كفتارو وبطّة الأسد

قبل أيام، أثارت ضجة افتعلتها وسائل إعلام سورية معارضة، فضولي، ودفعتني لمتابعة حوار مطول أجرته السيدة أسماء كفتارو، مع قناة الميادين، تمهيداً لعودتها المرتقبة إلى “حضن الوطن”. وأنا أتابع الحوار، داعبت ذاكرتي نكتة قديمة تعود لنهاية الثمانينات.

ففي تلك الحقبة، كانت النكات السريّة، المتداولة في أوساط محدودة من الأقارب والأصدقاء، وسيلة رئيسية من وسائل تفريغ حالة الازدراء التي كان يشعر بها معظم السوريين، حيال الحالة العامة التي كانت تعيشها بلادهم. وربما من الجدير إخضاع تلك النكات لدراسة أكاديمية، بوصفها تعبيراً عن وعي عام جمعي، يوضح نظرة غالبية السوريين تجاه السلطة ورموزها.

اقرأ أيضاً: نريد وطناً كـ«بلاد الكفّار»

تروي إحدى تلك النكات أن مسابقة لاصطياد البط تم الإعداد لها، بين حافظ الأسد وعدد من جنرالات جيشه وقادة حزبه (البعث)، بحضور مفتي الجمهورية، حينها، أحمد كفتارو. وقد تمكن جميع المتسابقين من إصابة البط بالبندقية، وعندما حان دور حافظ، فشل الأخير في اصطياد البطة التي طارت على إرتفاع منخفض، فتدخل كفتارو مباشرة قائلاً: “واللي نبّى النبي ميتة وهي طايرة”.

تعكس تلك النكتة حالة الازدراء المزدوج التي كان يشعر بها السوريون يومها، حيال طرفين، هما، حافظ الأسد وسلطته، ورجال الدين المقربين منه. فالأسد عجز عن اصطياد بطة، مع الإشارة إلى أن البط في الوعي السوري طائر مستأنس لا يطير، رغم أن في الواقع، معظم فصائل البط تطير وتهاجر أيضاً، لكن ربما يرتبط ذلك الوعي ببعض تجارب تربية البط في المداجن. ووفق هذا الفهم، كان الأسد عاجزاً عن اصطياد طائرٍ يطير بصعوبة على ارتفاعات منخفضة، خلافاً لمعظم جنرالات جيشه ورجالاته، الذين أفلحوا في ذلك. أي أن السوريين كانوا ينظرون بنظرة ازدراء لشخص الأسد، رغم كل الهيبة التي كانت تفرضها أذرعه الأمنية والإعلام الموالي، لشخصه.

أما الجانب الآخر لذلك الازدراء، فكان تجاه رجال الدين المقربين من السلطة، والممالئين لها، الذين هم على استعداد، حسب ما توحي النكتة المروية، لأن يحرفوا الدين عن مساره المُفترض، إرضاء لتلك السلطة.

هكذا كانت النظرة الغالبة في الشارع السوري، حيال أحمد كفتارو، وتياره الديني العريض، الذي لقي كل دعم وتشجيع من سلطة النظام في عهد الأسد الأب. فهو تيار صوفي، قابل للاستئناس من جانب نظام الأسد. حاله في ذلك كحال البط. وإن حلق، فهو لا يرتفع كثيراً، حسب الفكرة المتداولة عن البط في الوعي الجمعي.

ويبدو أن تلك النكتة كانت توصيفاً شعبياً ذكياً لذلك التيار الديني، بحيث أنه انطبق بجدارة على حفيدة كفتارو، فهي حلقت وافترقت عن نظام الأسد، لكنها لم تستطع التحليق بعيداً، وسرعان ما عادت إلى موقعها الذي اعتادته.

لم يكن حوار السيدة أسماء كفتارو، يحمل أي بصمة خاصة بها، فهي ابنة تيار “كفتارو” الديني. ابنة ذلك التيار الذي لا يسمي الأشياء بمسمياتها، ويدور حول الأسباب، فيتجاهلها، ليقفز مباشرة إلى النتائج، فيحاكمها. فالسيدة أسماء كفتارو، أرادت محاكمة الخطاب الديني الذي أوصلنا إلى حالة التطرف التي تسود جانباً من المعارضة. لكن حينما ناقشت الأسباب، وانزلقت إلى إشارة عابرة لحالة التضييق التي تعرضت لها في فترة من الفترات، تهربت من تسمية الطرف الذي ضيّق عليها، ومنعها، وأمثالها، من النشاط في إطار، “تجديد الخطاب الديني”. لم تجرؤ حفيدة كفتارو، على تسمية الجهة التي منعتها. كما لم يجرؤ كفتارو على الإقرار بأن البطة التي حاول حافظ الأسد إطلاق الرصاص عليها، ظلت حيّة، حسب النكتة المروية. تيار يخشى تسمية الأشياء بمسمياتها، ورغم ذلك، يرفع شعار، تجديد الخطاب الديني.

أما الأخطر فيكمن في تكرار سقطات ذلك التيار، حينما يتجاهل المسببات الرئيسية للمشكلات التي يعيشها الخطاب الديني، وما يعقبها من حالات تطرف دينية لاحقة له. فحينما ننسى أن تطرف سيد قطب كان نتاج سجون جمال عبد الناصر، وننسى كذلك أن تطرف فريق من أخوان سوريا في الثمانينات، كان نتاج سجون الأسد الأب، وننسى أخيراً، أن قيادات مجموعات تُوصف اليوم بـ “المتطرفة” في أوساط المعارضة، هي نتاج سجون الأسد الابن. حينما ننسى كل ذلك، ونتجاهل تماماً تأثير الاستبداد السياسي على الخطاب الديني، وتداعياته.. تكون النتيجة كما في الثمانينات. التأسيس لمستقبل واعد بتطرف جديد، بعد إطفاء جذوة تطرف سابق.

الاستبداد، الوصفة الأساسية لخلق التطرف. ففي الأربعينات والخمسينات، يوم كانت الحريات السياسية تسود سوريا، بنسب مقبولة، كان الإسلام السياسي يحتل المرتبة الثالثة في أي انتخابات محلية أو برلمانية، وكان الأخوان المسلمون يستعينون بشخصيات مسيحية في قوائمهم، كي يحصلوا على قبول الشارع.

اليوم، تعود أسماء كفتارو إلى “حضن الوطن”، وهي لا ترى غضاضة في ذلك، حسبما ادعت أمام الكاميرا. لكن لا يوجد لدي شك بأنها، في حديثها مع نفسها، في لحظات صفائها الذهني، تعلم جلياً أن “حضن الوطن”، ليس تعبيراً إعلامياً تستخدمه المعارضة سلباً، لأهداف سياسية فقط، بل هو تعبير دقيق عن حالة استلاب الوطن لصالح عائلة وثلة من المقربين منها. حالة استلاب لا تطال الشأن السياسي العام، وموارد البلاد الاقتصادية، فقط. بل تطال أيضاً ثقافة البلاد وقيم أهلها، بما فيه الدين، الذي يشكل أداةً لتحقيق الأهداف في نظر تلك الثلّة الحاكمة. وتشكل تيارات العاملين في الدين، القابلة للاستئناس، البط المحبب لتلك الثلّة.

السابق
الحج والسعودية… قطر وعماد مغنية!
التالي
يزبك وهبي: إن لم أكن من رأيك السياسي فلستُ عميلا ً