ثمة من يريد استنساخ التجربة البعثيّة في لبنان

ليس تطبيعاً ما ينتهجه الافرقاء اللبنانيون في التعاطي مع النظام، غالباً ما يكون التطبيع بين دول متوازنة، فيه شيء من الندّية. مقومات التطبيع غائبة في المعادلة اللبنانية السورية. بعث سوريا الأسد، لا يعترف بلبنان، سوى أنه خطأ تاريخي، يعاد تصحيحه اليوم ليس جغرافياً فحسب عبر مسح الحدود ودمجها، بل سياسياً، أمنياً، وعسكرياً، وحتى مالياً، إذ إن الرافد المالي إلى الداخل اللبناني سيرتكز على الاعمار السوري. سيستعيد النظام الجائزة اللبنانية، تعويضاً عن خسارات أو تنازلات مني بها في محافظات سورية أخرى. وستعزز إيران حجم نفوذها في سوريا عبر استلحاق لبنان، مسلِّماً مستسلماً، أيضاً كتعويض عن إبعادها عن مناطق معينة. ما يكرّسه الأفرقاء اللبنانيون المنضوون تحت راية عهد جديد، هو تقديم أوراق الاعتماد لدى النظام السوري.
غالباً ما يستجدي تقديم أوراقه، من جرى تطويعه. يعود هؤلاء إلى ربوعهم، كما نجح الابتزاز السياسي في انجاز التسوية الرئاسية وتطويع معارضيها. قد يكون نجح علي مملوك وغيره في تطويع اللبنانيين لإعادتهم. حالات التطويع هذه تحتاج إلى تضييق الخناق، وتشديد الرباط حول الرقاب. يفرض الغالب تحديد أنفاس المغلوب، احصاءها، كتمها حين تقتضي الحاجة، وإطلاق العنان لها في لحظة تخلٍّ.

اقرأ أيضاً: لبنان والتطبيع مع الأسد

تخطّت معركة التطويع عتبة المؤسسات، بكوادرها والقائمين عليها. لم يعد الهدف تطويع السياسيين. هذا حصل منذ أشهر، ومنذ أسابيع. فقدت فسحة الحرّية التي تغنّى لبنان بها سنين مديدة. أصبح الإعلام موحّد التوجه والمصطلحات. معركة جرود عرسال أو الصفقة التي حصلت، عممت النموذج البعثي السوري لوسائل الإعلام. للخبر مصدر واحد، بسياق واحد وصيغة واحدة. حتى غدا التعاطي الإعلامي مع الإعلام الحربي، كأنه الوكالة الوطنية للإعلام. نقلت وسائل الإعلام الأخبار والمعلومات عن الإعلام الحربي، وكأنه الإعلام الرسمي. لم يعد أحد يذكر أن هذا الإعلام تابع لحزب معين. محاولات عديدة تجري لاستنساخ التجربة في معركة الجيش ضد تنظيم داعش في جرود القاع ورأس بعلبك. بين فينة وأخرى يصدر الإعلام الحربي بياناً أو خبراً، تتناقله وسائل الإعلام وكأنه خبر رسمي، فلا يذكر أحد عبارة “الإعلام الحربي التابع لحزب الله”.
تتخطى الطواعية حدود المعقول والمنطق. حتى من أراد تطويع لبنان، كان يتوقع مواجهة صعوبات أكبر في الأمر، ولم يكن يحلم بغير القليل، بتطويع بعض الساسة، ومفاتيح القرار. يحظى هذا اليوم بما هو أكبر بكثير. ثمّة من يتحمّس لتطويع المجتمع، لتطويع الناس، وليس المؤسسات والإعلام فحسب.
خبر اللبنانيون عميقاً مدرسة الأسد، وبعثيته. لهم معها باع طويل، حتى انطبق عليهم المثل القائل “رُبّ تلميذ فاق أستاذه”. ففي الشام، قد يجد شخص نفسه قادراً على التغريد منتقداً، معارضاً ومصوّباً. وهذا قد يُفقتد في بيروت. ثمة من تغلبه حماسة العودة إلى حضن الأسد، فيريد اطلاق النار على الكلمات، أو التغريدات. يريد تكبيل الألسن، وطغيان أصوات السلاسل.
من يركض خلف تقديم أوراق اعتماد تطويعه، يتعاطى بإرغام من يقدر على التأثير عليهم لتطويعهم. هكذا هي المعادلة التي تحكم لبنان اليوم. أحد يخنق شعباً بغازات سامة وكيماوي، وآخرون يريدون خنق شعب آخر بكلماته. لم يكن أحمد إسماعيل وحيداً في مصابه. هو السابق وكثيرون سيلحقون، كان قبل أحمد إسماعيل، كثر، وبعده سيكون كثيرون.
لم يشهد لبنان، حالة من فقدان الثقة، وحرية الرأي كما يحصل منذ أشهر. مغردون، ناشطون، أصحاب رأي، أو حتى بشر عاديون، زجوا في أقبية التحقيق والتهديد، واطّلعوا على ابتكار جديد، على تعهّد يجب عليهم توقيعه بأن يكفّوا عن ابداء رأيهم أو اعتراضهم، تجاه مسؤول، أو حزب، أو طرف أو قضية. هو استنساخ التجربة الأسدية، ومسعى لتعميمها. لا يريد هؤلاء الاكتفاء بتطويع لبنان، يهدفون إلى تطويع اللبنانيين. هكذا ينظرون إلى مكامن قوتهم.
رمزية أحمد إسماعيل، أن توقيفه وتهديده ومطالبته بتوقيع التعهد بعدم ابداء اعتراضاته على وسائل التواصل، أو مغادرة البلد إذا لم يعجبه ذلك، تتخطى كل ما هو محظور. ما تعرّض له إسماعيل، هو رسالة يراد لها أن تصل إلى الجميع، بأن الخيمة منزوعة من فوق رأس الجميع، لا تاريخ يحمي مناضلاً، ولا كتب تحمي مثقّفاً. ما جرى لإسماعيل، هدفه خطير جدّاً، فقبو التحقيق كفيل، بتحويل المقاوم إلى عميل. هذا ما أوحي به إلى أحمد خلال توقيفه أو تهديده. الرسالة هي أن الملف سيكون جاهزاً فوراً. وقد يطال كاتباً، صحافياً، مفكراً أو أياً كان. والتهمة أيضاً جاهزة. إما العمالة أو الارهاب، أو المساس بالأمن القومي.
ليست المسألة محصورة بعودة لبنان إلى سوريا، تطبيعاً وتطويعاً، ثمة من يريد استعادة سوريا بنظامها الأمني طبعاً، إلى لبنان، أو استنساخ تجربتها فيه، عبر إثارة الخوف، وتعميم مفهوم عسكريتاري يطوّع اللبنانيين كما جرى تطويع السياسيين. وهي مجدداً معركة بين الوجود والعدم، ولا يمكن للخوف فيها أن يكون قدراً.

السابق
ميريام كلينك وجاد خليفة معاً.. من جديد!
التالي
صور نادرة لأهم الزعماء والرؤساء والملوك في العالم