الاقطاعي كامل الأسعد

الاقطاعي كامل الأسعد مات ولم يحتر الورثة في تعداد ثروته، أو البحث عن أرصدته في المصارف داخلياً وخارجياً، فلم يكن هناك ما يستحق الخلاف حوله، وعائلته تعيش كأي عائلة من الطبقة المتوسطة في لبنان، رصيد أولادها الشباب هو العلم والعمل الشريف وصداقات الثانوية والجامعة والسمعة الحسنة.
الاقطاعي كامل الأسعد لبط كرسي الحكم بقدمه عندما قرر ان يواجه حافظ الأسد في لبنان.. صديقاً له بندية، يقبل ما يقتنع به، ويرفض ما يمس كرامته أو سيادة وطنه أو استقلالية مؤسساته.

اقرأ أيضاً: شهادة حقّ في الرئيس كامل الاسعد بذكرى رحيله

الاقطاعي كامل الأسعد الذي قرر مواجهة حافظ الأسد في لبنان عام 1983 مسقطاً نفسه في انتخابات مجلس النواب، ذهب إلى فرنسا ليعمل في مهنته الأولى وهي المحاماة ليعتاش منها، وفيها اتصلت به القيادة السورية عارضة عليه أن يرجع إلى لبنان ليعود إلى رئاسة مجلس النواب، فدرس شروط العودة، وعندما أبلغه عبد الحليم خدام ان عليه أن يأتي من باريس إلى دمشق ليقابل ((السيد الرئيس)) رد على أبو جمال بالقول: بل أعود إلى لبنان، ينتخبني النواب من جديد، رئيساً لمجلسهم، ثم أشكل وفداً منهم وأتوجه إلى دمشق لمقابلة السيد الرئيس.
الاقطاعي كامل الأسعد أسقط نفسه مرة ثانية بشروطه هو، بكرامته هو، بعنفوانه هو، وهي كلها من كرامة وعنفوان وسيادة واستقلال لبنان.
الاقطاعي كامل الأسعد رفض أن يشكّل أي قوة مسلحة في لبنان للانخراط في الحرب الأهلية المندلعة عام 1975 تهرب من ياسر عرفات حتى ضبطه الزعيم الفلسطيني في إحدى الشقق المفروشة في منطقة الحمرا يقطن فيها مع والدته (الحاجة فاطمة رحمها الله) عارضاً عليه أي كمية من السلاح يحتاجها لتشكيل جيش عاملي يردف المقاومة الفلسطينية، فأحال الاقطاعي كامل الأسعد الأمر إلى أحد المقربين منه، ثم ذهب إلى بلونة ليعلن منها رفضه الانخراط في الحرب المجنونة ولسان حاله يردد qui donne ordonne أي من يعطي يأمر.. وعارض منها الجبهة اللبنانية المسيحية كما عارض الاحزاب اليسارية والمنظمات الفلسطينية.

كامل الاسعد
الاقطاعي كامل الأسعد رفض عدة دعوات من حافظ الأسد وحوارييه عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي ومحمد غانم تشكيل ميليشيا مسلحة للدفاع عن الجنوب وهو كان يعلم ان المقصود كان الدخول في الحرب الأهلية ضد المنظمات الفلسطينية التي ناصبها الأسد العداء..
الاقطاعي كامل الأسعد تبنى ترشيح بشير الجميل لرئاسة الجمهورية وذهب إلى دمشق بناء على إلحاح دعوتها للقاء حافظ الأسد ليبلغه ان عليه ألا يكون شريكاً لإسرائيل في منع انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، وان على الأسد ألا يسمح بإقامة الفراغ في سدة الرئاسة، وان إسرائيل لا تريد جمهورية ودولة وسلطة في لبنان، وان ليس من مصلحة سورية حصول ما تريده إسرائيل لذا عليه أن ينتخب بشير الجميل، فإسرائيل لا تريد بشيراً لأنها لا تريد سلطة وحكماً وجمهورية في لبنان.
الاقطاعي كامل الأسعد واجه رئيس الجمهورية أمين الجميل لأنه نقض عهده بالتوقيع على اتفاقية 17 أيار/مايو 1983 وكان عليه أن يوقّع اتفاقية كان يطّلع عليها ساعة بساعة وان قراراً صدر في مجلس الوزراء برئاسته بتبنيها، وان دمشق كانت تعلم دقائق المفاوضات وبنود الاتفاقية قبل التوقيع عليها وأنها شجعت اللبنانيين على الاستمرار في المفاوضات حتى صدورها يوم 17/5/1983.
لا أحد يعرف زوج الاقطاعي كامل الأسعد الثانية، فهي انصرفت في ظله وبعد رحيله إلى تربية أبنائها وحمل مسؤولية الأسرة ليكون أبناء الاقطاعي الرئيس أوفياء لتراث أبيهم السياسي والشعبـي.
الاقطاعي كامل الأسعد كان مغروراً؟.. نعم إلى درجة ان هذا الغرور كان يمنعه من الكذب أو النفاق أو مسايرة أحد.. فهو في غروره كان مكتفياً بأنه لا يحتاج أحداً إلا الله، وانه لا يوجد على وجه هذه البسيطة من يستحق أن يكذب كامل الأسعد لأجله.. لا خوفاً منه ولا نفاقاً له، ولا حساباً لمصلحة غداً، أو تصفية لحسابات يتكابر كامل الأسعد فوقها.
لم يعرف عن الاقطاعي كامل الأسعد خفة دمه أو طرافته، ولم تصدر عنه مقولة شعبية يتداولها الناس، ولا تحدث بما يدغدغ عواطف العامة، ولا أحال مجلساً حوله إلى سوق للتباري بالمواقف بما يطربه أو يشجيه.
الاقطاعي كامل الأسعد كان مرجعاً بذاته.. هكذا بدأ وهكذا انتهى، لم ينتم لأحد لا حزباً ولا جماعة، لم يبايع أحداً لا دولة ولا نظاماً، لم يساير رئيساً، لم يخادع جمهوراً، كان سلوكه معروفاً للجميع، حتى الذين كانوا لا يقبلونه من جمهوره أو أصدقائه وهم كثر، ما ساير، ما تغير، ما تبدل.

الرئيس كامل الاسعد
الاقطاعي كامل الأسعد كان رجل مؤسسات وقانون.. وهو الذي طرد رجلاً من أنصاره جاءه يطلب توسطه لدى قاضٍ يملك ملف قضية ابنه الذي اعتدى على فتاة، فإذا بالإقطاعي يتصل بالقاضي ليطلب منه إصدار الحد الأقصى من عقوبة الاغتصاب، صارخاً في وجه الأب المصدوم الذي قصده للواسطة: لو كانت ابنتك هي المعتدى عليها، هل كنت ستطلب واسطة! وتأكد لو ان رجلاً جاء يتوسط عندي لابنه الذي اعتدى على ابنتك كان موقفي سيكون هو نفسه..
الاقطاعي كامل الأسعد، مات عاجزاً عن الدفاع عن أملاك أجداده في أراضيه وأملاك ورثها من أمه الراحلة ذات الثراء الواسع من الاراضي وراثة من أهلها الاثرياء.
رحل الاقطاعي كامل الأسعد، وأملاكه تتناقص.. يبيع بعضاً منها ليعيش مع أسرته.. ولما تعذر البيع استند إلى أصدقاء ليدفعوا فواتير عنها في عدة مناسبات، بل انه افتتح مكتباً للمحاماة – كما أوردنا – في باريس ليصرف على نفسه وهو الضليع بالقانون الفرنسي، وقد درسه طالباً للحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت.
الاقطاعي كامل الأسعد كان نداً متكافئاً في علاقته مع آل سعود في المملكة الرشيدة، وهم مثله ينتمون إلى قبيلة بني وائل.. وهو الوائلي الأبرز في جبل عامل معقل شيعة العرب عبر الزمان.
كامل الأسعد الاقطاعي كان يسبح في بحر واسع عميق بين البشر، وكان إلى جانبه هامات جبال من البيوتات السياسية حتى التي ناصبته أو ناصبها الخصومة السياسية، العائلية، الزعامية المتوارثة فظل آل الأسعد كباراً وظل كذلك آل عسيران وآل الخليل وآل الزين، ينظر إليهم كما ينظرون إليه بكل تقدير واحترام وحفظ كرامات، كان كل منهم مستعداً لإسقاط الآخر في الانتخابات النيابية والبلدية وبين المخاتير والاندية، ومنافسته في استقطاب رجال الدين والوجهاء والجيل الجديد.. لكن الاحترام ظل منصوباً في ما بينهم كخط أحمر لا يسمح أبناء البيوتات الكريمة لأنفسهم بأن يتجاوزوه.. من دون أن يلغي هذا بروز ظلم هنا أو حنث بيمين هنا، واستخدام أصحاب القبضات القوية والعصا الغليظة لتوكيد زعامة هذا أو كلمة ذاك على زعامة هذا وكلمة ذاك..
وبرز في حضور هذه الزعامات هامات مستقلة كالسيد محمد صفي الدين، وابن بنت جبيل المثقف علي بزي والطبيب الانساني ابن الطيري ابراهيم شعيتو، وابن النبطية محمد الفضل وابن السيد عبد الحسين شرف الدين أبي محمد جعفر شرف الدين، ومهندس حمل اسمه السيد جعفر أيضاً..
الاقطاعي كامل الأسعد كان كبيراً.. لم يأكل الحقد قلبه يوماً، لم يصب أصدقاء له بالإفلاس لأنهم تخلوا عنه، لم يهدد أحداً في لقمة عيشه، كان كبيراً فكان يواجه خصمه بالسياسة، وما صغر يوماً كي ينتقم من صحافي انتقده، أو كاتب اختلف معه، أو سياسي عارضه، ولد كبيراً وعاش كبيراً وكذلك غادر.

السابق
«السلسلة» بلا تمويل… فهل يردّها رئيس الجمهورية؟
التالي
موظفو «المستقبل» الأوفياء: بين حقّهم القانوني وظلم المدراء وجشعهم