امنية ليس لها اية علاقة بالاشتراكية واليسارية والانسانية.

فالعداء الذي تجسد في بولندا تجسد بالخلاف الذي حصل في عام 1980 مع عمل نقابة التضامن التي وقفت بوجه النظام الاشتراكي ووجهت لروسيا اول اسفين في انهيار نظام موسكو الحديدي، فالأمر لم يقتضي عند بولندا بل تتطرق الى قمع الثورات في حديقة الاتحاد السوفياتي والتي عرفت بربيع بودابست (هنغاريا 1956)، وربيع براغ (تشكوسلوفاكيا 1968) وربيع الدول السوفياتية حيث قمعت روسيا كل تظاهرات الجبهات الشعبية التي انتفضت بوجه النظام السوفياتي السابق عام 1989 في جمهوريات” البلطيق وجورجيا وأذربيجان واسيا الوسطى” وصولا الى ممارستها الوحشية في افغانستان وسوريا، حيث صعدت الدبابات على اجساد المواطنين الذين اعتصموا في الساحات، وقصفت الناطق السكنية بأحدث طائرات السوخوي، وقد لعب وقتها القناصون الروس دورا هاما في قمع هذه الحركات الشعبية والتي لم يعرها الروس اي اهتمام انساني او حقوقي، فكل الافلام الوثائقية عن تلك الحقبة تشير الى فظاعة التصرفات الروسية مع هذه الشعوب.

وهذه المعاملة تضاف الى السجالات الروسية القمعية التي شكلت الخوف والعداء لدى الشعوب ضد روسيا وتشبه تعامل ستالين سابقا مع جنرالات القيصر وضباط الجيش الاحمر ومثقفي روسيا بأعادهم الى سيبيريا ووضعهم في معسكرات”الكولاك”، وسجلات المخابرات الروسية التي فتحها حركة التغيير (البروسترويكا) تؤكد الظلم.

لكل دولة لها قصصها التاريخية مع روسيا تبتدأ بالقمع والسجن والعذاب الناس الذي مارسته المخابرات والطبقة السياسية الحاكم، وتنتهي بالاحتلال والتهميش، مما وضع هذه الشعوب في عداء مستمر مع موسكو وسياستها.

استطاعت الولايات المتحدة استشفاف هذا الشعور لدى شعوب المنطقة مما دفعها اكثر المراهنة على توسيع الهوة بين روسيا وشعوب هذه المنطقة التي تحاول الاستنجاد باي قوة لمساعدتهم في الوقوف بوجه روسيا التي تشكل لهم “روسفوبيا”، واشنطن تعلم جيدا بان احتواء روسيا سيمكنها اكثر من التغلغل في هذه المنطقة التي تكن العداء لروسيا وترفض وجودها وعودتها على الساحة الدولية خوفا من ظلمها وتصرفاتها القمعية.

ذاكرة الشعوب حية لا يمكن شطبها، حتى لو مرّ وقتا طويلا على الاحداث لكن التاريخ الاليم والاحداث البشعة لا تنسى بسرعة وانما تورت للأجيال.

وللنظر في الخارطة الجيوسياسية الجديدة فإننا نرى بان التوافق الروسي- الاميركي يسير بطريقه الصحيح، حسب الاستراتيجية الاميركية المرسومة للسيطرة الدولية على القرار السياسي والاقتصادي، وليس وفقا للإفاق الروسية ترسمها مافيات الكرملين.

روسيا تنفذ الاجندة الامريكية في سورية وتعمل على انتزاع شرعي لوجودها لقوة عسكرية من خلال المفاوضات والاتفاقات الروسية الاميركية، فأميركيا تطلب من روسيا كبح ايران والمليشيات الشيعية الموالية لها، وروسيا تظن بانها تساير اميركا للوصول لمبتغاها الخاص الذي يفرضها لاعبا اساسيا ويفتح الطريق امام مفاوضات لملفات اخرى قيد النزاع.

روسيا تؤيد العقوبات الاميركية على كوريا الشمالية وتمررها بدعم استخدام الفيتو في مجلس الامن، ولا تعارض الهمروجة الاعلامية التي تمارس ضد كوريا الشمالية لكونها ترى بان تنفيذ المطالب الامريكية سيعزز الثقة اكثر فاكثر بين اللاعبين.

روسيا بدأت تخفيف دعمها للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وتفتح ممثلية لحكومة الوفاق الوطني في موسكو، وتنهي “سينفونيتها” التقليدية التي حملتها ابان تدخل حلف الاطلسي في ليبيا، واتهامها للغرب بالمؤامرة على ليبيا ومصالحها، بالرغم من موافقتها على القرار الاممي، ظنا منها  انها تساعد الولايات المتحدة بأقصاء الاتحاد الاوروبي عن لعب اي دور سياسي قادم في ليبيا، مما يساعدها باعادة حصولها على عقودها السابقة في ايام دولة العقيد معمر القذافي.

روسيا تحاول عرقلة الاتفاق الاوكراني الذي رعته الى جانب الدول الاوروبية (المانيا فرنسا بولندا)، والذي عرف باتفاق النورماندي والذي سمي لاحقا باتفاق مينسك.

تأمل صقور الكرملين من كل هذه التسهيلات التي تقدمها للإدارة الاميركية الجديدة بالالتفاف على القرارات الدولية في اوكرانيا، كما في سوريا في فتح باب الحوار مباشرة مع واشنطن لتمرير صفقات خاصة بعيدة عن القانون الدولي.

اما بالنسبة للاختراق الالكتروني الروسي للمؤسسات الاميركية لم يكن بعيدا عن رؤية المخابرات الأميركية التي سمحت وغضت النظر عن ذلك، مما سيمكن اميركا الرد بالمثل على تصرفات روسيا.

لقد باتت روسيا تشعر جيدا بان الرد الاميركي الحقيقي سيكون في فترة الانتخابات الرئيسية القادمة، والبرلمانية القادمة، عند ذلك لن تتمكن روسيا التعليق او الرد على ذلك.

وهذا ما اشار اليه وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بان روسيا تشرف على نشاط  المعارضة الروسية الحالية.

الاستراتيجية الأميركية تسير وفقا لخطة الطريق التي رسمتها واشنطن في افغانستان حيث عظمت دور المخابرات السوفياتية (كي جي بي) وقوتها، مما ادى الى اسقاط الاتحاد السوفياتي.

فالتعظيم والتجليل لدور المخابرات الروسية (في اس بي) سوف يؤدي الى انهيار روسيا  الاتحادية، وهذا السيناريو سيعمق الهوة بين الشعوب التي تكن بالعداء لروسية وصقور الكرملين التي تتبجح بدورها القادم مما يؤكد “روسفوبيا” لدى المعارضين لهذا النهج بالمساعدة والطلب والحماية الاميركية كما حال اوكرانيا وجورجيا.

إقرأ ايضا: العلاقات الأميركية الروسية… من سيّئ الى أسوأ!

وربما تأمل روسيا بعلاقتها المفردة مع امريك بفك العقوبات الاقتصادية المفروضة على عنقها بخصوص احتلال القرم من خلال تزلفها لواشنطن التي سوف يكونها ثمنها غاليا، لان العقوبات التي وضعت على نظام الكرملين مرتبطة بالانسحاب من الجزيرة وتطبيق اتفاق مينسك حيث ترتبط هذه الخطوة بعظمة وهيبة بوتين الذي بنى عليها امجاد روسيا الجديد.

*كاتب وباحث بالشؤون الدولية
السابق
بالوثائق: الضرائب تستهدف فقط فقراء الوطن.. ولا ضرائب على المصارف
التالي
استخدام الطاقة الشمسية لتحلية مياه البحر